الاحتلال
العثماني لمصر
أسباب
ونتائج
(4)
عماد أبو غازي
ترسم المصادر التاريخية صورة لدولة المماليك
كدولة في طريقها نحو النهاية والانهيار، الأمر الذي يتفق عليه كثير من الباحثين
المحدثين، ولكن يبقى الخلاف حول تحديد نقطة البداية في "متوالية"
الانهيار، والعنصر الذي كان له دور أكبر من غيره فيه.
فالبعض يرى في الوباء الكبير بداية الأزمة
وأساسها، به بدأ الانهيار، وبعده توالت المجاعات والأوبئة، فقضت على البقية
الباقية من قدرات الدولة على النهوض، ويبرز آخرون التحول في طرق التجارة باعتباره
أساسًا للأزمة، وهناك رأي ثالث يشير إلى أثر الحملات العسكرية المتوالية في إنهاك
الدولة المملوكية اقتصاديًا وعسكريًا.
والعوامل الثلاثة السابقة مجتمعة ـ في رأي البعض
ـ قادت البلاد إلى أزمة اقتصادية كانت في تفاعلها مع السياسات التي اتبعها سلاطين
المماليك الأساس وراء انهيار الدولة وتداعيها، وقد اكتملت مظاهر هذه الأزمة منذ
عهد السلطان "قايتباى" (872- 901هـ/ 1468- 1496م|).
وهناك من يرى أن هذه العوامل الطبيعية والخارجية
اجتمعت وتوالت على دولة المماليك دون أن يكون لهذه الدولة يد في ذلك، فأدت في
النهاية إلى سقوطها، إذ تضاءلت موارد الذهب في بلاد النوبة، واجتذب الأوروبيون ذهب
السودان الغربي عبر المغرب الأقصى، ثم جاء انتشار الأوبئة والمجاعات، فغزوة تيمور
لنك وما صحبها من إرهاق لميزانية مصر، ثم ـ أخيرًا ـ جاءت الضربة القاضية بتحول
طرق التجارة عن مصر إلى رأس الرجاء الصالح، وقد تواكب كل ذلك مع لحظة ضعف في النظم
الشرقية كلها؛ عجزت فيها عن مواكبة التطور الذي حدث في الغرب.
وفي المقابل؛ تركز آراء أخرى على العناصر
الداخلية في بنية النظام المملوكي نفسه؛ وتحملها مسئولية الأزمة بشكل أساسي؛ فهناك
من يرى أن أساس الأزمة لصيق الصلة بطبيعة النظام المملوكي، حيث إنها نتيجة طبيعية
لعسكرة المجتمع منذ نهاية العصر الفاطمي؛ واصطدام الخصائص العسكرية والبدائية
للأيوبيين والمماليك بالحياة المدنية للمجتمع المصري، تلك الحياة التي نجحت في أن
تحد من عيوب الحكم العسكري وتعادله؛ حتى بدأ عهد المماليك الجراكسة، وتوالت
الأزمات المالية الحادة وما صحبها من انحلال النظم المملوكية، وغلبة الطابع العسكري
على المناصب العامة، فانعكست الآية حينئذ، وأخذ هذا الحكم يعصف بالحياة المدنية
وينخر في عظام البلاد.
ويربط رأي آخر بين الأزمة وأسلوب الطبقات العليا
في التعامل مع الموارد، فسياسة الاكتناز ثم الإنفاق الترفي التي اتبعتها القوى المسيطرة
على اقتصاديات البلاد؛ أضاعت أي إمكانية لتطوير الإنتاج، فعاشت مصر طوال العصرين
الأيوبي والمملوكي في ظل تناقض حاد فيما بين ازدهار التجارة الخارجية في أغلب
الأوقات؛ وبين التدهور المطرد على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي في الداخل؛
والركود في تطوير القدرات الإنتاجية للمجتمع، الأمر الذي أدى إلى انهيار الدولة
المملوكية الثانية بمجرد تعرض تجارة المرور للانخفاض نتيجة كشف طريق رأس الرجاء
الصالح.
وأخيرا؛
فهناك من يرجع هذه الأزمة في الأساس إلى السياسات الخرقاء للسلاطين الجراكسة، حيث
"أهملوا نظام التجنيد المملوكي، وأساءوا فهم الإقطاع الحربي، فأفقروا العباد،
وخربوا البلاد، واستحدثوا سياسة الاحتكار في الزراعة والتجارة لتغطية نفقاتهم
وحملاتهم الحربية"
لقد كانت
أسباب الأزمة التي أدت إلى انهيار الدولة متداخلة ومتشابكة؛ فلا يمكن إرجاع أزمة
سقوط الدولة المملوكية إلى سبب واحد دون غيره؛ فاجتماع هذه المشكلات في فترة
متقاربة وتوالدها من بعضها، وضع المجتمع المصرى كله في لحظة أزمة تاريخية، فكان
العصر عصر انهيار شامل للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية، عصرًا
منبئًا بالنهاية المقبلة، وقد اجتمعت فيه عناصر الانهيار، وفوق ذلك كله سلسلة من
الكوارث الطبيعية والأخطار الخارجية، وفي مواجهة كل هذه الأوضاع، عجزت إمكانيات
المجتمع الذاتية عن النهوض من الأزمة، فقواعد الاقتصاد ومرتكزاته الأساسية مدمرة،
ونظام الإقطاع الحربي عاجز عن تطوير الاقتصاد في مصر، والسياسات التي تتبعها
الطبقة الحاكمة الوافدة تبدد الفائض الاقتصادي كله، وفي المقابل كانت سياسة
الاحتكار والمصادرات المستمرة للأموال تعوق أي إمكانية لتحقيق التراكم الاقتصادي
لدى الطبقات المحكومة؛ إذ كان ملمح العصر الأساسي تكثيف الاستغلال الواقع على
القوى المنتجة إلى أقصى حدوده.
وقد تواكب هذا كله مع فقدان دولة المماليك لمبرر
وجودها التاريخي بمعنى ما، إذ فقدت طبقة المماليك تميزها الأساسي الكامن في قدرتها
العسكرية التي كانت سببًا في قيام دولتهم.
ومن ناحية
أخرى؛ لم يكن الخطر في هذه المرة خطرًا وافدًا يهدد الكيان الحضاري للمنطقة مثل
الخطر الصليبي
أو الخطر المغولي، بل خطرًا نابعًا من ظهور كيان جديد فتي وقوي داخل الإطار الحضاري
نفسه، ممثلًا هذه المرة فى الدولة العثمانية التي نجحت في القيام بدور الدولة "العالمية"
الإسلامية حتى أصبحت مؤهلة لتحل محل الخلافة العباسية الشكلية التي أحياها
المماليك في القاهرة.
ولقد استخدمت الدولة العثمانية أساليب الدولة المملوكية
في الرق العسكري والإقطاع الحربي ولكن بصورة أكثر كفاءة، فنجحت في القضاء على دولة
المماليك التي كانت تعاني من أعراض الانهيار؛ حيث فقدت أي طاقة لتجاوز الأزمة،
فالطبقة العليا في المجتمع عاجزة عن تطوير نفسها أو الخروج من أزمتها؛ أو حتى مجرد
الحفاظ على الحد الأدنى من القدرة على أداء مهامها، والطبقات المحكومة فاقدة
للقدرة على الفعل الإيجابي من أجل تغيير الأوضاع.
لقد كانت اللحظة التي اصطدمت فيها الدولة
العثمانية بدولة المماليك بحق لحظة استنفدت فيها منطقة المشرق العربي كل قدراتها
على المقاومة الإيجابية بعد أكثر من أربعة قرون من المواجهات العسكرية العنيفة مع
الغزوات الخارجية.
ولم يكن الغزو العثماني لمصر حدثًا مفاجئًا في
تاريخ المنطقة، فمنذ منتصف القرن التاسع الهجري بدأت علاقات الود والصداقة بين
الدولتين المملوكية والعثمانية تنقلب إلى علاقات عداء؛ حتى انتهت بهذه الحرب التى
قضت على دولة المماليك، وقد مرت العلاقات العثمانية المملوكية ابتداءً من عهد السلطان
برقوق (784- 801هـ/ 1382- 1399م) بفترات من التوتر والانفراج بلغت حد الصدام
العسكري في عهد قايتباي.
لقد تمثلت أهم الأسباب المباشرة لهذا الصدام في
تكرار إيواء المماليك للأمراء العثمانيين الفارين من حمامات الدم في البلاط
العثماني، حيث جرت العادة في الدولة العثمانية أن يقوم السلطان الجديد بقتل جميع الذكور
الذين يحتمل أن يكونوا منافسين له على العرش، وقد أصبح هذا التقليد شرعيًا منذ عصر
محمد الفاتح (855- 886هـ/ 1451- 1481م) حيث أصدر قانونًا يلزم السلطان بقتل إخوته عقب
توليه للعرش! وقد حل محل هذا النظام فى أواخر القرن 16م نظام أقفاص الأمراء الذي كان
يتم بمقتضاه تحديد إقامة ذكور الأسرة الحاكمة داخل مقصورات مغلقة سميت بالأقفاص،
وقد تكرر هرب بعض الأمراء من المذابح ولجؤهم إلى مصر وسوريا.
الأمر الثاني كان صراع النفوذ على الإمارات
الحدودية في مناطق الأناضول الجنوبية الشرقية المتاخمة للشام؛ كإمارات ذي القادر
وبني رمضان، ودولتي الشاه: البيضاء والسوداء.
وأخيرًا الموقف الذي اتخذه الغوري من الصراع
العثماني الصفوي.
لكن هناك أسباب أخرى بعيدة لهذا الصدام، كالسعي
إلى الهيمنة على منطقة المشرق الإسلامي سياسيًا ودينيًا وحضاريًا، علاوة على اتجاه
العثمانيين إلى تامين طرق تجارتهم الآتية من الشرق عبر البلاد العربية، وإلى
الحصول على ما كانت دولة المماليك تحصل عليه من مكوس وعوائد إذا نجحوا في التصدى
للخطر البرتغالي.
وإذا كان العثمانيون قد فشلوا في هزيمة الدولة
المملوكية في حربهما الأولى سنة 890هـ/ 1485م في عهد قايتباي، فإن الأمر قد اختلف
هذه المرة لاختمار كل عوامل الانحلال في دولة المماليك خلال ربع القرن الخير من
عمرها، فسقطت الشام ومصر، ثم لحقت بهما الحجاز، حيث انضمت طواعية إلى الدولة العثمانية
بمجرد سقوط الدولة المملوكية، التي كان أشراف الحجاز يدينون لها بالولاء، فقد أرسل
شريف مكة مندوبه إلى سليم في القاهرة ليعلن ولاء أشراف الحجاز لـسليم.
لقد سقطت دولة المماليك بتوابعها في أيدي
العثمانيين بعد معارك استمرت قرابة عشرة شهور
من 25 من رجب
922هـ تاريخ موقعة مرج دابق إلى 5من ربيع الثانى 923هـ. تاريخ آخر موقعة بين طومان
باي وسليم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق