الاحتلال
العثماني لمصر
أسباب
ونتائج
(2)
عماد أبو غازي
لقد كانت
عوامل الانهيار تنخر فى جسد الدولة منذ سنوات، حيث كانت مصر ـ دولة ونظامًا ـ في
أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الهجريين، أي ما يوازى القرنين الخامس عشر
والسادس عشر الميلاديين، تعيش مرحلة أفول، ففي الأفق كانت تتجمع ملامح النهاية:
نهاية عصر، وبداية عصر جديد، ولم تكن دولة المماليك الجراكسة لتتحمل البقاء كثيرًا،
ولم يكن بديل داخلي في مصر قد أختمر بعد بالقدر الكافي لإحداث تغيير جذري؛ على
الرغم من ظهور بوادر أولية لمثل هذا البديل! ومن هنا كانت النهاية المحتومة على يد
طرف خارجي جديد، تلك النهاية التي قطعت الطريق على إرهاصات التطور الداخلي
للمجتمع.
لقد بلغ الانهيار مداه في ذلك العصر حتى لنرى
القصص الخرافية عن طالع القاهرة وقرب سقوطها تتردد فى كتب المؤرخين، وهى قصص تشير
إلى الشعور السائد بقرب النهاية، وتردي أوضاع البلاد، كما أن ملامح الانهيار تبدو
واضحة من خلال ما كتبه الرحالة والمؤرخون عن مصر؛ فالصورة التي يرسمها الرحالة
الذين زاروا مصر في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر صورة قاتمة في كثير من
جوانبها وتنبئ بالإنهيار القريب، بخلاف الصورة التى قدمها الرحالة الذين زاروا مصر
فى سنوات الازدهار، إن مقارنة الصورة التى يقدمها الرحالة الأجانب الذين زاروا مصر
فى القرن الأخير من حياة دولة المماليك من أمثال: دومنيك تريفسان وبيدرو مارتير
دانجليريا، بتلك التى قدمها الرحالة المسلمون الذين زاروها فى العصر الفاطمى والعصر
الأيوبى وبدايات العصر المملوكي أمثال ناصر خسرو وابن جبير وعبد اللطيف البغداداي وابن
بطوطة لتوضح مقدار الإنهيار الذي أصاب حياة مصر في ذلك العصر، وعناصر هذه الأزمة
تتبدى جلية كذلك في كتابات المؤرخين منذ أوائل القرن التاسع الهجري.
أما هذه العناصر كما رصدها المؤرخون المعاصرون
لتلك الفترة، فعديدة ومتنوعة ومتشابكة في الوقت نفسه، إذ اختلطت المظاهر بالأسباب،
واختلطت الأسباب بالنتائج، فقد دخل المجتمع المصري في حلقة متوالية من التردي
والتدهور المستمر.
فعلى الصعيد
الاقتصادي؛ عاش المجتمع المملوكي لسنوات طوال في ظل أزمة اقتصادية طاحنة، وتتميز الأزمة
في مجتمعات العصور الوسيطة بنقص المنتجات والسلع كقيم استعمال وارتفاع أسعارها،
وقد مست هذه الأزمة الهياكل الاقتصادية الأساسية فى المجتمع، وهزت قواعد اقتصاد
البلاد الذى كان يعتمد بشكل أساسي على الإنتاج الزراعي ثم على عوائد تجارة المرور.
ولو تتبعنا مظاهر هذه الأزمة؛ فسوف نجد المصادر
التاريخية مليئة بأمثلة لها، فالحديث عن ارتفاع أسعار السلع الأساسية أو ندرتها في
الأسواق حديث متكرر في الحوليات التاريخية طوال القرن التاسع الهجرى وأوائل القرن
العاشر، ونادرًا ما تمر سنة من السنوات دون حديث هنا أو هناك عن ارتفاع في سعر
سلعة أساسية أو اختفاء سلعة أخرى، ولم يقتصر الأمر على ارتفاع الأسعار واختفاء السلع
من الأسواق فحسب، بل امتد إلى "تشحط الغلال واللحوم في البيوت السلطانية والديوان
المفرد"؛ وتكرر ذلك أكثر من مرة فى عصر الغورى.
