(9)
يسقط هور ابن التور
عماد أبو غازي
جاء
تصريح السير صمويل هور وزير الخارجية البريطاني يوم 9 نوفمبر 1935 والذي عرفه
المصريون من الصحف التي نشرته في صباح اليوم التالي في وقته، جاء ومصر تستعد للاحتفال بذكرى عيد الجهاد الوطني، وعيد الجهاد
الوطني يصادف 13 نوفمبر من كل عام، اليوم الذي توجه فيه سعد زغلول وعبد العزيز
فهمي وعلي شعراوي سنة 1918 إلى دار المعتمد البريطاني مطالبين بإنهاء الأحكام
العرفية والسماح لهم بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس ممثلين للشعب المصري، وكانت
مصر تحتفل بهذا اليوم وتعتبره أهم أعيادها الوطنية لسنوات طويلة، إلى أن ألغى نظام
يوليو 52 هذا اليوم من ذاكرة الوطن.
سير صمويل هور
جاء تصريح هور وسحب الانقسام تخيم على المعارضة
المصرية، والصدام في صفوفها أشد من الصدام بينها وبين السرايا، وبينها وبين حكومة
توفيق نسيم باشا، رغم مرور عام على توليها دون أن يعود لمصر دستورها، جاء التصريح
ليستفز الشعور الوطني للمصريين ويؤدى إلى التقارب بين صفوف المعارضة، لكن ما الذي
استفز الناس فيما قاله السير صمويل هور؟
لقد جاء في تصريحه:
"لا صحة على
الإطلاق لزعم الزاعمين إننا نعارض في عودة النظام الدستوري لمصر، بشكل يتفق مع
احتياجاتها، فنحن انطلاقًا من تقاليدنا لا نريد أن نقوم بذلك ولا يمكن أن نقوم به،
فقط عندما استشارونا في الأمر، أشرنا بعدم إعادة دستور 23 ولا دستور 30، لأنه قد
ظهر أن الأول غير صالح للعمل به، والثاني غير مرغوب فيه".
لقد فضح التصريح حكومة نسيم التي لا تستطيع أن
تأخذ خطوة تعد من صميم أعمال السيادة إلا بعد استئذان الحكومة البريطانية، كما كشف
حقيقة موقف بريطانيا المعادي لعودة دستور 23.
محمد توفيق نسيم باشا
كان رد الفعل الشعبي سريعًا وقويًا، فقد نشرت
صحف 10 نوفمبر 1935 التصريح مهاجمة إياه، وفي يوم 11 نوفمبر جاءت المبادرة من جانب
الطلاب، فاجتمعت اللجنة التنفيذية العليا التي تمثل اتحاد طلاب الجامعة، وأصدرت
نداءً وطنيًا بمناسبة عيد الجهاد، نشرته صحف 12 نوفمبر، دعت فيه إلى أن يحتفل طلبة
الجامعة والأمة بهذا اليوم احتفالًا يليق بجلال هذه الذكرى، وأعلن بيان اللجنة بدء
الجهاد من أجل الدستور والاستقلال، وكان الطابع الغالب على الحركة عند بدايتها،
الوحدة والبعد عن التحزب. وفي نفس اليوم بدأ تحرك في الوفد للإعداد لموقف يعلنه
رئيس الحزب مصطفى النحاس في الاحتفال بعيد الجهاد الوطني، وكان برنامج الاحتفال
يبدأ باجتماع في مقر النادي السعدي يرأسه النحاس باشا، ثم يتوجه المجتمعون لزيارة
مقبرة سعد زغلول بمنطقة الإمام الشافعي، حيث كانت حكومة صدقي باشا والحكومات التي
أعقبتها قد حالت دون نقل رفات الزعيم إلى ضريحه بمنطقة المنيرة، ثم يقام الاحتفال
الكبير بسرادق منصوب إلى جوار بيت الأمة، وقد فاق عدد الدعوات الموجهة لحضور
الاحتفال عشرة آلاف دعوة، وكان مقررًا أن يلقي النحاس باشا خطابه في هذا الاحتفال.
وفي صبيحة يوم 13 نوفمبر خرجت المظاهرات من
الجامعة ومن دار العلوم والأزهر وبعض المدارس الثانوية في القاهرة وخارجها تهتف في
الشوارع "يسقط هور ابن التور"،
وتدعو زعماء الأحزاب إلى توحيد الصفوف من أجل استعادة الدستور.
وتصف جريدة الأهرام يوم 14 نوفمبر مظاهرات
الجامعة:
"قبل
الساعة الثامنة من صباح أمس اندفعت سيول الطلبة من الباب العمومي للجامعة،
واحتشدوا بالفضاء الواقع أمامها، وفي كل لحظة كان عددهم يزداد، وكلما وفد شباب
كلية أو مدرسة ومعهم علمهم يرفرف فوق الرؤوس، استقبلهم زملاؤهم المجتمعون بالتصفيق
الحاد والهتافات الداوية، وبعد زمن وجيز بلغ عددهم سبعة آلاف طالب ويزيد. وأقام
الطلبة منبرًا للخطابة عند مدخل كلية الحقوق، وفي وسط هزيم الرعد اعتلاه أحدهم
وأخذ يلقي خطابه في قوة وبيان واضح، وجعل الخطباء يتناوبون الكلام مستعرضين موقف
الأمة المصرية من عام 1918 إلى يومنا هذا... وبعد الساعة العاشرة بدأ زحف الطلبة
العام نحو القاهرة، لزيارة بيت الأمة وزيارة ضريح المغفور له سعد باشا."
