الثلاثاء، 22 نوفمبر 2016

(8)

سقوط دستور 30

عماد أبو غازي

  لم يؤد سقوط صدقي إلى انتهاء الانقلاب الدستوري الأخطر والأطول في تاريخ مصر في الحقبة الليبرالية، بل استمرت نفس السياسة المعادية للدستور وللشعب، على يد حكومة حزب "الشعب" برئاسة الرئيس الجديد للحزب وللحكومة عبد الفتاح باشا يحيي، واستمر دستور 1930 الذي سلب من الشعب حقوقه ساريًا،  وكانت لحكومة عبد الفتاح باشا يحيي ابداعاتها المنبئة عن توجهاتها، لقد ابتكر الباشا وسيلة جديدة يؤكد بها الولاء من طاغية صغير للملك، فقد أقرت الوزارة مبدأً جديدًا غير مسبوق في النظام الدستوري المصري، أن يؤدي الوزراء يمين الولاء للملك.

عبد الفتاح باشا يحيى 
وفي ظل حكومة عبد الفتاح باشا يحيي تواصلت الانتهاكات للحريات العامة، واستمرت المعارضة السياسية والشعبية للحكومة الجديدة، تلك الحكومة التي حاولت أن تجمل وجهها بالتحقيق في فساد عهد صدقي، رغم أن رجالها هم أنفسهم رجال صدقي، وحزبهم نفس الحزب المصطنع الذي حمل اسم الشعب زورًا وبهتانًا، حاولت أن تجمل وجهها بالتضحية ببعض رجال الحكومة السابقة، في محاولة لتخفيف حدة المعارضة.
 بعد ثلاثة أشهر من تشكيل الحكومة دخلت في صدام مع المحامين عندما أصدرت لائحة جديدة للمحاماة، نصت على استبعاد من وقعت عليه عقوبة تأديبية من المحامين من عضوية مجلس النقابة، وكان القصد من ذلك استبعاد الخصوم السياسيين لنظام الانقلاب الدستوري من عضوية مجلس النقابة، وقد رفض المحامون اللائحة وناضلوا من أجل إسقاطها إلى أن تحقق لهم ذلك.
 كان التعديل الوزاري مجرد محاولة لامتصاص جزء من الغضب الشعبي بإبعاد صدقي عدو الشعب الذي أصبح ورقة محروقة تشكل عبءً على الملك والإنجليز ومصالحهما أكثر مما تفيدهما، وقد أكد عبد الفتاح باشا يحيي أن وزارته تستند إلى دستور 30 عندما قال في رسالته إلى الملك فؤاد بعد تكليفه بالوزارة:
 "كان لي شرف الاشتراك في وضع أسس النظام الحاضر والسهر على تنفيذه حتى استقر نهائيًا... وستسير وزارتي بالبلاد في ظل جلالتكم في الطريق نفسه مسترشدة بحكمة جلالتكم السامية."
 لكن في كل الأحوال كان سقوط صدقي خطوة على الطريق، طريق استعادة الشعب لحريته وحقوقه، فقد كان الملك والإنجليز وصدقي نفسه يخططون لبقاء حكمه وانقلابه عشر سنوات.
 وفي خريف 1934 مرض الملك فؤاد، وشعر الإنجليز بأن رحيل فؤاد أصبح قريبًا، وإنهم أمام حكومة ضعيفة لا تملك سندًا شعبيًا، فتدخلوا في شئون البلاد بشكل فج ومهين، للملك ولحكومته.
 ويبدو أن فؤاد عندما شعر باقتراب أجله وبعد أن تأكد له فشل حكومة عبد الفتاح يحيي في إزالة الاحتقان، قرر أن يسعى في اتجاه إرضاء الشعب، فجاءت الخطوة الثانية إلى الأمام عندما كلف الملك فؤاد توفيق نسيم باشا بتشكيل الوزارة في محاولة الاقتراب خطوة أخرى نحو الشعب والمعارضة، كما أصدر مرسومًا ملكيًا بإلغاء دستور 30 المرفوض شعبيًا، وحل البرلمان الذي أتت به انتخابات صدقي المزورة، إلا أنه لم يُعد العمل بدستور 1923، بل نقل اختصاصات البرلمان إلى شخصه.
 رغم ذلك فإن إلغاء دستور 30 شكل انفراجه مؤقتة في الوضع السياسي، فسارعت قيادة الوفد للاستفادة منها بالدعوة لمؤتمر عام لحزب الوفد شارك فيه أكثر من ثلاثين ألف من المصريين، وانعقد على مدار يومي 9 و10 يناير 1935، وناقش المؤتمر من خلال أوراق سياسية وبحثية معمقة الوضع في مصر والتخطيط لمستقبلها، وغطت هذه الأوراق مختلف جوانب الحياة المصرية، من الوضع الدستوري إلى الامتيازات الأجنبية وعلاقات مصر الدولية، كما ناقشت الأوراق موضوعات مثل: القضاء، وأوضاع التعليم، والصحة، والأزمة الاقتصادية، والزراعة، والصناعة، وأوضاع القلاحين والعمال، والمرأة المصرية ونصيبها من النهضة، وخصصت ورقة من الأوراق المقدمة لمناقشة نظام الوفد المصري، وأظن أن هذا المؤتمر كان الأول من نوعه في تاريخ الأحزاب المصرية.


