الجمعة، 16 سبتمبر 2016

500 سنة على الاحتلال العثماني لمصر

(3)

هل أدى الحكم العثماني إلى تقدم المجتمع المصري؟

عماد أبو غازي

  من الأسئلة التي تثير الجدل حول الحقبة العثمانية في تاريخ مصر، هل أدت تلك الحقبة في تاريخنا إلى تطور المجتمع المصري أم إلى تدهوره؟
 لقد كانت عوامل الانهيار تنخر في جسد دولة المماليك في مصر والشام منذ سنوات، حيث كانت مصر – دولةً ونظامًا- في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الهجريين (أي ما يوازى القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين) تعيش مرحلة أفول؛ ففي الأفق كانت تتجمع ملامح النهاية: نهاية عصر، وبداية عصر جديد، ولم تكن دولة المماليك الجراكسة لتتحمل البقاء كثيرًا، ولم يكن بديل داخلي في مصر قد اختمر بعد بالقدر الكافي؛ على الرغم من ظهور بوادر أولية لمثل هذا البديل، ومن هنا جاءت النهاية المحتومة على يدي طرف خارجي جديد، تلك النهاية التي قطعت الطريق على إرهاصات التطور الداخلي للمجتمع.
ولكن يبقى التساؤل: هل نجح الاحتلال العثماني لمصر في إخراجها من أزمتها التاريخية؟
وهل أحدث تغييرًا جوهريًا في أوضاع مصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟
 وهل تم الانتقال المتعثر من العصور الوسيطة إلى العصر الحديث على أيدي العثمانيين؟
حقًا أدى "السلام العثماني" الذي فرض على المنطقة إلى نوع من الاستقرار والوحدة؛ أزالا آثار فترة تحلل دولة المماليك وما صحبها من اضطراب وفوضى؛ فنشطت التجارة الداخلية، وانتعشت الزراعة، وعادت الزيادة في أعداد السكان مرة أخرى، وأصبحت مصر والشام توفران ثلث مجموع واردات الخزينة العثمانية، وتوقفت سلسلة الأوبئة والمجاعات؛ لكن هذا الازدهار لم يستمر طويلا، فقبل نهاية القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، عادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل الغزو من تأزم واضطراب، حيث أن انتماء الدولة العثمانية إلى العصور الوسيطة – بنظامها الاجتماعي والاقتصادي، وبفكرها وحضارتها- كان يضع حدودًا لهذا الازدهار المؤقت، وبالتالي لم يصحب هذا الازدهار أي تطوير جوهري في العلاقات السائدة في الزراعة، لا على مستوى أدوات إنتاج في الريف، ولا على مستوى العلاقات الإنتاجية السائدة في المجتمع.
 وإذا كانت أراضى مصر لم توزع في بداية الحكم العثماني إلى تيمارات وزعامات، (التيمار: الإقطاع الصغير الذي يمنح للمقاتلين، أما الزعامة فهي الإقطاعات الكبيرة) مثل أراضي الدولة في الرومللي والأناضول، فإنها خضعت لنظام المقاطعات المملوكة للدولة التي يديرها موظفون تابعون لها، وسرعان ما تبلور نظام الالتزام كشكل آخر من أشكال الإقطاع غير الصريح، فحل محل نظام المقاطعات بدءًا من عام 1069هـ/ 1658م؛ وإذا كان نظام الالتزام يختلف في كثير من ملامحه عن الإقطاع المملوكي، فإن جوهر العلاقات داخله لا يختلف كثيرًا عنه في النظام الإقطاعي.
 كذلك فإن الانتعاش التجاري الذي ساد تجارة المرور عبر الدولة العثمانية؛ لم ينعكس على نشاط الصناعات المحلية أو على التجارة الداخلية بالقدر نفسه، لذا؛ فسرعان ما عادت الأزمة المالية إلى الظهور مرة أخرى، واتجهت الدولة إلى إتباع الأساليب نفسها التي اتبعها المماليك في حلها، من تخفيض لقيمة العملة ولنسبة المعدن الثمين فيها، وفرض لمزيد من الضرائب، وبالطبع كان لمثل هذه السياسات الآثار السلبية نفسها على الوضع الاقتصادي في مجمل الإمبراطورية العثمانية مثلما كان الحال في زمن المماليك.
 وظل التكوين الاجتماعي السابق على العصر العثماني في مصر سائدًا، فقد سمح العثمانيون للمماليك بالبقاء، وسمحوا لهم بإتباع طرق التدريب نفسها، وتجديد صفوفهم من المصادر نفسها، بل واستعانوا بهم في حكم البلاد؛ فعاد للمماليك نفوذهم وأصبحوا القوة السياسية الأولى في البلاد، حتى أصبح الباشا العثماني مجرد ظل للسلطان العثماني لا يملك في معظم الأحوال الكثير من أمر البلاد.
 هذا وقد استجدت بعض الأمور على البلاد بما يشي بانقلاب الأوضاع رأسًا على عقب.
 أول هذه الأمور: إن طبقة المماليك التي كانت في السابق تجدد نفسها من أجل مواجهة الأخطار الخارجية، أصبحت تجدد نفسها لمساعدة حكم خارجي في السيطرة على البلاد واستنزاف ثروتها.
 وثانيها: إن جزءًا كبيرًا من الفائض الاقتصادي أصبح ينزح إلى الخارج، مما زاد من ضعف اقتصاد مصر، وإذا كان العصر المملوكي قد عرف بسفه في الإنفاق، فإن هذا الإنفاق كان في غالبه يعاد تدويره داخل مصر، أي يعاد ضخه في شريان الاقتصاد المصري، فتطورت الحرف والصنائع والفنون، أما في ظل الحكم العثماني ـ مثله مثل أي عصر تعرضت فيه مصر لسيطرة خارجية ـ فإن جزءًا كبيرًا من الفائض الاقتصادي كان يوجه إلى مركز الدولة وينفق خارج مصر، أو ينفق كأجور للموظفين ورجال الحامية العثمانية.
 وثالثها: تراجع فى الصناعات المحلية القليلة التي كانت قد بدأت في أواخر عصر المماليك، ومن ناحية أخرى توقفت تماما كل محاولات تطوير الصناعات الحربية المحلية، التي كانت قد بدأت في الفترة الممتدة من عصر قايتباى إلى عصر طومانباي، فبعد ثلاثة قرون من هزيمة المماليك في مرج دابق بفعل تفوق السلاح الناري العثماني يتكرر المشهد مرة أخرى مع حملة بونابرت.
 رابعها: إنهاك القوى المنتجة في الريف، وظهور التمييز بين الطبقات الاجتماعية، وبين الريف والمدينة على أساس نوع الطعام لا كمه فقط، بإدخال الذرة كغذاء أساسي للفلاح بعد أن كان القمح هو الغذاء حتى نهاية عصر المماليك، وذلك حتى تستطيع الدولة العثمانية الاستيلاء على القمح المصري لاستهلاك جزء منه واستخدام جزء آخر في فرض نفوذها السياسي والديني على الحجاز، وكان لهذا التغيير أثاره الوخيمة على الصحة العامة للفلاح المصري، المنتج الأساسي في المجتمع، فالقيمة الغذائية للخبز المصنوع من الذرة أقل من القيمة الغذائية لخبز القمح، وكثير من أمراض سوء التغذية التي أصابت الفلاحين المصريين نتجت عن الانتقال من نظام غذائي يعتمد على القمح عاش في ظله المصريون منذ عرفوا الزراعة قبل آلاف السنين إلى نظام يعتمد على الذرة بدأ مع الاحتلال العثماني، وقد استمرت هذه الآثار لسنوات قريبة.
 ومما فاقم من المشاكل الاقتصادية؛ الاضطرابات السياسية التي شهدتها البلاد بعد سنوات قليلة من بداية الحكم العثماني، فقد تواكبت هذه الأمور مع تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية في الدولة العثمانية، ودخول هذه الدولة عصر انهيار طويل بدأ منذ النصف الثاني من القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) واستمر حتى زوال الدولة العثمانية.
 صاحب ذلك كله تراجع في الإنتاج الفكري في مختلف مجالات المعرفة، وفى هذا الوقت كان الغرب يتطور، في حين تجمد الشرق تحت الحكم العثماني، وذلك في لحظة افتراق الطرق في العالم بين العصور الوسيطة والعصر الحديث.

