الاحتفال برأس السنة المصرية (2)
المقال الثاني
مخربشات
عيد المواطَنة المصرية
عماد أبو غازي
منذ عامين
تقريبا كتبت في هذا المكان تحت عنوان "النيروز الذي نسيناه"، محاولا
التذكير بعيد من أهم الأعياد المصرية التي توارت في طي النسيان، عيد رأس السنة
المصرية، الذي ظل المصريون يحتفلون به باعتباره عيدا من أبهج أعيدهم إلى أن جاء
الاحتلال العثماني لمصر سنة 1517 فتوارى هذا العيد، ولم يظهر مرة أخرى إلا عندما
قامت جمعية التوفيق بإحياء الاحتفال سنة 1893، لكنه أصبح احتفالا قاصرا على إلقاء
الخطب والكلمات، وغلب عليه الطابع المصري المسيحي، وغاب عنه البعد القومي المصري،
بل حتى غالبية المسيحيين المصريين لم يعودوا مهتمين بهذا الاحتفال فالمناسبة ليست
دينية، وقد دعوت يومها إلى إحياء الاحتفال باعتباره تراثا ثقافيا مصريا كاد أن
يندثر، وباعتبار أن السنة المصرية التي تبدأ بشهر توت هي الأساس الذي تقوم عليه
الزراعة المصرية إلى الآن.
والنيروز اليوم الأول من شهر توت أول شهور السنة
المصرية القديمة، ويوافق 11 سبتمبر في السنوات البسيطة و12 سبتمبر في السنوات
الكبيسة، وأصل هذا التقويم يرجع إلى عصر سحيق من عصور الحضارة المصرية القديمة،
فقد ابتكر المصريون القدماء تقويمهم عام
4241 قبل الميلاد، وارتبط هذا التقويم بفيضان النيل مصدر الحياة في هذا
البلد، فقد لاحظ المصريون أن هناك ارتباط بين وصول الفيضان إلى ذروته عند مدينة
منف وشروق نجم ساطع في السماء قبل شروق الشمس وأطلق المصريون على هذا النجم اسم
سوبديت، ويطلق العرب عليه اسم الشعرى اليمانية، واتخذ المصريون من هذا اليوم بداية
لسنتهم النجمية التي يبلغ عدد أيامها 365 يوما مثل السنة الشمسية، وقسموا سنتهم
إلى اثني عشر شهرا كل منها 30 يوما، وأضافوا لها الشهر الصغير نسيء من خمسة أيام،
وعندما تبين للكهنة المصريين بعد ذلك أن السنة تتكون في الحقيقة من 365 يوما وربع
يوم، أضافوا يوما سادسا لشهر نسيء مرة كل أربع سنوات.
وعندما أراد يوليوس قيصر إصلاح التقويم الروماني
وتحويله من تقويم قمري إلى تقويم شمسي استعان بالكهنة المصريين في الإسكندرية،
وكان يوم أول توت وقتها يقابل التاسع والعشرين من الشهر السادس الذي أصبح اسمه
فيما بعد أغسطس نسبة إلى الإمبراطور الروماني أوغسطس أوكتافيوس، أي في نفس الوقت
الذي ما زلنا نحتفل فيه بعيد وفاء النيل، فأصل العيدين واحد، ثم مع الإصلاح
الجريجوري للتقويم الميلادي أصبحت رأس السنة المصرية تقابل يوم 11 سبتمبر مثلما
أصبح عيد الميلاد المجيد للكنيسة الأرثوذكسية، يوم 29 كيهك وفقا للتقويم المصري
يقابل يوم 7 يناير بعد أن كان يقابل يوم 25 ديسمبر.
والتقويم المصري القديم يعد أقدم تقويم عرفه
الإنسان ومازال مستخدما للآن، فنحن الآن في سنة 6248 من سنوات التقويم المصري
القديم، وفي أول توت القادم سنحتفل برأس سنة 6249 مصرية.
وقد سجلت المقابر المصرية القديمة مظاهر
الاحتفال برأس السنة المصرية حيث كان الناس يتبادلون الهدايا، ويتجمع الرجال
والنساء في جماعات كبيرة ويركبون السفن والقوارب التي تتجول بهم في نهر النيل وهم
يغنون ويعزفون الموسيقى ويرقصون في احتفال من أكثر الاحتفالات المصرية بهجة، وفي
الاحتفال تدق بعض النساء الطبول، ويعزف بعض الرجال بالمزامير، ويقوم البعض
بالتصفيق بالأيدي.
ورغم
توالي عهود الاحتلال الأجنبي على مصر فقد حافظ المصريون على الاحتفال بهذه
المناسبة عبر العصور، ويذكر المقريزي الذي عاش في عصر المماليك مظاهر الاحتفال
برأس السنة المصرية في العصور الوسطى، والذي كان واحدا من الاحتفالات الكبرى التي
يحتفل بها المصريون جميعا مسلمون ومسيحيون، كما كانت الدولة منذ العصر الفاطمي
تحتفل على المستوى الرسمي بهذه المناسبة بتوزيع العطايا والخلع إلى جانب
الاحتفالات الشعبية، والتي كانت تأخذ شكل كرنفالا شعبيا رائعا يخرج فيه الناس إلى
المتنزهات العامة ويرشون بعضهم بالماء، ويختارون من بينهم شخصا ينصبونه أميرا
للنيروز يسير بموكبه في الشوارع والحارات ويفرض على الناس الرسوم ويحصلها منهم ومن
يرفض يرشه بالماء، وكل هذا طبعا من باب الدعابة واللهو.
وكان الاحتفال الشعبي يتوقف في الفترات الذي
تتصاعد فيها موجات التطرف الديني في العصور الوسطى إلى أن توقف تمام في العصر
العثماني، لكن الجانب الرسمي للمناسبة ظل قائما لارتباط المناسبة بالفيضان وجباية
الضرائب، حتى أن السنة المالية في العصر العثماني والقرن التاسع عشر كانت تسمى
السنة التوتية نسبة إلى شهر توت أول شهورها.
منذ أسابيع قليلة طرح الصديق بيومي قنديل، فكرة
إحياء الاحتفال برأس السنة المصرية على المستوى القومي، والدعوة لهذا الاحتفال
ليكون احتفالا يؤكد على فكرة المواطنة التي تجمع المصريين باختلاف انتماءاتهم
الدينية وأصولهم العرقية، وليست هناك مناسبة تشكل مشتركا بين كل المصريين أكثر من
هذه المناسبة، التي ترتبط بفيضان النيل وتضرب بجذورها في ماضينا البعيد.
وأمس وأثناء تصفحي لموقع مجموعة "مصريون ضد
التمييز الديني"، وهي مجموعة للمصريين المناهضين للتمييز الديني تدعو إلى
إعلاء قيم حرية الفكر والاعتقاد وتعميق ثقافة المواطنة، توقفت في الموقع
الإلكتروني عند اقتراح للمهندس شادي أنسي عجوة يدعو فيه المجموعة لأن "تشن
حملة على أرض الواقع للتقريب بين المسلمين و
المسيحيين و غيرهم بجعل هناك يوم مشترك يحمل صبغة
مصرية يجمع كل المصريين" وقد أقترح "أن يكون هذا اليوم عيد تمام فيضان
النيل رمز الخير في مصر و هو نفسه عيد رأس السنة
المصرية الفرعونية".
الأمر الذي شجعني على العودة للكتابة في هذا
الموضوع مرة أخرى والدعوة مجددا للاحتفال برأس السنة المصرية شعبيا ورسميا، ولأن
يكون أول توت من كل عام عيدا للمواطنة في مصر.
المقال وصل لما انقطع من دعوات مفكرين مصريين كبار منهم أحمد لطفي السيد وسلامة موسي وطه حسين وحسين فوزي
ردحذفوهي تجديد لأصالة ما انتهي إليه ابن خلدون في تمييزه لشعوب الماء علي شعوب البسطاء
تحية لك د. عماد علي استعادة طرح هذه الدعوة الآن والنظام المصري يمد جسر الارتباط بثقافة الصحراء البدوية