النحاس باشا
 وقد انتهى المؤتمر إلى أربعة قرارات:
 أولًا: ثقته التامة بالوفد المصري ورئيسه الجليل.
 ثانيًا: وجوب عودة دستور سنة 1923 كاملًا غير منقوص، حتى تستأنف البلاد في ظله الحياة الديمقراطية الحرة، ويستقر الأمر فيها.
 ثالثًا: يعرب المؤتمر عن أمله في أن يصل الوفد إلى حل القضية المصرية حلًا شريفًا أساسه تحقيق استقلال البلاد التام، مع المحافظة على المصالح البريطانية التي لا تتعارض مع هذا الاستقلال، وإقامة العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر على أساس المودة وحسن التفاهم.
 رابعًا: يبدي المؤتمر ارتياحه للأبحاث القيمة التي عرضت عليه من لجانه، ويرجو بعد أن تبين الفساد الذي وصلت إليه أحوال البلاد في جميع نواحيها بسبب النظام الذي فرض في الأعوام الماضية أن يقوم الوفد بدرس الاقتراحات التي قدمتها اللجان، على أن يقرر ما يراه مناسبًا بشأنها تحقيقًا للإصلاح الذي تنشده البلاد."

 ورغم هذه البداية القوية المتفائلة لعام 1935 إلا أن الأمور سارت في اتجاه آخر. فنوايا فؤاد لم تكن خالصة لوجه الله والوطن عندما ألغى دستور 30 وأقال حكومة يحيى باشا إبراهيم، فقد كان يعتقد أن خطوته ستؤدي لشق صفوف المعارضين، وقد أثمرت المحاولة بالفعل على هذا الصعيد؛ فانفضت الجبهة القومية التي تشكلت من الوفد والأحرار الدستوريين، وشهد الوفد نفسه انقسامًا حادًا، فقد أيدت قيادة الوفد حكومة نسيم تأييدًا ضمنيًا، بينما رفضت بعض الفصائل الأكثر ثباتًا في المعارضة أن تؤيد الحكومة، وكانت صحيفة روز اليوسف وعلى رأسها السيدة روز اليوسف والكاتب الكبير عباس محمود العقاد من أشد المعارضين لخط المهادنة من داخل حزب الوفد وصحافته، حيث رأيا أن المعارضة ينبغي أن تستمر حتى يعود دستور 23، واتخذ بعض المفكرين الليبراليين نفس الموقف، وكان من أبرزهم الدكتور محمود عزمي.

العقاد
 وشهدت جبهة الوفد ومناصريه انقسامًا أدى إلى استقالة العقاد من الوفد بعد أن كتب في إحدى مقالاته: "إنما كنا وفديين لأننا وطنيون، ولم نكن وطنيين لأننا وفديون"، كما أدت إلى إعلان قيادة الوفد أن روز اليوسف ـ المجلة ـ لم تعد من الصحف التي تعبر عن الوفد، بعد أن رفضت روز اليوسف ـ الكاتبة والفنانة ـ الخضوع لتهديدات مكرم عبيد باشا بضرورة الالتزام بخط الوفد.