هذا ولا يعنى
تكرار ذكر وقائع ارتفاع أسعار السلع ونقصها في الأسواق أن الأمر سار في تصاعد مستمر
طوال القرن التاسع وأوائل القرن العاشر؛ فالمصادر تذكر ـ في بعض الأحيان ـ حالات من
الرخاء وانخفاض في الأسعار، لكن السمة الغالبة طوال العصر الجركسي كانت الارتفاع المتصاعد
للأسعار، إذ كان الارتفاع المستمر في أسعار السلع؛ يساوي إنخفاضًا مقابلًا فى
القيمة الشرائية للعملة، علاوة على انخفاض قيمتها الفعلية بسبب انخفاض نسبة المعدن
الثمين فيها، ويجب أن نضع في اعتبارنا هنا علاقات أسعار العملات بعضها ببعض؛ وذلك حتى
نستطيع أن نقدر الارتفاع الحقيقي في الأسعار ونميز بينه وبين الارتفاع الظاهري.
وهذه الظواهر كانت انعكاسًا للنقص المستمر في
مساحة الأراضي المزروعة، كان انخفاض مساحة
الأراضى المزروعة يرجع إلى عدة أسباب، منها: الأوبئة والقحط والمغالاة فى الجباية.
ويذكر ابن تغري بردي أن عدد القرى العامرة في مصر
قد انخفض في عصره (ت. 874هـ.) إلى ألفي ومائة وسبع عشرة قرية، بعد أن كان عددها في
العصر الفاطمى عشرة آلاف قرية أحصاها المسبحي (ت420هـ).
وارتبطت الأزمة الاقتصادية بأزمة مالية؛ تراجع
فيها دور الذهب في النظام النقدي المملوكي، وسادت العملات الفضية ثم النحاسية، بل
وعرفت الأسواق المملوكية العملات الذهبية الأجنبية الأقوى التي بدأت تتغلغل إلى
البلاد.
ومما ساعد
على تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية في العصر المملوكي ووصولها إلى الذروة،
اكتشاف الرحالة البرتغالي فاسكو داجاما لطريق رأس الرجاء الصالح سنة 904هـ (97/
1498م)، فكان هذا الكشف ضربة أكملت على وضع مصر الذي شغلته لعدة قرون كمركز حيوي
في طريق مرور التجارة بين الشرق والغرب، ففقدت البلاد بذلك مصدرًا من مصادر دخلها،
وفى الوقت ذاته؛ شكل وصول السفن البرتغالية إلى مياه المحيط الهندى وبحر العرب عبئًا
عسكريًا جديدًا على مصر كانت له تكلفته الاقتصادية الباهظة.
وكانت السياسات التى يتبعها سلاطين المماليك مع التجار
الأوروبيين خاصة السياسات الاحتكارية للسلطان برسباي تؤدى بالتدريج إلى اضطراب أوضاع
تجارة الترانزيت في مصر، إلى أن جاء كشف رأس الرجاء الصالح ليؤدى إلى انهيارها.
وتبدت هذه الأزمة بوضوح فى حالة الانهيار الذي أصاب
المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية والفسطاط.
فالقاهرة حسب وصف أحد الأوروبيين الذين زاروها في
أوائل القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) "لا تستحق السمعة التي
تتردد عنها".
والإسكندرية في نظر بدرو مارتير دانجلاريا سفير ملكي
إسبانيا فرناندو وإيزابيلا إلى السلطان الغوري الذي زار مصر في 1501- 1502م/ 908هـ
خرائب حالها يدعو للبكاء، حيث قال في وصفها: "لقد طفت كثيرًا بنواحي مدينة الإسكندرية
هذه، وإن تأمل خرائبها ليبعث على البكاء، وفي رأيي وبحسب ما تدل عليه بقايا عمرانها
الماضي، يمكن القول بأن الإسكندرية كان فيها فيما مضى مئة ألف دار وأكثر، أما اليوم
فلا يكاد يبلغ عدد دورها أربعة آلاف، ويعيش فى خرائبها البوم واليمام والحمام بدلًا
من الناس".
