السبت، 4 يونيو 2016

مخربشات
الاتفاق الجنائي على حب الوطن!!
(مقال نشرته من عشر سنوات في جريدة الدستور القاهرية)
عماد أبو غازي
 في شهر يوليو عام 1910 صدر ديوان وطنيتي للشيخ علي الغاياتي المحرر بجريدة اللواء، ذلك الديوان الذي يعد علامة في تاريخ الشعر المصري الحديث، ليس لقيمة ما ورد فيه من قصائد من الناحية الفنية، بل لما ترتب عليه من آثار سياسية وقانونية، فقد كان أول ديوان شعر يتسبب في صدور أحكام بحبس ثلاثة من ساسة مصر وصحفيها، الشيخ على الغاياتي نفسه، والشيخ عبد العزيز جاويش رئيس تحرير جريدة اللواء والزعيم محمد فريد رئيس الحزب الوطني، والذي صدر الحكم ضده بالحبس ستة أشهر بتهمة أنه "حسّن كتاب وطنيتي وامتدحه"، بسبب تقديمه للديوان.

محمد فريد

 والغريب في الأمر أن قصائد الديوان لم تكن جديدة بل إنها جميعا سبق أن نشرت على مدار عامين في الصحف، ولم يحاسب أحد الشيخ الغاياتي ولا أي من رؤساء تحرير الصحف التي نشرت قصائده، فما الذي جد بين عامي 1908 و1910؟
 كانت مصر في السنوات التالية لحادثة دنشواي تعيش في ظل أجواء عدوان ثلاثي غاشم ضد الحريات العامة، وفي مقدمتها حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير، وكانت جبهة العدوان تتكون من الخديوي والحكومة وسلطات الاحتلال، وقد بدأت الحملة في ظل وزارة بطرس باشا غالي التي تشكلت في نوفمبر 1908، وذلك عندما أصدر مجلس الوزراء قرارًا في 25 مارس بإعادة العمل بقانون المطبوعات الصادر في 26 نوفمبر سنة 1881، أثناء المواجهة بين الخديوي توفيق والثورة العرابية، ذلك القانون الذي كان يمنح وزارة الداخلية سلطات واسعة في إنذار الصحف وتعطيلها ووقفها تمامًا دون إجراءات قضائية، وكانت حجة الحكومة في عودة العمل بهذا القانون بعد توقف دام قرابة 14 عاما، رغبة أبدتها الجمعية العمومية سنة 1902! وأخرى أبدها مجلس شورى القوانين سنة 1904! بوضع حد للقدح في الأعراض الذي ينشر في بعض الصحف!
 ولم تمض أسابيع قليلة على إعادة قانون المطبوعات إلى الحياة إلا وكانت الحكومة قد بدأت في ملاحقة الصحف والصحفيين بالمحاكمة والحبس والتعطيل والإغلاق، وكان النصيب الأكبر بالطبع لصحف الحزب الوطني.
 وفي يوليو من نفس العام صدر قانون النفي الإداري الذي كان يجعل من حق السلطة الإدارية نفي من تره خطرًا على الأمن العام إلى جهات نائية بالقطر المصري.
 وعندما تشكلت وزارة محمد باشا سعيد في فبراير 1910 عقب جريمة اغتيال بطرس باشا غالي، واصلت إصدار التشريعات المعادية للحريات، فأصدرت في يوم  16 يونيو من نفس العام قانونًا يقضي بإحالة قضايا الصحافة إلى محاكم الجنايات بعد أن كانت من اختصاص محاكم الجنح، لأن الحكومة رأت أن محاكم الجنح تتهاون مع الصحفيين في أحكامها، كما أن التعديل كان يسلب الصحفي حقه في درجة من درجات التقاضي، مما يسهل مهمة الحكومة في ملاحقة الصحافة الوطنية.

محمد باشا سعيد
 كما أصدرت في نفس اليوم قانونًا آخر بتعديل قانون العقوبات يقضي بمعاقبة المتهمين بالاتفاق الجنائي حتى ولو لم يتوافر فيه ركن الاشتراك في ارتكاب الجريمة، أي أنها شرعت محاكمة الناس على نواياهم وضمائرهم، الأمر الذي وصفه عبد الخالق باشا ثروت في إحدى مرافعاته قائلًا: "كان شديدًا علينا يوم أن جر على البلاد ما فعله السفهاء من ضرورة سن قانون الاتفاقات الجنائية، ذلك القانون الاستثنائي الذي في وجوده سبة على أمن الديار، وحجة دائمة على أننا دائمًا تحت خطر الاضطراب والهياج".

عبد الخالق ثروت
 كما فرضت التعديلات قيودًا على حرية الصحف في نشر المرافعات في القضايا الجنائية، وأقرت للمرة الأولى المسئولية الجنائية على مديري الصحف بالنسبة لما ينشر فيها، حتى لو لم تتوافر أركان الاتفاق الجنائي في وقائع النشر، وأضاف التعديل عقوبة جديدة لجريمة من أغرب الجرائم أسماها التهديد بالكتابة أو بالقول ولو لم يكن مقرونًا بطلب !! ويرى المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي أن الغرض الحقيقي من وراء هذا التعديل الأخير كان معاقبة الشبان الوطنيين الذين كانوا يطوفون على أعضاء مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، لدعوتهم لمناصرة الأمة في مطالبها.
 وأحكمت الحكومة الخناق على الحريات بإصدار لائحة المسارح التي منعت بمقتضاها تمثيل الروايات التي ورد فيها لفظ الحرية والاستقلال، كما منعت إخراج بعض الروايات التمثيلية.
 وبلغ الأمر مداه في القضية التي عرفت بقضية طنطا في نوفمبر 1910 عندما قبض على مجموعة من طلبة المدارس الثانوية بالمدينة بتهمة تكوين جمعية سرية مناهضة للنظام، ولما فشلت النيابة في إثبات التهمة عليهم عدلتها إلى إهانة مدير الغربية، والمدير هو المحافظ بلغة اليوم، وكل جريمة هؤلاء الصبية أنهم حشدوا حشدًا بمعرفة المدير في محطة السكة الحديد بطنطا لاستقبال "جناب" الخديوي عند "تشريفه" للمدينة، فهتفوا ليحي الخديوي، ليحي الدستور، لتحي مصر.
 في هذه الأجواء التي أسست للاستبداد السياسي وشرعت له قانونيًا جاءت قضية ديوان وطنيتي، وكان حبس الزعيم محمد فريد، ولتفاصيل القضية وتداعياتها حديث آخر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...