وتحركت المظاهرات في عدة اتجاهات ومن عدة أماكن،
حيث اتجهت المظاهرة الرئيسية من الجامعة لتعبر كوبري الجلاء في اتجاه وسط المدينة،
فاشتبكت معها قوات البوليس والقوات البريطانية عند كوبري الإسماعيلية (قصر النيل
حاليا) وفي مدخل ميدان الإسماعيلية (التحرير)، لكنهم نجحوا في الوصول إلى الميدان
وتفرقوا في عدة اتجاهات، فاتجهت مظاهرة كبيرة إلى ميدان عابدين واشتبكت مع قوات
البوليس أمام القصر، واتجهت مظاهرة أخرى إلى دار المندوب السامي البريطاني في قصر
الدوبارة، واتجهت مظاهرة ثالثة إلى شارع جامع شركس (صبري أبو علم) حيث كانت
القنصلية البريطانية، وانتهت كل هذه المظاهرات باشتباكات عنيفة دامية مع قوات
البوليس والقوات البريطانية.
وفي نفس الوقت خرج طلاب مدرسة التجارة العليا بشارع قصر العيني في مظاهرة
حاشدة اعتدى عليهم رجال الشرطة اعتداءً وحشيًا، وخرجت مظاهرات المدارس الثانوية
والأزهرية في عدة أحياء من القاهرة، وسقط عشرات الجرحى في المظاهرات.
وشهدت عدة مدن مصرية مظاهرات طلابية حاشدة، كان
أشدها عنفًا مظاهرات طنطا التي بدأها طلبة المعهد الأحمدي وانضم أليهم طلاب
المدارس الثانوية، وسقط فيها أول شهيدين من شهداء الثورة.
وفي مساء يوم 13 نوفمبر 1935 ألقى النحاس باشا
خطابًا في حشد جماهيري كبير في السرادق الذي أقامه الوفد المصري بجوار بيت الأمة،
وفي ختام خطابه الطويل أعلن موقف الوفد المصري من الوضع القائم فيما أسماه
"كلمة الوفد المصري"، وجاء فيها على لسان النحاس باشا وفقًا للنص الذي
أورده الدكتور محمد ضياء الدين الريس في كتابه عن الاستقلال والدستور:
"وقد اجتمع الوفد
المصري أول أمس، كما اجتمع مع الهيئة الوفدية، وأجالوا البحث في الموقف السياسي
الحاضر، وإليكم كلمة الوفد الإجماعية الحاسمة بهذا الخصوص:
أولًا: توجيه الدعوة إلى الأمة كلها بجميع
طبقاتها، وعلى اختلاف هيئاتها واجتماعاتها، بعدم التعاون مع الإنجليز ما دام
اعتداؤهم قائما على الدستور والاستقلال.
ثانيًا: إن الواجب الوطني أصبح يحتم على الوزارة
المصرية أن تستقيل نزولًا على خطة عدم التعاون، ولأن استمرارها في الحكم بعد إصرار
الإنجليز على الاعتداء على الدستور والاستقرار هو إقرار لهذا الاعتداء.
ثالثًا: إذا لم تستقل الوزارة فإن الوفد لن
يؤيدها بعد الآن.
رابعًا: كل وزارة تقبل أن تعاون الإنجليز مع
استمرار اعتدائهم على الدستور والاستقلال هي وزارة خارجة على البلاد يقاومها الوفد
بكل ما يستطيع.
تلك كلمة الوفد يقولها صريحة عالية، لتسمعها
الأمة المصرية، وتعيها الوزارة والمصرية، وليعمل بها العاملون."
ثم وجه خطابه إلى الداعين إلى الوحدة القومية
بين الأحزاب قائلًا:
"إنما يكون
توحيد الكلمة بنزول الجميع على مبادئ الأمة وأن يعمل كل من ناحيته لها، وإني باسم
الوفد المصري أدعو الشعب المصري ـ تحقيقًا لوحدة الجهود ـ إلى الاستمساك بهذه
المبادئ، وأن تعلن جميع الهيئات في غير مواربة ولا إبهام المطالبة بعودة دستور
الأمة، ناجزًا غير مؤجل، وكف عدوان الإنجليز عنه وعن استقلال البلاد، بهذا وبهذا
وحده تكون الوحدة."
وقد خرج الحاضرون في مظاهرة تهتف بالثورة فتصدت
لهم قوات البوليس بقيادة الأميرالاي لوكاس بك مساعد حكمدار العاصمة، وأطلقت عليهم
الرصاص الحي، وقد أسفر الاشتباك عن استشهاد العامل إسماعيل محمد الخالع الذي كان
يعمل في السرادق متأثرًا بجراحة، وجرح 150 آخرين، والقبض على 220 من المشاركين في
الاحتفال والمظاهرات.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق