الأحد، 5 يونيو 2016

مخربشات
جريمة "تحبيذ" الوطنية !!!
(مقال نشرته في يوليو 2006 في الدستور القاهرية)
عماد أبو غازي

 بين عامي 1908 و1910 أصدرت حكومة بطرس باشا غالي ومن بعدها حكومة محمد باشا سعيد مجموعة من التشريعات المقيدة للحريات العامة، وقد وجهت تلك التشريعات ضربات قاسية للحريات في مجالات الصحافة والمسرح والشعر، وكانت ضرباتها تلك تهدف إلى محاصرة الحركة الوطنية المتصاعدة بعد حادثة دنشواي، فقد كان دور الصحافة واضحًا لكل ذي عينين في فضح ما جرى في تلك الحادثة، وفي حشد الناس خلف قيادات الحركة الوطنية المطالِبة بالاستقلال والدستور، وأدركت سلطات الاحتلال والخديوي والحكومة مدى تأثير الصحافة في التحريض السياسي ضد الاحتلال وسياسته وضد الحكومة المنفذة لتعليماته وضد المواقف الجديدة للخديوي عباس حلمي الثاني الذي تحول من مصادمة الاحتلال إلى التحالف معه، كما لمس الجميع دور الفن والأدب في شحن الوجدان الوطني، ومن هنا كان إصدار الحكومة لتشريعات رقابية تقييد حرية الإبداع، وإحياء قوانين مهجورة للمطبوعات تسمح للحكومة بحبس الصحفيين، وتعديل مواد في قانون العقوبات تحاسب الناس على نواياهم.
 وكان كُتاب الحزب الوطني وساسته وصحفيوه هم المستهدفون أساسًا، ذلك لأنه منذ أسس مصطفى كامل الحزب في أواخر 1907 أصبح رأس الحربة للحركة الوطنية المصرية، وأضحت صحافته صوتًا لكل الوطنيين الداعين للاستقلال، الذين يربطون بوضوح بين استقلال الوطن والدستور الذي يحقق رقابة الأمة من خلال ممثليها المنتخبين على ما تقوم به الحكومة، ومثلما شهدت مواقف عباس حلمي الذي بدأ حكمه وطنيًا معاديًا للاحتلال تحولًا واضحًا في تلك السنوات، شهدت الحركة الوطنية هي الأخرى تحولات في مواقفها، خاصة في ظل زعامة محمد فريد لها بعد وفاة مصطفى كامل، فقد أصبحت الرؤية أكثر وضوحًا وتحديدًا، زالت الأوهام حول مساندة الدولة العلية (تركيا) لمصر في مسعاها نحو الاستقلال، كما اتجهت الحركة الوطنية إلى الشعوب الأوروبية والأحزاب العمالية والاشتراكية وحركة السلام العالمي لمساندتها في مطالبها بدلًا من الاتجاه لحكومات الدول الأوروبية التي كانت لا تختلف في توجهات الاستعمارية بل تختلف في صراعها حول المستعمرات، وكان التوجه الثالث للحزب الوطني والذي شكل الخطر الحقيقي على الوجود الاستعماري في مصر وعلى السلطة الاستبدادية للخديوي يتمثل في الإيمان بأن التغيير لن يأتي إلا من خلال حركة شعبية واسعة، ومن هنا اتجه الحزب إلى دعم إنشاء تنظيمات طلابية وعمالية ونقابية دفعًا لحركة الناس إلى الأمام، لذلك أصبح ضرب الحزب الوطني هدفًا أساسيًا للحكومة والاحتلال والخديوي.

محمد فريد وابنته
 توالت القضايا ضد صحف الحزب الوطني وتعرضت للإنذار وللإغلاق الإداري أكثر من مرة، كما سجن أكثر من كاتب وصحفي من كتابها، لكن الحزب استمر والحركة الوطنية تصاعدت، فبدأ التخطيط لتوجيه ضربة مباشرة لرئيس الحزب محمد فريد، وجاءت الفرصة مع صدور ديوان وطنيتي للشاعر علي الغاياتي، وكان الديوان قد صدر بمقدمتين واحدة للشيخ عبد العزيز جاويش والثانية لمحمد فريد حملت عنوان: "تأثير الشعر في تربية الأمم"، تحدث فيها عن أهمية الشعر في حفز الروح الوطنية لدى الشعوب، وأشار إلى الأثر السلبي لاستبداد حكومة الفرد ـ سواء في الغرب أو في الشرق ـ على الشعر، وكيف أدت إلى "ظهور قصائد المدح البارد والإطراء الفارغ للملوك والأمراء والوزراء"، وفي نفس الوقت أشاد بشعراء الأرياف الذين "وضعوا عدة أناشيد وأغان في مسألة دنشواي وما نشأ عنها، وفي المرحوم مصطفى كامل باشا ومجهوداته الوطنية، وفي موضوع قناة السويس، ورفض الجمعية العمومية لمشروع مد امتيازها، وأخذوا ينشدونها في سمرهم وأفراحهم على آلاتهم الموسيقية البسيطة"، واعتبر أن هذه الظاهرة "تبشر بقرب زمن الخلاص من الاحتلال ومن سلطة الفرد"، فكانت تلك المقدمة سببًا في محاكمة فريد بتهمة أنه "يحبّذ" و"يحسّن" و"يمتدح" ديوانًا يدعو إلى حب الوطن.

 علي الغاياتي
 وتمت محاكمة الشاعر علي الغاياتي والشيخ جاويش في أغسطس 1910 وصدر الحكم غيابيًا بحبس الغاياتي سنة مع الشغل، وحضوريًا بحبس الشيخ جاويش ثلاثة أشهر.

عبد العزيز جاويش
 أما محمد فريد فكان في أوروبا، وأمامه فرصة كاملة للبقاء هناك هربًا من المحاكمة، لكنه قرر العودة ومواجهة الموقف، ويذكر المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي أن ابنة فريد أرسلت له خطابًا تدعوه إلى العودة لمواجهة المحاكمة قالت فيه:
 "ولنفرض أنهم يحكمون عليك بمثل ما حكم به على الشيخ عبد العزيز جاويش، فذلك أشرف من أن يقال بأنكم هربتم، وما تحملتم الهوان في سبيل وطنكم ... وأختم جوابي بالتوسل إليكم باسم الوطنية والحرية، التي تضحون بكل عزيز في سبيل نصرتها أن تعودوا وتتحملوا آلام السجن"
  في يناير 1911 تمت محاكمة فريد وحكم عليه بستة أشهر أمضاها كاملة في سجن الاستئناف بباب الخلق من 23 يناير إلى 17 يوليو لأنه حبذ الوطنية!


 وعندما خرج محمد فريد من السجن فجر يوم 18 يوليو كتب يوم خروجه مقالًا بعنوان "من سجن إلى سجن".
فريد في محبسه

 واقتبس منه:

 "مضى عليّ ستة أشهر في غيابات السجن، ولم أشعر أبدًا بالضيق إلا عند اقتراب أجل خروجي، لعلمي أني خارج إلى سجن آخر، هو سجن الأمة المصرية، الذي تحده سلطة الفرد ويحرسه الاحتلال... حقيقة لم أشعر بأي انشراح عند حلول أجل مفارقتي لهذه الغرفة الضيقة التي قضيت بها ستة أشهر قمرية ... لعلمي أني خارج إلى سجن أضيق، ومعاملة أشد، إذ أصبح مهددا قانون المطبوعات، ومحكمة الجنايات، محروما من الضمانات التي منحها القانون العام للقتلة وقطاع الطريق، فلا أثق أني أعود لعائلتي إن صدر مني ما يؤلم الحكومة من الانتقاد، بل ربما أوخذ من محل عملي إلى النيابة، فالسجن الاحتياطي، فمحكمة الجنايات فالسجن النهائي، وستبقى حالتنا كذلك حتى نسترد الدستور."    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...