(4)
طريق الحرية
عماد أبو غازي
بدأ
النضال الدستوري في تاريخنا الحديث بداية مبكرة، مع الانتفاضة الشعبية التي انطلقت في يوليو 1795، قامت تلك
الانتفاضة ضد مراد بك وإبراهيم بك وأرغمتهما على توقيع وثيقة رسمية يلتزمان فيها
بعدم فرض ضرائب جديدة إلا بعد موافقة المشايخ والقضاة كممثلين للناس، واعتبر
الدكتور لويس عوض أن تلك الوثيقة في التاريخ المصري تقابل الماجنا كارتا أو العهد
الدستوري الأعظم في التاريخ الإنجليزي، ومنذ ذلك الحين صارت قضية حق المشاركة
والنضال من أجل دستور بجعل الأمة مصدر السلطات محورًا أساسيًا لنضال الشعب، وقد
تكلل هذا النضال بصدور دستور 1923، ومن هنا فقد كان من المحال أن يرضخ الشعب
لانقلاب فؤاد وصدقي على الدستور.
لقد بدأت معارضة الانقلاب الدستوري الأخطر
والأشد ضراوة في تاريخ مصر في الحقبة الليبرالية قبل أن يصدر مرسوم الملك بإلغاء
دستور 23 وإعلان دستور 30، وكان أول من دخل ساحة المعركة عدلي باشا يكن رئيس مجلس
الشيوخ، وكان وقتها في أوروبا وبلغته أنباء الانقلاب قبلها بأيام، فأرسل من هناك
استقالته من رئاسة مجلس الشيوخ احتجاجًا على اعتداءات الوزارة المتكررة على
الدستور وحتى لا يكون شريكًا في المؤامرة الكبرى التي يعد لها الملك فؤاد وتابعه إسماعيل
باشا صدقي، الذي تنقل في الولاء من حزب إلى حزب، وانتهى به الحال رجلًا للملك فؤاد،
بل ولكل ملك.
وبعد ساعات من صدور دستور 1930 بدأ الوفد في
قيادة الحركة الشعبية للاحتجاج على إلغاء دستور 23، من خلال البيانات والمؤتمرات
السياسية والمقالات الصحفية. وانضم الحزب الوطني للمعارضة ببيان عاجل أصدرته لجنته
الإدارية بعد 48 ساعة اعتبرت فيه أن ما حدث اعتداء صارخ على الدستور.
وسرعان ما انضم حزب الأحرار الدستوريين الذي كان
صدقي ينتمي إليه عندما كلفه الملك بتشكيل الحكومة إلى المعارضين، ويقول محمد حسين
هيكل باشا أبرز زعماء حزب الأحرار ومفكريه في ذلك الوقت:
"كنا مقتنعين تمام الاقتناع بأن الدافع الحقيقي لتعديل الدستور
لم يكن فكرة إصلاح بقدر ما كان فكرة تغليب السلطة التنفيذية على حقوق الشعب
وممثليه في البرلمان".
أما محمد علي علوبة القيادي في الحزب فقال:
"إن تعديل الدستور له قواعد منصوص عليها فيه، والجرأة على
تعديله على النحو الذي حدث يجعله دون القوانين احترامًا، بل يجعله أقل احترامًا من
لائحة الترع والجسور وأمثالها من اللوائح".
وفي مطلع نوفمبر 1930 اتفق الوفد والأحرار
الدستوريين على مقاطعة أي انتخابات تجرى على أساس دستور 30 وقانونه الانتخابي،
وشكل الحزبان لجنة للتنسيق بينهما في المقاطعة، كما استقال عدد من العمد ومشايخ
القرى حتى لا يشاركوا في تزوير إرادة الأمة، وبدأت موجة الاستقالات باستقالة 250
من العمد والمشايخ ثم اتسعت الحركة وتضاعف العدد رغم تحويل الحكومة العمد والمشايخ
المستقيلين إلى مجالس تأديبية وتغريمهم بمبالغ مالية كبيرة وملاحقتهم والقبض عليهم
كما يقبض على المجرمين، لكن ضمائرهم الحية كانت أقوى من إغراءات المنصب ومن بطش
السلطة.
وفي مارس 1931 تشكل ائتلاف بين الوفد والأحرار
الدستوريين صدر عنه ميثاق قومي تعاهد فيه
طرفيه على مقاطعة الانتخابات والنضال لإعادة دستور 23 والحياة البرلمانية السليمة
على أساس منه، وبدأ زعماء الحزبين حركة واسعة لزيارة أقاليم مصر والدعوة بين
الجماهير لرفض دستور 30 وقانون الانتخابات الجديد والعمل على إسقاطهما وإعادة
دستور 23، ولم يأبه زعماء الأحزاب بقمع السلطة ولا بطشها، ولا باستعانتها بالجيش
لفض مؤتمرات المعارضة بالقوة، ولم يتوقف قادة الأمة عن مسعاهم حتى بعد أن وصل بطش
حكومة صدقي إلى حد محاولة قتل النحاس باشا طعنًا بسونكي بندقية أحد الجنود وهي
المحاولة التي فشلت بسبب حماية سنيوت حنا عضو الوفد للنحاس باشا بجسده وتلقيه
الطعنة عوضًا عنه.
وتصعيدًا للمواجهة قرر الوفد والأحرار عقد مؤتمرًا
وطنيًا عامًا في 8 مايو 1931، وعندما منعت الحكومة انعقاده بالقوة بدأت حملة لجمع
التوقيعات على بيان المؤتمر الوطني، وكان في مقدمة الموقعين مصطفى النحاس باشا
رئيس الوفد ومحمد محمود باشا رئيس الأحرار الدستوريين وعدلي باشا يكن رئيس مجلس
الشيوخ المستقيل والشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر السابق وويصا واصف
رئيس مجلس النواب المنحل، ووقع على البيان إلى جانب قادة الحزبين عددًا من الوزراء
والسفراء والضباط السابقين، كما انضم إلى التوقيع على البيان مجموعة من أفراد
الأسرة المالكة وهم الأمراء والنبلاء عمر طوسون ومحمد علي وعمرو إبراهيم وسعيد
داود ومحمد علي حليم وإبراهيم حليم.
رغم اتساع المعارضة وانضمام بعض رجال السرايا
الذين شاركوا فؤاد من قبل في انقلاباته الدستورية إليها مثل زيوار باشا الذي وقع
على البيان وجاء اسمه في مقدمة الموقعين، فإن حلف صدقي وفؤاد استمر في خطته، وتمت
الانتخابات في يونيو 1931، تمت على أساس دستور الملك وقانون الانتخابات الذي سلب
الشعب إرادته وحقوقه.
وليس هناك أفضل من وصف عبد الرحمن الرافعي لتلك
الانتخابات، وقد اخترت الرافعي تحديدا لأنه ينتمي إلى الحزب الوطني الذي لم يقاطع
تلك المهزلة، فشهادته إذنً ليست مجرحة، قال الرافعي:
"قاطعت الأمة هذه الانتخابات مقاطعة تامة، أشبهت في روعتها
واتساع مداها مقاطعة الأمة للجنة ملنر سنة 1919، بل إن تضحيات البلاد من القتلى
والجرحى في هذه الانتخابات كانت أعظم وأكبر من تضحياتها في مقاطعة لجنة ملنر، وقد
عمدت الحكومة إلى تزوير عملية الانتخابات، فأوعزت إلى لجان الانتخاب أن تزور
محاضرها، بحيث تثبت فيها حضور الناخبين كذبًا وزورًا، وبذلك تمت هذه المهزلة بل
هذه المأساة الانتخابية وكانت سابقة خطيرة اتبعتها الإدارة كلما أرادت الحكومة
اصطناع برلمان صوري".
وقد قدم الوفد بلاغًا إلى النائب العام مدعمًا
بالوثائق يفضح وقائع التزوير والقمع، إلا إن النائب العام لم يكترث لهذا البلاغ
الخطير، رغم أن شهداء تلك الانتخابات تجاوزوا مئة شهيد، لكنهم لم يكونوا أخر
الشهداء على طريق الحرية.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق