الجمعة، 23 سبتمبر 2016

الاحتلال العثماني لمصر
أسباب ونتائج
(1)
                                                        عماد أبو غازي

 أثار الانتصار العثماني على المماليك أذهان المعاصرين له، فحاولوا تفسيره وفهم أسبابه؛ وقد وقفت معظم التفسيرات التي انتهوا إليها عند حدود اعتبار هذا الانتصار قضاء من الله مقدرًا، أو انتقامًا مسلطًا على الجراكسة جزاء لظلمهم وجورهم فى حق الرعية، بل أغرق البعض فى التفسيرات الغيبية بإرجاع هذا النصر إلى وعد إلهي قديم!


 ومثل هذه الأفكار واضحة تمامًا على صفحات ابن إياس وابن زنبل والإشبيلي وابن العماد الحنبلي، كما ردد شعراء العصر المعاني نفسها.
 وفي مواضع أخرى من تاريخه، يرجع ابن إياس هزيمة المماليك أمام العثمانيين إلى الانتقام الإلهي منهم بسبب ما يرتكبونه من مظالم؛ فيقول: "ولم يقع قط لأحد من سلاطين مصر أنه وقع له مثل هذه الكاينة ومات تحت صنجقة في يوم الحرب وأنكسر على هذا الوجه أبدا... وكان السلطان والأمراء ما منهم أحد ينظر في مصالح المسلمين بعين العدل والإنصاف، فردت عليهم أعمالهم ونياتهم، وسلط الله تعالى عليهم ابن عثمان حتى جرى لهم ما جرى".
 وهذا نفس ما لوح به الشيخ أبو السعود الجارحي للأمراء لينهاهم عن ظلم الرعية قائلًا: "إن الله تعالى ما كسركم وسلط عليكم ابن عثمان إلا بدعاء الخلق عليكم في البر والبحر"، كما أكد الإشبيلي المعنى نفسه في تأريخه لغزو سليم للشام ومصر.
 وقد ظلت أصداء هذه الفكرة تتردد فى كتابات المؤرخين والرحالة فى العصر العثماني، فنجدها عند ابن العماد الحنبلي والنابلسي، كذلك فإن بعض الرحالة الأوروبيين أرجعوا هذه الهزيمة إلى انتقام السماء من الغوري وطومان باي لإضطهادهما للمسيحيين.
 كما اعتبر حسين أفندى الروزنامجى فى إجاباته على ستيف مدير المالية فى الحملة الفرنسية بعد ثلاثة قرون من هزيمة المماليك؛ إن سبب هزيمة الغورى "إن الله سبحانه وتعالى أذاقهم الذل والخوف، وأزالهم من كثرة ظلمهم بالعباد".
 ومن تفسيرات ابن إياس لانتصار العثمانيين؛ قوله بأن هذا النصر إنما هو مصداق لوعد إلهي، وهي مقولة رددها فقهاء العثمانيين ومؤرخهم إبان الغزو العثماني لمصر.
 وإذ تركنا هذا النوع من التفسيرات الغيبية، فسوف نجد أن مؤرخي العصرين المملوكي والعثماني قد أشاروا في عديد من المواضع إلى الأسباب المباشرة للهزيمة في معركتي مرج دابق والريدانية وما تلاهما من معارك، فأرجعوا هذه الهزيمة إلى الخيانة المستشرية في صفوف المماليك، وإلى تفوق العثمانيين في استخدام الأسلحة النارية والبارود،وقد أبرزت بعض الدراسات الحديثة هذين العنصرين باعتبارهما السسببين الرئيسين لهزيمة المماليك أمام العثمانيين.
 لكن هل يمكن إرجاع الانتصار العثمانى إلى مجرد خيانة خاير بك وجان بردى الغزالي فحسب؟
 بالرغم من فداحة نتائج هذه الخيانة؛ حيث أودت خيانة الأول بمعظم الجيش المملوكي في مرج دابق، وشلت خيانة الثانى مدفعية المصريين فى الريدانية، وتركتها غنيمة سهلة في أيدي العثمانيين، بالرغم من هذه الخيانة؛ فإنها قد تصلح كتفسير للهزيمة في معركة أو كسبب مباشر لها، ولكنها لا تفسر سقوط دولة وزوالها من الوجود، والشيئ نفسه يمكن أن يقال عن تفوق الأسلحة النارية العثمانية.
 أما الدلالة الأساسية لموضوعي: الخيانة وقصور السلاح الناري للمماليك؛ فتكمن فيما يؤكدانه من تفسخ الدولة المملوكية وانهيارها؛ فالخيانة التى وقعت وأدت إلى انتصار العثمانيين لم تكن مجرد مصادفة، لكن وضع الانهيار الذي كان يعيش فيه المجتمع المصري في أواخر العصر المملوكي كان يحتم انحياز عناصر من الطبقة العليا المنهارة إلى جانب الغازي الجديد عندما شعروا بالنهاية المحتومة، خاصة وأن أصول هذه العناصر أجنبية وليست مصرية، وتبديل الولاء بهذه السهولة نابع من طبيعة تكوين المماليك كطبقة حاكمة وافدة مكونة من أرقاء سابقين تم عتقهم، فلم تكن الخيانة قاصرة على ما فعله خاير بك وجان بردى الغزالي، لكنها تمتد إلى استسلام أعداد كبيرة من كبار أمراء المماليك للعثمانيين فى الوقت الذي كان طومان باي لا يزال يقاتل فيه العثمانيين، بل إن أحد هؤلاء المستسلمين كان دوادار السلطان طومان باي نفسه عندما كان أميرًا، وهو يشبك الدوادار، وقد كان من المقربين إلى طومان باي لدرجة أنه جعله أحد نظار وقفه!
 وقد تضمنت الوثائق العثمانية قوائم بأمراء المماليك الذين استسلموا للعثمانيين، كما أشار ابن إياس إلى هذه الظاهرة في تاريخه.
 ومما يرقى إلى مستوى الخيانة، ذلك التقاعس عن القتال الذى أستشرى في صفوف الجيش المملوكي، على الرغم من أن المبرر الوحيد لامتياز المماليك في المجتمع المصري في هذه الفترة راجع إلى دورهم القتالي!
 لقد كان الإسراع بتبديل الولاء واضحًا بين المماليك؛ حتى في بعض المظاهر الشكلية البسيطة مثل الزي؛ فسرعان ما غير المماليك زيهم وارتدوا أزياء العثمانيين؛ وقد أنشد ابن إياس فى هذا المعنى البيتين التاليين:
          امشى مع الدهر ما أمكنك يا غلطان           واخلع ثياب المواكب واتبع السلطان
          فى لبس سقمان أو طرطور أو قفطان         وكن مع القوم فى الملبوس والأوطان

  أما التفوق العثماني في استخدام الأسلحة النارية فلم يكن ناجمًا عن تخلف المماليك في متابعة تطورات العصر، بل إن المماليك قد عرفوا بالفعل استخدام البارود والأسلحة النارية منذ فترة سابقة على استخدام العثمانيين لهذه الأسلحة، والأدلة التاريخية والأثرية على ذلك عديدة، ولقد أستخدم المماليك فى رنوكهم رسومًا تدل على استخدامهم للأسلحة النارية مثل ذلك الرنك المعروف بقرون البارود؛ والذى أثار خلافًا طويلًا بين الباحثين فى تفسيره؛ إلى أن استقر الرأى على اعتباره رسمًا يشير إلى الوعاء الذى يحفظ فيه المقاتل البارود، بل إن هناك من يرى أن الأسلحة النارية استخدمت لأول مرة فى معركة المنصورة سنة 647 هـ (1249م) وإن استخدام الأسلحة النارية تطور فيما بعد في العصر المملوكي، على الأقل منذ عهد السلطان قايتباي.
 ومع ذلك لم يلجأ المماليك إلى استخدام الأسلحة النارية بشكل واسع على الرغم من محاولات بعض سلاطينهم ـ خاصة السلطان قانصوه الغوري ـ لإدخالها، لقد كان العائق الأساسي الذي وقف في وجه استخدام المماليك للبارود والأسلحة النارية لصيق الصلة بطبيعة النظام المملوكي ثقافيًا واجتماعيًا وعسكريًا، وليس بمستوى التطور التكنولوجي في المجتمع؛ فإذا كانت تقاليد الفروسية المحافظة لجيش المماليك قد حالت دون استخدامهم لمدفعية الميدان أو البنادق بشكل واسع في معركتهم مع العثمانيين، فإن الأساس في هذا الموقف ارتباط نظام الفروسية المملوكي بالإقطاع الحربي في ذلك العصر، بصورة أصبح معها استخدام البارود والأسلحة النارية بشكل واسع يهدد مصالح القوى الطبقية المتصدرة للسلم الاجتماعي، إذ أن هذه القوى المتمثلة في أمراء المماليك أصبحت جامدة وغير قابلة لتطوير نفسها، واستخدام الأسلحة النارية يقوض نفوذ المماليك الاجتماعى ويهدم أسس سيادتهم وسيطرتهم؛ ويفقدهم مبرر وجودهم كطبقة متصدرة للهرم الاجتماعي في البلاد.
 إن مشكلة البارود والأسلحة النارية في العصر المملوكي تقدم نموذجًا للتقاليد عندما تصبح عائقًا أمام تطور المجتمع، وهي تؤكد في نفس الوقت انتهاء الدور التاريخي لهذه الطبقة بصورتها التي كانت قائمة، ووصولها إلى لحظة العجز عن قيادة المجتمع المصري.
 ومن الجدير بالملاحظة أن الاحتلال العثماني لمصر لم يحل هذه الإشكالية؛ فالعثمانيون لم يقضوا على طبقة المماليك؛ وإن كان الاحتلال قد أدى إلى تراجع مكانتهم، كما أن العثمانيين سمحوا للمماليك بإعادة تدعيم صفوفهم واستعانوا بهم في حكم البلاد، فلم يؤد الحكم العثماني إلى نقل مصر إلى العصر الحديث، بل استمرت عقلية العصور الوسيطة هي المسيطرة، وعلى الرغم من التوسع النسبي الذي حدث في استخدام المماليك للأسلحة النارية، فإن مفاهيمهم لنظام الفروسية لم تتبدل كثيرًا؛ إذ بعد قرابة ثلاثة قرون من هزيمتهم أمام العثمانيين، ومع مقدم الحملة الفرنسية إلى مصر (1213هـ/ 1798م)؛ تقابلنا عند الجبرتي عبارات بالغة الدلالة على مدى جمود العقلية العسكرية للمماليك؛ عندما تصوروا أن بإمكانهم أن يحطموا الفرنسيين بسنابك خيولهم، وأن يحصدوا رءوسهم ببوارق سيوفهم، فجاءت الهزيمة مرة أخرى بفضل تفوق المدفعية والأسلحة النارية للعدو!
