الاحتلال
العثماني لمصر
أسباب
ونتائج
(5)
عماد أبو غازي
يبقى التساؤل: هل نجح الغزو العثمانى لمصر فى
إخراجها من أزمتها التاريخية ؟
وهل أحدث
تغييرًا جوهريًا فى أوضاع مصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ وهل تم الانتقال
المتعثر من العصور الوسيطة إلى العصر الحديث على أيدى العثمانيين؟
استخدم المؤرخ البريطاني أرنولد توينبى مصطلح
"السلام العثماني" للدلالة على حالة السلام والاستقرار الذى فرضته
الدولة العثمانية بالقوة على منطقة شرق البحر المتوسط وجنوب شرق أوروبا وشمال
إفريقيا، على غرار مصطلح "السلام الروماني" الذي يشير إلى سيطرة
الأمبراطورية الرومانية على حوض البحر المتوسط قبيل القرن الأول الميلادي.
ولقد أدى ذلك "السلام العثماني" الذي
فُرض على المنطقة إلى نوع من الاستقرار والوحدة؛ أزالا آثار فترة تحلل دولة المماليك
وما صحبها من اضطراب وفوضى، فنشطت التجارة الداخلية، وانتعشت الزراعة، وعادت
الزيادة فى أعداد السكان مرة أخرى، وأصبحت مصر والشام توفران ثلث مجموع واردات
الخزينة العثمانية، وتوقفت سلسلة الأوبئة والمجاعات.
لكن هذا الازدهار لم يستمر طويلًا؛ فقبل نهاية
القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، عادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل
الغزو من تأزم واضطراب، حيث أن انتماء الدولة العثمانية إلى عالم العصور الوسيطة ـ
بنظامها الاجتماعي والاقتصادي وبفكرها وحضارتها ـ كان يضع حدودًا لهذا الازدهار
المؤقت، وبالتالى لم يصحب هذا الازدهار أي تطوير جوهري في العلاقات السائدة في
الزراعة، لا على مستوى أدوات الإنتاج في الريف، ولا على مستوى العلاقات الإنتاجية
السائدة في المجتمع.
وإذا كانت أراضى مصر لم توزع فى بداية الحكم
العثمانى إلى تيمارات وزعامات (التيمار الإقطاع الصغير الذي يمنح للمقاتلين، وتجمع
على تيمارات، والزعامة الإقطاع الكبير، وتجمع على زعامات، ويتحدد الفارق بينهما
على أساس الريع الذى يغله الإقطاع.) مثل أراضى الدولة في الروملى والأناضول، فإنها
خضعت لنظام المقاطعات المملوكة للدولة التى يديرها موظفون تابعون لها، وسرعان ما
تبلور نظام الالتزام كشكل آخر من أشكال الإقطاع، فحل محل نظام المقاطعات بدءًا من
عام 1069هـ/ 1658م، وإذا كان نظام الالتزام يختلف في كثير من ملامحه عن الإقطاع
المملوكى، فإن جوهر العلاقات داخله لا يختلف كثيرًا عنه في النظام الإقطاعي.
كذلك فإن
الانتعاش التجاري الذي ساد تجارة المرور عبر الدولة العثمانية، لم ينعكس على نشاط
الصناعات المحلية أو على التجارة الداخلية بالقدر نفسه، لذا؛ فسرعان ما عادت
الأزمة المالية إلى الظهور مرة أخرى، واتجهت الدولة إلى اتباع الأساليب نفسها التي
اتبعها المماليك في حلها، من تخفيض لقيمة العملة ولنسبة المعدن الثمين فيها، وفرض
لمزيد من الضرائب، وبالطبع كان لمثل هذه السياسات الآثار السلبية نفسها على الوضع
الاقتصادي في مجمل الإمبراطورية العثمانية.
ولقد ظل التكوين الاجتماعي السابق على العصر
العثماني في مصر سائدًا، فقد سمح العثمانيون للمماليك بالبقاء، وسمحوا لهم باتباع
طرق التدريب نفسها، وتجديد صفوفهم من المصادر نفسها، بل استعانوا بهم في حكم
البلاد؛ فعاد للمماليك نفوذهم وأصبحوا القوة السياسية الأولى في البلاد؛ حتى أصبح
الباشا العثماني مجرد ظل شكلي للسلطان لا يملك فى معظم الأحوال الكثير من أمر
البلاد.
هذا وقد استجدت
بعض الأمور على البلاد، أول هذه الأمور: أن طبقة المماليك التي كانت في السابق
تجدد نفسها من أجل مواجهة الأخطار الخارجية، أصبحت تجدد نفسها لمساعدة حكم خارجي في
السيطرة على البلاد، وثانيها: أن جزءًا كبيرًا من الفائض الاقتصادي أصبح ينزح إلى
الخارج بما زاد من ضعف اقتصاد مصر.
وإذا كان العصر المملوكي قد عرف بسفه في الإنفاق،
إلا أنه برغم أي شئ كان في غالبه ينفق داخل مصر، أما فى ظل الحكم العثماني، مثله
مثل أي عصر تعرضت فيه مصر لسيطرة خارجية منذ نهاية الدولة الحديثة-، فإن جزءُا
كبيرًا من الفائض الاقتصادي كان يوجه إلى مركز الدولة التي احتلت البلاد وينفق
خارج مصر، أو ينفق كأجور للموظفين ورجال الحامية العثمانية.
ومما فاقم من حدة المشاكل الاقتصادية؛
الاضطرابات السياسية التى شهدتها البلاد بعد سنوات قليلة من بداية الحكم العثمانى؛
فلم يستقر الحكم العثماني طويلًا في مصر؛ فبعد سنوات قليلة من الغزو العثماني حاول
الباشا العثماني أحمد باشا الملقب بالخائن أن يستقل بمصر، وضرب السكة باسمه، وأمر
بالدعاء له على المنابر (930- 931هـ/ 1524م) وانتهت حركته بإعدامه وتعليق رأسه على
باب زويلة.
كذلك توالت ثورات واضطرابات جنود الحامية
العثمانية وصراعاتهم فيما بينهم؛ خاصة تلك الاضطرابات التي بدأت سنة 997هـ/ 1589م
واستمرت حتى 1017هـ/ 1609م، والتي قام بها جند السباهية في الحامية العثمانية ضد
الباشاوات العثمانيين الذين تعاقبوا على حكم البلاد في هذه الفترة،، وذلك في
محاولة لفرض ضرائب على الفلاحين عرفت باسم الطلبة، وقد شارك الجراكسة المنضمون إلى
الحامية في هذه الاضطرابات مشاركة بارزة، وأثارت هذه الاضطرابات انتباه مؤرخي
العصر العثماني؛ فوضع العديد منهم مؤلفات مستقلة حول هذه الوقائع؛ مثل محمد بن أبى
السرور البكري في مؤلفه "كشف الكربة في رفع الطلبة"، ومحمد البرلسي
السعدي في مؤلفه "بلوغ الأرب برفع الطلب".
إضافة إلى ما سبق؛ فقد شهدت مصر منذ القرن الحادي
عشر ظاهرة الصراعات بين المماليك، ثم انقسامهم إلى طائفتين رئيستين: القاسمية
والفقارية، وقد اشتعلت الحروب بين الطائفتين بصورة انعكست سلبًا على الأوضاع الاقتصادية
في مصر.
وقد تواكبت هذه الأمور مع تفاقم الأزمة المالية
والاقتصادية في الدولة العثمانية، ودخول هذه الدولة عصر انهيار طويل بدأ منذ النصف
الثاني من القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) واستمر حتى زوال الدولة
العثمانية.
وفي هذا الوقت كان الغرب يتطور، في حين تجمد
الشرق تحت الحكم العثماني، وذلك في لحظة افتراق الطرق في العالم بين العصور
الوسيطة والعصر الحديث، فبقيت مصر لثلاثة قرون أخرى ترزح في ظلمات العصور الوسيطة؛
حتى بدأت نهضتها الحديثة مع عصر محمد علي.
أما عن الشعب المصرى، فإنه لم يتقبل الحكم
العثماني بسهولة، لكن حركات المقاومة اتخذت في معظم الأحوال الطابع السلبي الذي
ساد من قبل في العصر المملوكي، وإن كانت بعض هذه الحركات قد نجحت في الاستقلال
الجزئي أو المؤقت عن الدولة العثمانية.
منذ بداية الحكم العثماني لمصر؛ بدأت بوادر
حركات التمرد ضد العثمانيين من المماليك والعرب والمصريين، بصورة عكست رفض الحكم
الجديد، وإن كانت هذه الحركات لم تصل إلى حد إنهاء الحكم العثماني؛ فإنها نجحت في
تحقيق استقلال كامل لفترة قصيرة في عهد علي بك الكبير (1179- 1186هـ/ 1755- 1772م)،
كما نجح أحد شيوخ الهوارة في الصعيد وهو همام بن يوسف الهواري (1179- 1183هـ
/1765- 1769م) في السيطرة الكاملة على الصعيد والاستهانة الكاملة بالحكم العثماني،
ومن ناحية أخرى توالت الحركات الشعبية ضد الحكم العثماني في القاهرة، وحركات
العصيان وهجر القرى في الريف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق