الخميس، 15 سبتمبر 2016

500 سنة على الاحتلال العثماني لمصر (2)

500 سنة على الاحتلال العثماني لمصر

(2)

كيف رأى المصريون دخول العثمانيين لمصر؟

عماد أبو غازي
 تثير إشكالية التعامل مع الحقبة العثمانية في التاريخ المصري ثلاثة أسئلة:
 السؤال الأول هل اعتبر المصريون المعاصرون للحدث في القرن السادس عشر العثمانيين غزاه محتلين أم اعتبروهم مجرد حكام جدد من أسرة جديدة؟
 للإجابة على هذا السؤال لابد من العودة إلى المصادر المعاصرة للحدث، فماذا تقول تلك المصادر؟
 لقد كان وقع الكارثة فادحًا على وجدان المصريين؛ فوصف المؤرخ محمد بن أحمد بن إياس المصري الغزو العثماني شعرًا فقال:
          الله أكبر إنهــا لمصــيبة                  وقعت بمصر ومالهـا مثل يرى
          ولقد وقفت على تواريخ مضت           لم يذكروا فيها بأعجب ما جرى
 وفى موضع آخر من تاريخه يقول: "ومن العجائب أن مصر صارت نيابة بعد أن كان سلطان مصر من أعظم السلاطين في سائر البلاد قاطبة، لأنه خادم الحرمين الشريفين، وحاوي ملك مصر الذي أفتخر به فرعون اللعين حيث قال: "أليس لي ملك مصر"! وقد تباهى بملك مصر على سائر ممالك الدنيا، ولكن ابن عثمان أنتهك حرمة مصر، وما خرج منها حتى غنم أموالها، وقتل أبطالها، ويتم أطفالها، وأسر رجالها، وبدد أحوالها، وأظهر أهوالها... وأشيع أن ابن عثمان خرج من مصر وصحبته ألف جمل محملة ما بين ذهب وفضة، هذا خارجًا عما غنمه من التحف والسلاح والصيني والنحاس المكفت والخيول والبغال والجمال وغير ذلك، حتى نقل منها الرخام الفاخر،  وأخذ منها من كل شيء أحسنه، ما لا فرح به آباؤه ولا أجداده من قبله أبدًا".
 ويقدم بعض الرحالة الأوروبيين صورًا مماثلة لما أحدثه الغزو العثماني بمصر، وكيف أضحت هذه المملكة الضخمة مجرد ولاية في الإمبراطورية العثمانية، وكيف نقل سليم أروع كنوز مصر، حتى قطع الرخام ليستخدمها في تجميل قصوره.
 ويلخص شاعر وفقيه مصري هو الشيخ بدر الدين الزيتوني أحد نواب القضاة الشافعية، الذي توفى في 25 من رجب سنة 924هـ عن عمر يناهز أربعة وتسعين عامًا؛ وكان شاعرًا وزجالًا وأدبيًا إلى جانب اشتغاله بالقضاء، انتصار العثمانيين واستيلاءهم على البلاد، فيقول:
          نبكى على مصر وسكانها                قد خربت أركانهـا العامرة
          وأصبحت بـالذل مقهورة           من بعد ما كانت هي القاهرة
 وهذا شاعر آخر من شعراء القرن العاشر الهجري هو الناصري محمد بن قانصوه من صادق، يصف الحوادث قائلًا:
          كـان في مصـر مـلوك             أظهـروا فيهـا العجـايب
          ذهـبوا عـنها وصـارت               دورهــم فيهـا خـرايب
          وهي أضــحت بعد عـز            قــرية في حكـم نـايب
  هكذا كان تصور النخبة الفكرية في مصر لما حدث، فهل هناك تعبير عن معنى الاحتلال الأجنبي أكثر من هذا؟
 أما عامة الناس في القاهرة وظواهرها فقد ظلوا يقاومون الغزاة العثمانيين تحت قيادة سلطانهم طومان باي ونجحوا في تحرير المدينة لعدة أيام، وإعادة الخطبة للسلطان المملوكي، لكن نيران مدافع العثمانيين التي ضربت المساجد التي تمترس بها المصريون قضت على مقاومتهم، وعندما توجه طومان باي إلى الصعيد التف حوله المصريون وظل يقاوم الغزاة لعدة أسابيع.
 أما في ريف الدلتا وبعد شهور من الاحتلال العثماني فقد التف الفلاحون حول رجل أدعى أنه السلطان الغوري، وفي هذا دلالة على الكيفية التي كان الناس في مصر ينظرون بها إلى حكامهم الجدد.
 لقد كانت سنتا 922 و 923 هـ (1516 و 1517م) سنتين من السنوات العصيبة في التاريخ المصري، سنتان شهدتا سقوط دولة المماليك الجراكسة، وفقدان مصر لكيانها المستقل ودخولها عصرًا جديدًا من عصور التبعية لقوة خارجية صاعدة فى سماء المنطقة، فأصبحت مصر ولاية في دولة كبرى مركزها إستنبول على مضيق البسفور، وبعد أن استمرت القاهرة لعدة قرون كمركز حضاري وسياسي أول في المشرق العربي والإسلامي، ذوت لتصبح مجرد عاصمة لولاية يديرها وال مبعوث من قبل السلطان العثماني، سنتان كانتا مليئتين بالحوادث والوقائع، فقدت فيهما دولة المماليك أثنين من سلاطينها على يدي عدو خارجي، وسقط فيهما آلاف القتلى من المماليك وأبناء الشعب، ليبدأ عصر ظلام وجمود طويل في تاريخ مصر.
 ورغم أن المماليك لم يكونوا من أصول مصرية، بل تم جلبهم من مناطق بعيدة كرقيق مقاتل تحولوا إلى حكام للدولة، إلا أننا نستطيع أن نميز بين حالتين من الحكم الأجنبي في تاريخ مصر الممتد منذ الاحتلال الفارسي سنة 525 قبل الميلاد، إلا قليل.
 الحالة الأولى: حكم أجنبي يحكم البلاد من مركز دولة بعيدة: باسارجاد ـ برسيبوليس ـ روما ـ القسطنطينية ـ المدينة ـ الكوفة ـ دمشق ـ بغداد ـ اسطنبول، وتتحول مصر إلى مجرد ولاية تابعة تدفع الجزية ويحكمها والي الأمبراطور أو الخليفة أو السلطان، مثلما كان الحال في أزمان الفرس والرومان والبيزنطيين والعرب في عصر الولاة ثم العثمانيين، وهذه الحالة ينطبق عليها مفهوم الاحتلال بمعناه الذي كان معروفًا في العصور القديمة والوسطى، عصور الموجة الحضارية الزراعية.
 والحالة الثانية: حاكم أجنبي أو أسرة حاكمة أجنبية تتخذ من مصر قاعدة لحكمها، وتتحول في بعض الأحيان إلى دولة كبرى تتوسع في الأقاليم المجاورة وتحتلها، مثلما كان الحال في أزمان البطالمة والفاطميين، والمماليك، وأسرة محمد علي، وبدرجة ما في زمن الدول المستقلة تحت التبعية الأسمية للخلافة العباسية، مثلما حدث في زمن الطولونيين والإخشيديين، وكذلك في زمن الأيوبيين.

 والفارق كبير بين الحاليين...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...