 لقد نشأ المماليك كمجموعات من الرقيق المقاتل المجلوب من خارج البلاد، وذلك استجابة لتحدي الخطر الصليبي في المشرق، وامتدادًا للنهج الذي سار عليه الخلفاء العباسيون منذ العصر العباسي الثاني، ثم ترسخ وجود هذه المجموعات المقاتلة مع الغزو المغولي للمشرق الإسلامي، فتحول المماليك إلى سادة للمجتمع، وورثوا دولة أساتذتهم الأيوبيين بنظمها ورسومها، وكانت الملامح الإقطاعية قد اتضحت في المجتمع الشرقي الإسلامي كله في مواجهة الأخطار الخارجية الداهمة التي أحاطت بالعالم الإسلامي أنذاك، ومع سيطرة المماليك كانت لدولتهم  منذ النشأة الأولى طبيعة عسكرية وإقطاعية؛ فارتبط نفوذهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالدور العسكري الذي كانوا يقومون به، لقد شيدوا دولة إقطاعية عسكرية نجحت في أداء مهمة تاريخية محددة؛ ألا وهي التصدي للأخطار الخارجية التي كانت المبرر التاريخي لنشأة دولتهم، ومن العجيب أن تلك الدولة الإقطاعية التي تسودها طبقة من الأرقاء المقاتلين نجحت في تصدر المجتمع كله، وقيادته سياسيًا واجتماعيًا والسيطرة على ثروته الاقتصادية.
 ولما كان النظام العسكري المملوكي يقوم بشكل أساسي على قواعد الفروسية التقليدية، ولما كان إدخال السلاح الناري بشكل واسع إلى صفوف الجيش لابد وأن يؤدي إلى دفع أعداد كبيرة من أفراد الشعب إلى صفوف المقاتلين في الجيش؛ الأمر الذي كان سيترتب عليه حرمان المماليك من تميزهم الأساسى ومن مبرر سيادتهم الاجتماعية الذي يتمثل في إنفرادهم بأنهم الطبقة المقاتلة؛ من هنا، فقد وقف المماليك ضد محاولات إدخال السلاح الناري إلى المنظومة القتالية، واعتبروه خروجًا على قواعد الفروسية التي سار عليها المسلمون الأوائل، وعلى هذا الأساس فقد تكرر رفضهم لكل المحاولات التي بدأها سلاطين الدولة خلال الربع الأول من القرن العاشر الهجري في مجال إدخال السلاح الناري إلى الجيش.
حيث كان المماليك قد أحتكروا القتال والأعمال العسكرية، ولم يسمحوا للمصريين بالانخراط فى صفوف الجيش حتى صار الجيش المملوكى لا يضم أحدًا من خارج طبقة المماليك سوى بعض أبنائهم (أولاد الناس) وقليلًا من الأعراب، وهؤلاء كانوا يندرجون في الفرقة التي تعرف بأجناد الحلقة، بل والأدهى من ذلك أن حمل السلاح وركوب الخيل كانا محرمين على غير المماليك، ولم يستثن من ذلك سوى الأعراب؛ فقد كانوا يعتبرون ـ بشكل عام ـ من الخارجين على السلطة فى معظم فترات العصر المملوكي.
 وبرغم أن الدولتين المملوكية والعثمانية اتفقتا فى كثير من الأسس التى قامتا عليها، فإن نظام الرق العسكرى فى الدولة العثمانية وعدم ارتباطه بالإقطاع الحربى؛ سمح بتطوير السلاح النارى فى الجيش  العثماني دون الاصطدام بهذه المشاكل؛ فقد تشكل الجيش العثمانى من الفرسان الأحرار المستفيدين بانتظام من الإقطاع الحربى، إلى جانب قطاع واسع من المقاتلين الأرقاء الذين تشكلت منهم فرق المشاة ( الإنكشارية) التى كانت تتكون أساسًا من الرماة بالسلاح النارى، ولم يكن لهؤلاء حقوق إقطاعية؛ بل كانوا مجرد رقيق للسلطان مصدرهم ضريبة الغلمان التي تفرض على المناطق المسيحية التي احتلتها الدولة العثمانية، فكانت الدولة تأخذ نسبة من أبناء هذه المناطق كل عام كرقيق للسلطان، وتحولهم إلى الإسلام، وتوظفهم في العمل العسكري أو الإداري.
 ومما تجدر الإشارة إليه هنا؛ أنه عندما جند "محمد علي" المصريين في الجيش وترقوا إلى رتب الضباط، قامت بعد عشرات قليلة من السنين أول ثورة شعبية يشارك فيها الجيش بدور أساسي، تلك هي الثورة العرابية التي سعت إلى تحقيق قدر عال من المشاركة للمصريين في إدارة البلاد.

 ومن هنا يمكن اعتبار الخيانة وقصور المماليك فى استخدام الأسلحة النارية مؤشرين على مدى تردي الأوضاع في مصر المملوكية؛ قبل أن يكونا سببين للهزيمة أمام العثمانيين؛ فقد كانت عوامل الانهيار مستشرية فى كيان الدولة، إذ كانت مصر المملوكية بحق دولة مهزومة قبل أن تبدأ المعركة مع العثمانيين، وعلى الرغم من خطورة هزيمة المماليك أمام العثمانيين وأهميتها، وبالرغم من أن هذه الهزيمة حسمت مصير دولتهم فى مصر والشام وأزالتها من الوجود، فإن هذه الهزيمة كانت "القشة التي قصمت ظهر البعير" كما يقال.

هناك تعليق واحد:

  1. تحليل تاريخى دقيق يقدم تفسيرا علميا لهزيمة دولة المماليك امام الدولة العثمانية الناشئة ويكاد بشكل موضوعى يضع قانون عام لظاهرة تتكرر فى التاريخ حين تنخر عوامل التفسخ الداخلية فى مجتمع لايرى عيوبه ولا مواضع الخلل فيه فينهار سريعا عند اصطدامه بعدو خارجى فتكون العوامل الداخلية لانهياره اعمق تأثيرا من اى اسباب خارجية

    ردحذف

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...