أما الفسطاط فيكاد ذكرها يختفي تمامًا كمدينة
تجارية منذ القرن العاشر.
وقد تصدت
الدولة لمعالجة الأزمة الاقتصادية، لكنها اتبعت أساليب فاقمت من حدة هذه الأزمة
بدلًا من أن تؤدي إلى حلها، فقد لجأت الدولة إلى فرض ضرائب جديدة؛ أو إلى زيادة
الضرائب المفروضة، الأمر الذي أدى إلى اتساع ظاهرة هجر الفلاحين للأرض، وبالتالي
مزيد من النقص في مساحة الأراضي المزروعة، والمصادر التاريخية مليئة بذكر أنواع
الضرائب والمكوس والمغارم التي كانت الدولة تفرضها باستمرار في محاولة لزيادة
مواردها.
أما الأسلوب الثاني الذي لجأت إليه الدولة فكان
احتكار تجارة بعض السلع، أو قيام الدولة ممثلة في السلطان بشراء سلعة ما من الأسواق
بسعر أقل من سعرها، ثم إعادة بيعها بسعر أعلى، أو فرض سلع معينة من الذخيرة السلطانية
على التجار بسعر محدد أو بعملة محددة.
وقد أمتد هذا الأسلوب إلى التجار الأجانب الذين
كانت الدولة تتعامل معهم، فأدت هذه السياسات في الداخل إلى مزيد من رفع الأسعار، وإلى
اضطراب في علاقات مصر التجارية بالعالم الخارجي.
كذلك لجأ السلاطين إلى أسلوب مصادرة الإقطاعات
والعقارات والأموال، فكثرت المصادرات لأموال الأمراء وكبار رجال الدولة والتجار في
حياتهم أو مصادرة تركاتهم عند وفاتهم؛ إما بسبب الصراعات السياسية، أو لسد العجز المتزايد
فى موارد الدولة، والأمثلة على هذه المصادرات عديدة في المصادر العربية، كما رصد بعض
الرحالة الأوروبيين هذه الظاهرة.
وقد زاد هذا الأسلوب من تعقيد الأزمة، فأدت سياسة
المصادرات إلى تعسف الموظفين في جمع الأموال بكل الطرق حتى يتمكنوا من الوفاء بما
قد يطلبه منهم السلطان أو يعوضوا ما يصادره، ومن ناحية أخرى أدى إلى زيادة واضحة في
الأراضى والعقارات الموقوفة، فقد كانت مصادرة الأوقاف أو فرض الضرائب عليها أكثر
صعوبة منها على غيرها من أراض وعقارات، حتى بلغت مساحة أراضي الأوقاف في مصر عند
دخول العثمانيين ما يقرب من نصف مساحة الأراضي الزراعية، وانعكس هذا بطبيعة الحال
على قدرة الدولة على منح الإقطاعات، ومن ثم فقد بدأ الانهيار يتسرب بسرعة إلى
النظام العسكري المملوكي.
ومن الأساليب التي لجأت إليها الدولة كذلك لحل
المشكلة الاقتصادية: غش العملة بتخفيض نسبة المعدن الثمين فيها، أو إنقاص وزنها أو
عيارها، وفي الوقت نفسه، إرغام الناس على التعامل بها بقيمة أعلى من قيمتها
الحقيقية.
وباستثناء بعض المحاولات القليلة للإصلاح النقدى
الجاد ـ والتى لم يقدر لها الاستمرار طويلا ـ لا نجد إلا حلولًا تزيد المشاكل
الاقتصادية تفاقمًا.
لقد كانت كل
سياسات تلافي الأزمة في حقيقتها سياسات منحازة؛ تخدم مصالح القمم العليا لطبقة
المماليك المسيطرة على المجتمع، وفى نفس الوقت تراجعت الدولة عن أداء كثير من
مهامها في مجال الإنشاءات والأعمال الضرورية لخدمة الزراعة، كشق الترع والقنوات،
وإقامة الجسور السلطانية، الأمر الذي أدى إلى مزيد من الانهيار في الوضع
الاقتصادي.
وقد تفاعلت الأزمة الاقتصادية مع الأزمة
السكانية التي عاشتها مصر في القرنين التاسع والعاشر الهجريين، والمتمثلة في نقص
عدد السكان بسبب موجات القحط والمجاعات والأوبئة المتوالية، فقد شهدت مصر منذ منتصف القرن الثامن الهجرى (الثالث عشر
الميلادى) سلسلة متوالية من الأوبئة، أخذت الفترات الزمنية بينها تتقارب حتى سقوط
دولة المماليك، ولا نستطيع أن نحدد بدقة تأثير الأوبئة
والمجاعات على عدد السكان؛ فلا يوجد بالطبع إحصاء دقيق لأعداد السكان في العصور الوسيطة،
لكن هناك تقديرات تعتمد على ما يرويه الرحالة والمؤرخون وفقًا لمشاهداتهم ودراستهم
لبعض الظواهر الحضارية ومدى انتشارها؛ كالحمامات والأسواق والمبانى؛ والخروج منها بأعداد
افتراضية للسكان.
ومن المؤكد- من خلال مراجعة ما أورده المؤرخون والرحالة،
ومن خلال دراسة تلك الظواهر الحضارية أن أعداد السكان قد انخفضت بشكل واضح بعد الفناء
الكبير الذى اجتاح البلاد سنة (748- 749هـ/ 1347- 1348م)، ويقدر الباحثون نسبة الانخفاض
في سكان القاهرة وحدها بما يقرب من 40% تقريبا، وقد تخربت حقا بعد الوباء نسبة مقاربة
من الحمامات والأسواق بالمدينة، وتذكر بعض المصادر التاريخية وكتب الرحالة أعدادًا
تقريبية لمن ماتوا فى هذه الأوبئة ، فيذكر المقريزى أن عدد من ماتوا في وباء سنة
833هـ في يوم واحد بالقاهرة وظواهرها نحو عشرة آلاف إنسان، ويذكر بعض الرحالة الذين
زاروا مصر في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر أعدادًا مقاربة.
ولم تعد مصر إلى ما كانت عليه مرة أخرى حتى نهاية
العصر المملوكى، وبالرغم من ارتفاع عدد السكان بعض الشئ في القرن العاشر، فإن تكرار
الأوبئة كان يؤدى باستمرار إلى انخفاض معدلات الزيادة السكانية بما أثر سلبًا على النمو
الاقتصادي للبلاد.
لقد أدى هذا النقص السكاني إلى مزيد من تأزم الأوضاع
الاقتصادية بسبب نقص الأيدي العاملة اللازمة للزراعة، وبالتالي بوار مساحات جديدة
من الأراضي، والعجز عن ضم محاصيل أراض أخرى، الأمر الذى ترتب عليه نقص المواد
الغذائية وارتفاع في أسعارها، هذا بالإضافة إلى انهيار كثير من الصناعات والحرف.
وفي الوقت نفسه كانت موجات الغلاء ونقص السلع
الغذائية تؤدى إلى مجاعات جديدة تساعد على انتشار الأوبئة، وهكذا تدور الدائرة؛
ومعها ينهار اقتصاد البلاد وتضمحل مواردها وثرواتها.
إن ما عاشته مصر منذ
الوباء الكبير الذي حل بها في منتصف القرن الثامن الهجرى (الرابع عشر الميلادى) ليس
إلا أحد أشكال الأزمات التقليدية التي عاشتها المجتمعات البشرية في الشرق والغرب في
العصور الوسيطة، لكن أبعاد هذه الأزمات وآثارها القريبة والبعيدة تفاوتت من مجتمع إلى
آخر حسب استجابته لهذا التحدي الطبيعي؛ ففي الوقت الذي بدأت فيه أوروبا بعد الموت
الأسود رحلة الانسلاخ من عالم العصور الوسط، فشل المشرق في الاستجابة للتحدي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق