(2)
طريق الاستبداد
عماد أبو غازي
لم يضع المستبدون وقتًا؛ حيث أصدر إسماعيل صدقي باشا مرسومًا بتأجيل اجتماع
البرلمان لمدة شهر واحد، اعتبارًا من يوم 21 يونيو، أي اليوم التالي لتأليفه
الوزارة، فالرجل يعلم أن مجلس النواب كان قد جدد الثقة بحكومة النحاس باشا
المستقيلة، وإنه لن يمنح حكومته الثقة، ولكن رئيسي مجلسي البرلمان ويصا واصف وعدلي
يكن أصرا على حق المجلسين في الانعقاد في الموعد المحدد من قبل في اجتماع يتلى فيه
مرسوم التأجيل على النواب كما تقضي بذلك الأعراف الدستورية.
وبدأت الأزمة تتصاعد
عندما وجه صدقي خطابًا إلى ويصا واصف يبلغه فيه بأنه غير مسموح لأي عضو من أعضاء
مجلس النواب بالحديث بعد تلاوة مرسوم تشكيل الحكومة ومرسوم تأجيل انعقاد البرلمان،
وينذره فيه باتخاذ الوسائل الكفيلة بضمان ذلك، لكن ويصا واصف الذي كان يعتبر نفسه
ممثلًا للأمة يستمد منها سلطته، رد على الإنذار ردًا حاسمًا، جاء فيه:
"إنه ليس من حق الحكومة أن توجه إلى رئيس
مجلس النواب مثل هذا الخطاب لما فيه من تدخل السلطة التنفيذية في إدارة جلسات
المجلس".
وجاء رد صدقي بمحاصرة البرلمان وإغلاق أبوابه
بالسلاسل الحديدية يوم 23 يونيو 1930، ومع ذلك فقد اتجه النواب والشيوخ إلى مبنى
البرلمان في الموعد المحدد وأصدر ويصا واصف أوامره إلى حرس البرلمان بتحطيم
السلاسل الحديدية بالبلط، وعرف الرجل من يومها باسم "محطم السلاسل"،
ودخل النواب إلى مجلسهم وعقدوا الجلسة، ووجه عدلي باشا يكن رسالة احتجاج شديدة
اللهجة إلى رئيس الحكومة.
وبعدها بثلاثة أيام أي في يوم 26 يونيو عقد
أغلبية أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب وعدد من أعضاء مجالس المديريات اجتماعًا بمقر
النادي السعدي ـ النادي السياسي للوفد ـ وأصدروا بيانًا أقسموا فيه على الدفاع عن الدستور
ومقاومة كل اعتداء يقع عليه، واتفقوا على عدم التعاون مع الحكومة، وقد جاء في
البيان:
"بما أنه في الوقت الذي تجاهد فيه الأمم
الأخرى لتقرير الحكم الدستوري وتوطيد دعائمه قد تكرر الاعتداء على الدستور في مصر
مما أدى إلى حرمان البلاد من الحكم النيابي في فترات متعاقبة ووضع العقبات في سبيل
قضيتها السياسية وتعطيل مرافقها الاقتصادية؛ بناء على ذلك، قرر المؤتمر ما يأتي:
أولًا: الدفاع عن الدستور ومقاومة كل اعتداء يقع
عليه بكل ما يملكه كل مصري من قوة ومال وتضحية.
ثانيًا: تقرير مبدأ عدم التعاون وتشكيل لجنة
تتصل بالوفد لتنظيم أساليبه وتنفيذه في حالة ما إذا لم تتقدم الوزارة إلى البرلمان
عند انقضاء مدة التأجيل.
ثالثًا: القسم بالله العظيم بتنفيذ هذه الخطة
وتعميمها في جميع الدوائر الانتخابية بالقطر المصري."
وفي الأسابيع التالية تصاعدت موجات الاحتجاج في
مختلف مدن مصر، خاصة القاهرة والإسكندرية والزقازيق وبلبيس والمنصورة وطنطا
وبورسعيد والإسماعيلية والسويس، وتصدى النظام لها بالقوة المسلحة مستعينا بالجيش
إلى جانب الشرطة وبلوك الخفر، فسقط عشرات الشهداء ومئات من الجرحى دفاعًا عن
الدستور.
عدلي يكن
ويصا واصف
عدلي يكن
ويصا واصف
وفي محاولة لتهدئة الناس أوعزت السرايا إلى رجال
الدين أن يصدروا بيانات إلى الشعب يدعونه فيه إلى الهدوء والسكينة، فأصدر شيخ
الأزهر الشيخ الظواهري بيانًا وقع عليه معه عدد من العلماء، استهلوه بما يلي:
"يا أيها الشعب الوفي قال الله تعالى:
"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"،
وإن من فضل الله علينا أن كان صاحب الأمر فينا هو حضرة صاحب الجلالة مليكنا المعظم
الملك فؤاد الأول حفظه الله وأيده بروح من عنده".
ويواصل المشايخ في بيانهم دعوة الشعب إلى
السكينة والهدوء وطاعة الحكومة المستبدة، ولما اعترض بعض العلماء من ذوي الضمائر
الحية على البيان فصل صاحب الفضيلة شيخ الأزهر عددًا منهم من الأزهر الشريف.
في ذلك الزمن قابل الناس بيان السادة المشايخ
بالزراية والاستنكار.
وفي يوم 12 يوليو استصدرت الحكومة من الملك
مرسومًا بفض الدورة البرلمانية بالمخالفة للدستور، فالبرلمان لم يكن قد أقر
الميزانية بعد ولم يكن قد أمضى في دورته 6 أشهر كما ينص على ذلك دستور 23، وعاودت
الحكومة إغلاق مبنى البرلمان واحتلاله بالقوة المسلحة.
رد النواب بتقديم عريضة إلى الملك يطلبون منه
دعوة البرلمان إلى اجتماع غير عادي يوم السبت 26 يوليو سنة 1930 لاستجواب الوزارة
والاقتراع على الثقة بها، لكن الملك لم يستجب بالطبع، فعقد النواب اجتماعهم للمرة
الثانية في النادي السعدي.
وفي يوم 21 سبتمبر 1930 قدم النواب عريضة ثانية
إلى الملك يطالبونه فيها بدعوة البرلمان للانعقاد في اجتماع غير عادي في أقرب وقت
للنظر فيما عرضته الوزارة من تعديل قانون الانتخاب، واتخاذ القرار الذي يراه
المجلسان في ذلك، وذكروا في عريضتهم أن النواب في اجتماعهم السابق يوم 26 يوليو
1930 كانوا قد أصدروا قرارًا بعدم الثقة بالوزارة، الأمر الذي يوجب استقالتها.
ولم تأبه الحكومة برأي الأمة، ولا بمعارضة
النواب من الوفد حزب الأغلبية، ولا حتى برأي أصدقائها القدامى الأحرار الدستوريين
الذين أصدروا بيانًا يطالبون فيه بألا يمس التعديل لقوانين الانتخاب الأسس
الدستورية.
وأخبر صدقي الجميع في صورة إنذار نهائي بأنه
اتفق مع الملك على إصدار دستوره الجديد، ومضى صدقي إلى نهاية الشوط فأعلن إلغاء
دستور الأمة واستبدال به دستور الملك، وصدر بذلك المرسوم الملكي بتاريخ 22 أكتوبر
سنة 1930. كما صدر في اليوم نفسه قانون الانتخاب الجديد. وصدر الأمر بحل مجلسي
النواب والشيوخ القائمين.
ويقول المؤرخ الراحل الدكتور محمد ضياء الدين
الريس في كتابه المهم عن ثورة الشباب سنة 1935، والذي أصدره في الذكرى الأربعينية
للثورة سنة 1975 تحت عنوان: "الدستور والاستقلال والثورة الوطنية 1935":
"أُعلن إلغاء دستور الأمة ـ
دستور سنة 1923، وإصدار دستور جديد هو دستور سنة 1930. بذلك هُدم النظام الدستوري
للبلد في لحظة، ووُضع مكانه نظام جديد بأمر جلالة الملك وتنفيذ أداته
"صدقي" أو صدقي باشا.
هذا مع أن دستور الولايات المتحدة الأمريكية
قائم منذ إنشائها، وكاد أن يمضي عليه نحو مائتي عام منذ صدوره بلا انقطاع.
ودستور انجلترا بدأ منذ إصدار "الماجنا
كارتا" ـ أو الوثيقة العظمى في سنة 1215 ـ أي منذ أكثر من سبعمائة عام. ولا
تعبث الأمم التي تحترم نفسها وتحترم القانون بدساتيرها بين آن وآخر بأوامر حكامها
أو أفراد منها دون اكتراث بإرادة الأمة".
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق