الخميس، 17 نوفمبر 2016

(3)

المستبدون في الأرض
عماد أبو غازي

  لقد جاء الدستور الجديد مرسخًا للاستبداد وسالبًا من الأمة مكتسباتها التي حققتها بعد نضال طويل بدأ منذ عام 1795، ولعل أسوأ ما كان في ذلك الدستور، دستور فؤاد وصدقي، إنه عاد بمصر إلى الوراء كثيرًا عندما جعل الدستور منحة من الملك لا عقدًا بين الأمة والملك، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل كانت نصوص الدستور نفسها نكوصًا وتراجعًا عما حققه المصريون في دستور 1923.


 ويرصد المؤرخون الذين أرخوا لتلك الحقبة وفي مقدمتهم: عبد الرحمن الرافعي الذي كان معاصرًا للأحداث، والدكتور عبد العظيم رمضان والدكتور محمد ضياء الدين الريس، مثالب ذلك الدستور في عدة نقاط، أولها أنه قيد المسئولية الوزارية، أي حق مجلس النواب في طرح الثقة بالحكومة وجعل ممارسة هذا الحق الذي يعد أساس أي نظام برلماني سليم أمرًا مستحيلًا، وقد اقتبست كل الدساتير التي وضعت بعد يوليو 1952 هذا المنطق من إسماعيل باشا صدقي، ذلك المنطق الذي حول المجالس النيابية إلى مجالس منزوعة القوة عاجزة عن مسألة السلطة التنفيذية أو محاسبتها.
 وثانيها أن سلطة الملك في حل البرلمان لم تعد مقيدة بتحديد موعد لإجراء الانتخابات الجديدة يتضمنه قرار الحل، كما لم يعد واجبًا على الملك دعوة البرلمان لدورة انعقاد طارئ متى طلب ذلك أغلبية الأعضاء مثلما كان عليه الحال في دستور 23، بل ترك الأمر كله لتقدير الملك، كما أنه جعل أغلبية أعضاء مجلس الشيوخ معينين بعد أن كانت أغلبيتهم من المنتخبين، مما أضعف سلطة البرلمان.
 وثالثها أنه وسع من حقوق السلطة التنفيذية ومنحها حق التشريع طوال فترة غياب البرلمان والتي تمتد لسبعة أشهر، كما قيد من سلطات البرلمان في مراقبة الميزانية ومنح الحكومة حق تعديلها دون الرجوع إلى البرلمان، بل حرم البرلمان من حق اقتراح القوانين المالية وقصر هذا الحق على الملك وحده، كما جعل للملك حق إهمال أي قانون يقره البرلمان؛ واعتبر الدستور الجديد أن عدم تصديق الملك على القانون لمدة شهرين يعتبر رفضًا له، ولا يجوز للبرلمان النظر فيه مرة أخرى إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلسين، وأعطى كذلك للملك وحده حق تعيين شيخ الأزهر والرؤساء الدينيين في مصر، بعد أن كان هذا حقًا للحكومة الحائزة على ثقة البرلمان المنتخب، أي حق من حقوق الأمة من خلال ممثليها.
 أما أخطر التجاوزات في دستور صدقي فقد كانت تقنينه للتعدي على الحريات العامة، عندما "دستر" تعطيل الصحف بقرار من محكمة الاستئناف، في جلسة سرية!
 وحتى هذا النص الشاذ لم يلتزم به صدقي، فقد لجأ إلى تعطيل الصحف بالطرق الإدارية منذ بداية عهده وطواله، ففي يوليو 1930 وعقب مظاهرات الإسكندرية التي سقط فيها 20 شهيدًا، أغلقت الحكومة صحف كوكب الشرق والبلاغ واليوم إغلاقًا نهائيًا، مع قرار مسبق بتعطيل أي صحيفة جديدة تكون غطاء لواحدة من تلك الصحف المعطلة. وكانت تلك الصحف الثلاثة من صحف الوفد، لكن انتهاك الحريات طال بعد ذلك صحف حزب الأحرار الدستوريين عندما انضم الحزب بقوة إلى الوفد في معارضة دستور 30، فعطلت الحكومة جريدة السياسة لسان حال الأحرار، كما عطلت أيضًا المؤيد الجديد وصدى الشرق والأحرار الدستوريين، وغيرها من الصحف.
 واستكمالًا لمقومات الاستبداد حل الملك جميع مجالس المديريات، وأصدرت حكومة صدقي قانونًا جديدًا للانتخابات ملحقًا بالدستور، ألغى مبدأ الانتخاب المباشر، وجعل الانتخابات على مرحلتين، في الأولى يختار الناخبون مجمع انتخابي، ثم يقوم أعضاء هذا المجمع بانتخاب البرلمان نيابة عن الناخبين، كما رفع القانون سن الناخب إلى 25 سنة، واشترط في عضو المجمع الانتخابي شروطًا مالية وتعليمية استبعد به معظم المواطنين، كما حرم جميع المشتغلين بالمهن الحرة من محامين وأطباء وصحفيين ومهندسين من خارج القاهرة حق ترشيح أنفسهم لعضوية البرلمان!
 وفي فبراير 1931 عدلت الحكومة قانون العقوبات لتستحدث نصوصًا تعاقب على التعبير عن الرأي من خلال الصحافة، ومن تلك النصوص التي ما زالت آثارها قائمة إلى يومنا هذا، عقاب من ينشر أخبارًا بشأن تحقيق جنائي قائم، ومن ينشر أمورًا من شأنها التأثير في القضاة أو رجال النيابة أو غيرهم من الموظفين المكلفين بالتحقيق، أو التأثير في الرأي العام!
 وبعدها بأشهر قليلة عدلت قانون العقوبات مرة أخرى لتشدد العقوبات على "جرائم" النشر التي تقع عن طريق الصحف وغيرها من طرق النشر، واستحدثت مصطلحات تحكمنا إلى يومنا هذا مثل "الإضرار بالمصلحة العامة" و"الإخلال بالنظام العام" و"التحريض على قلب نظام الحكومة" و"والتحريض على كراهية النظام أو الازدراء به"، كما وضعت الحكومة قانونًا جديدًا للمطبوعات تضمن شروطًا تعجيزية لإصدار الصحف.
 وكان صدقي قد أكمل ديكور نظامه الجديد بتأسيس حزب يسانده مثلما فعل زيور باشا في الانقلاب الدستوري سنة 1925 عندما أسس حزب الاتحاد، وقد أسمى صدقي حزبه حزب "الشعب" زورًا وبهتانًا، فقد كان أبعد ما يكون عن الشعب، ويبدو أنها عادة المستبدين أن يسموا الأشياء بعكسها، وأخذت الإدارة تروج لهذا الحزب وتدعو الناس بمختلف وسائل الترغيب والترهيب والتوريط في الانضمام له، مثلما حدث مع حزب الاتحاد من قبل ومع التنظيمات الحكومية التي جاءت منذ انقلاب يوليو من بعد.
لكن هل صمتت الأمة واستكانت؟
 لقد لخص المؤرخ الكبير محمد شفيق غربال الأزمة التي عاشتها مصر في تلك السنوات بقوله:
 "إن ما حاوله صدقي باشا في دستوره الجديد انتقاص من حقوق حصل عليها الشعب. وإنه من الطبيعي ومن المشروع أن يدافع الشعب عن تلك الحقوق. وحاول صدقي باشا أن يحمله على الإذعان. فكانت المعركة الدستورية الكبرى. انتصر الشعب في النهاية، وعاد له دستوره الأول، فعدنا إلى ما كنا عليه. وذهبت جهود صدقي باشا ومواهبه هباء في هباء".

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...