الأحد، 11 سبتمبر 2016

لطيفة الزيات:

 بطلة انتفاضة 1946

 وفارسة مواجهة التطبيع

 زي النهارده من عشرين سنة كنا في وداع الدكتورة لطيفة الزيات اللي رحلت عن عالمنا يوم 10 سبتمبر 1996، ودي المقالة اللي كتبتها في جريدة الدستور رثاء لها.



 غربت عن عالمنا في الأسبوع الماضي شمس من شموس ثقافتنا الوطنية، فقد رحلت عنا الدكتورة لطيفة الزيات في العاشر من سبتمبر بعد أن خلفت ورأها إسهامًا بارزًا في بناء الثقافة المصرية، وتراثًا من العطاء للوطن، من خلال أعمالها النقدية والإبداعية، ومن خلال دورها البارز في النضال الوطني والديمقراطي منذ الأربيعنيات وحتى رحيلها؛ لقد وهبت لطيفة الزيات حياتها لهذا الوطن، للدفاع عن حريته واستقلاله، للدفاع عن ثقافته وكل ما فيها من قيم إيجابية.
 لقد انخرطت لطيفة الزيات في النضال الوطني وهي طالبة في كلية الآداب في الأربعينيات، وانتمت إلى الفكر الاشتراكي، وتصاعد دورها في العمل السياسي حتى انتخبت سكرتيرة عامة للجنة الوطنية للعمال والطلبة سنة 1946؛ هذه اللجنة التي قادت الكفاح ضد المستعمر البريطاني، ونجحت في تنظيم مظاهرة 21 فبراير 1946 الشهيرة.
 وأترك المجال للدكتورة لطيفة الزيات لتصف كيف تكون لديها الحس الوطني وهي بعد صبية في الحادية عشر من عمرها، في سنة 1934، من خلال كتابها "حملة تفتيش ـ أوراق شخصية"، الصادر سنة 1992، تقول لطيفة الزيات:
 "لا أجد في حضن أمي الملاذ من شرور الدنيا وأنا في الحادية عشر من عمري، أطل من شرفة بيتنا في شارع العباسي بالمنصورة، لا أحد يجيرني، لا أحد يملك أن يجيرني، لا أبي يحاول انتزاعي من الشرفة حتى لا أرى ولا أسمع، ولا أمي تبكي بلا صوت، وأنا أنتفض بالشعور بالعجز بالأسى بالقهر، ورصاص البوليس يردي أربعة عشر قتيلًامن بين المتظاهرين ذلك اليوم، وأنا أصرخ بعجزي عن الفعل، بعجزي عن النزول إلى الشارع لإيقاف الرصاص ينطلق من البنادق السوداء، أسقط الطفلة عني، والصبية تبلغ قبل أوان البلوغ مثخنة بمعرفة تتعدى حدود البيت لتشمل الوطن في كليته، ومصيري المستقبلي يتحدد في التو واللحظة وأنا أدخل باب الالتزام الوطني من أقسى وأعنف أبوابه، يضنيني الرجوع ولو قليلًا عنه، ويحملني هذا الرجوع الشعور بالإثم، ويعذبني اختناق صوتي حين نختنق، ويحدوني رجاء لا يبين أن أظل قادرة على قولة: لا لكل مظالم الدنيا.
 كان ذلك في يوم من أيام 1934، ورئيس الوزراء يرفض السماح لمصطفى النحاس، زعيم حزب الوفد والأغلبية بالقيام بزيارة للأقاليم تتضمن زيارة المنصورة، يوقف حركة القطارات، ويأتي موكب النحاس في السيارات، تحيل بلدية المنصورة شارعنا وبقية الشوارع الرئيسية إلى مجموعة متتالية من الخنادق لتحول دون موكب النحاس والتقدم.
 والشوارع تعج بآلاف المتظاهرين، وشارعنا يتقدم منه البعض بعد البعض يحمل سيارة النحاس باشا على أكتافه، يتجاوز بها خندقًا بعد خندق في شارعنا، والموكب يتقدم رغم كل شيء، وصيحات انتصار عارمة، انتصار إرادة الجماهير، وبنادق سوداء كابية تصنع حدًا نهائيًا للموكب والمظاهرة... ومع الدم كما النافورة فار أحمر قانيًا فوق رؤس الكتلة البشرية المتخبطة وانحسر مع الهدير المنتصر للجماهير وقد اغتيل، وموجة من البشر تنحسر بعد موجة، مع أزرار نحاسية تضوي في أشعة الشمس مع بنادق طويلة سوداء كابية، مع قذائف الطوب تنهال على رجال البوليس مع الأجساد تتعرى للرصاص، والملابس تتحول إلى مشاعل توقد شعلة العشق، الموت، مع أربعة عشر قتيلًا بعد قتيل وعدتهم الصبية قتيلًا بعد قتيل وعربة الإسعاف في كل مرة تنطلق مع شارع العباسي في مدينة المنصورة في يوم من أيام 1934، وقد تفجرت أحشاؤه وانطرح، وحفنة من رجال البوليس، ودم لم يعد يفور كما النافورة أحمر قانيًا، ينزلق قطرة قطرة مختلطًا بطين الشارع، ينحبس أسود مفحمًا.
 تحولت الطفلة إلى الصبية تتعرف الشر مجسدًا على مستوى الدولة".
 وتعرضت لطيفة الزيات للاعتقال في شبابها في أواخر الأربعينيات، وصدر ضدها حكمًا بالحبس مع إيقاف التنفيذ يتهمة الانضمام إلى تنظيم شيوعي يسعى لقلب نظام الحكم، ولم تتوقف عن العطاء للوطن في المجال الأكاديمي حيث عملت في تدريس الأدب الإنجليزي في جامعة عين شمس، أو في المجال العام من خلال كتاباتها في الصحف والمجلات، أو من خلال إبداعها الأدبي وأبرزه رواية "الباب المفتوح" التي تحولت إلى فيلم سينمائي، وقد عالجت فيها الكفاح المسلح في القناة في الخمسينيات، أو من خلال مشاركتها في النشاط السياسي.
 وكان دورها الأخير الذي استمر لأكثر من 17 عامًا في رئاسة لجنة الدفاع عن الثقافة القومية التي ساهمت في إنشائها سنة 1979 عقب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل وانتشار دعاوى التطبيع الثقافي، وقد وضعت هذه اللجنة على كاهلها عبء "مقاومة التطبيع في المجال الثقافي والأكاديمي، والدفاع عن الثقافة المصرية ضد المؤثرات الأجنبية الضارة، لحماية المنطلقات الفكرية التحررية للشخصية الوطنية".
 وقد نجحت لجنة الدفاع عن الثقافة القومية برئاسة لطيفة الزيات في التأثير في حركة المثقفين المصريين في مواجهة التطبيع مع إسرائيل، فأصبح رفض التطبيع الثقافي والأكاديمي الموقف الأساسي وما عاداه الشذوذ.
 لقد رأيت الدكتورة لطيفة الزيات في الشهور الأخيرة بعد أن علمت بمرضها، رأيت فيها نموذجًا للقوة الإنسانية في مواجهة الموت، كان شغلها الشاغل كيفية تنظيم وقتها فيما بقى لها من أسابيع تعيشها لكي تضع أولويات إتمام الأعمال التي بدأتها.
 لقد رأيت فيها تجسيدًا حيًا لثقافة الإنسان المصري الذي يتحدى الموت، رأيت فيها عبارة عالم المصريات جيمس هنري بريستد التي يصف فيها إبداع المصري القديم لمتون الأهرام بأنه:

 "الاحتجاج الملح بل الاحتجاج الحماسي ضد الموت... والثورة ضد الظلمة والسكون العظيمين."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...