 وعندما عرفت مصر محاولات الاستقلال عن الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كان أوان البدء في التحديث قد فات، فخطورة الاحتلال العثماني تكمن في أنه وقع في لحظة كان "نظام عالمي جديد" يتشكل فيها، فحال ذلك الاحتلال دون انخرطنا في ذلك النظام وأعاق مساهمتنا في صياغته، وعندما أفقنا من الصدمة حاولنا أن نستعيد دورنا، كان الزمن قد سبقنا، ومقدرات الأمور قد خرجت من أيدينا، فعندما عبرت دول الغرب والشمال من عصر الثورة الزراعية إلى عصر الثورة الصناعية وحققت فيه إنجازها وقفت عائقًا في طريق كل محاولات التطور المستقل، خاصة في منطقة ذات شأن وخطر ـ بمفاهيم ذلك العصر ومقاييسه ـ مثل منطقة المشرق العربي، إن خضوع مصر مرة أخرى لسيطرة دولة "قوية" تنتمي إلى مجتمعات العصور الوسيطة بقيمها ومبادئها وأفكارها بعد أن كانت دولة المماليك في طريقها للانهيار لينعتق المجتمع المصري والشامي من سطوتها ومن سطوة فكر العصور الوسطى وقيمها كذلك، أطال عمر تلك العصور قرونًا أخرى في منطقتنا؛ فبقيت مصر لثلاثة قرون أخرى ترزح في ظلمات العصور الوسيطة؛ حتى بدأت تجربتها في التحديث المنقوص مع عصر محمد على.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...