روزاليوسف
 وخلال خريف عام 1935 بلغ الانقسام أشده في صفوف المعارضة رغم عدم ظهور بوادر حقيقية لعودة دستور 1923، ورغم أنه بات واضحًا من تصريحات المسؤولين البريطانيين أنه لا نية لديهم للدخول في مفاوضات تحقق استقلال مصر.
 إذن لم يعد هناك أمل في تحقيق حلم المصريين في الاستقلال والدستور.
 كان الوضع الدولي يزداد احتقانًا بسبب التصرفات الخرقاء للنازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية التي كانت تضع العالم على أعتاب حرب عالمية جديدة، ولم تكن المعارك بعيدة عن حدود مصر، ففي هذا الوقت كانت الحكومة الفاشية في إيطاليا تحتل ليبيا وتعد العدة لغزو الحبشة، وأضاف كل هذا أعباء إضافية على الوضع المصري، فبدأت بريطانيا تتصرف في مصر كما لو كانت محمية بريطانية، وتنظم عروضًا عسكرية لقواتها في مصر، وتعلق جريدة الأهرام في 12 أكتوبر على ما يحدث من استعراضات للقوة العسكرية على الأراضي المصرية في مقال افتتاحي بعنوان "بين عام 1935 وعام 1914"، قالت فيه:
 "على أن الجمهور وهو يشهد هذه الاستعدادات يذكر ما شهده سنة 1914، ولذا يفزع من هذه الذكرى، ويقلق من هذه القوات والإجراءات والاعتمادات التي توضع من أجلها.
 على أنه بجانب تسجيلنا لهذا المظهر، لا نرى أن هناك فرقًا جوهريًا بين حالتنا اليوم وحالة مصر سنة 1914. فالاستعدادات العسكرية قائمة وتقوم بها السلطات البريطانية، وهذا ما رأيناه سنة 1914. والبرلمان معطل الآن، وكانت الجمعية التشريعية معطلة منذ قيام الحرب الكبرى. والوزارة الحالية مستسلمة للإنجليز أكثر من استسلام الوزارة الرشدية سنة 1914."
 وتختتم الافتتاحية بعبارة تعكس حال المصريين وقتها:
 "وبعد، فإن المصريين عن بكرة أبيهم يرون أن ظروف الحالة الحاضرة تشبه ما حصل سنة 1914."
 وفي 27 أكتوبر 1935 نشرت مجلة أخر ساعة افتتاحية معبرة عن الحالة التي وصلت إليها البلاد، بعنوان "لا دستور، ولا معاهدة، ولا يحزنون!"، جاء فيها:
 "نستطيع أن نقول ـ استنادا إلى أوثق المصادر وأوسعها علمًا ببواطن الأمور ـ أن السلطات البريطانية ترفض رفضًا باتًا أن تصغي إلى أي حديث عن عودة الدستور الآن، أو إجراء مفاوضات بقصد عقد معاهدة في الظروف الحاضرة، وإن كل مسعى في هذا السبيل سوف يقابل بأذن صماء... فليدرك هذه الحقيقة كل من لا يزال يعلق الآمال على إنجلترا، وعلى حسن نيات الإنجليز، ولنترك الآن كل حديث عن مفاوضات الإنجليز، ولنفكر في وسيلة نرغم بها القوم على الإصغاء إلى مطالبنا... إذًا فلا دستور ولا معاهدة، ونقول: هذا النبآء سيتأكد من مصادر أخرى، وتردده كل الصحف، وتثبته الأيام... وأما بالنسبة لوزارة نسيم فهي باقية على الرغم من كل شيء، ومن غضب الشعب عليها ومن احتجاجات الصحف، لأن الإنجليز راضون عنها، يريدون بقاءها لخدمة أغراضهم، والذي دلت عليه الأخبار والوقائع، أن المندوب السامي حضر من إنجلترا بقرار الحكومة البريطانية ضرورة بقاء هذه الوزارة والعمل على تثبيتها أطول مدة ممكنة".
 لكن كما يقولون: "تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن"؛ سفينة الإنجليز، وسفينة الملك، وسفينة الحكومة!
 ففي ظل حالة الإحباط العامة، والتراخي من قبل قادة المعارضة، جاء الإنقاذ من خارج مصر، فقد أدى تصريح أدلى به السير صمويل هور وزير خارجية بريطانيا ـ واعتبره المصريون تدخلًا وقحًا في الشئون الداخلية لمصر ـ إلى تفجر الأوضاع السياسية، وعودة الاحتقان، ثم انفجار الثورة، خاصة بعد أن تقبلت حكومة نسيم التصريح ولم تعترض عليه.
 كانت خلاصة التصريح أن دستور 30 لم يكن مناسبًا لمصر، كما أن عودة دستور 23 غير ملائمة.
 ومن هذا التصريح انفجرت ثورة الشباب.

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...