السبت، 19 نوفمبر 2016

(5)

مناضلون على طريق الحرية

عماد أبو غازي

  لقد نجح صدقي في تشكيل برلمانه المزور على حساب مئة شهيد مصري ومئة وخمسة وسبعون جريحًا من بين عشرات الآلاف الذين خرجوا إلى الشوارع ليتصدوا للتزوير، وجاء البرلمان ليقر بعد عام واحد من تشكيله اتفاقية التنازل عن واحة جعبوب في الصحراء الغربية لإيطاليا التي كانت تحتل ليبيا وقتها، وهي الاتفاقية التي وقعها زيور باشا سنة 1925 ورفضت جميع البرلمانات على مدى 7 سنوات التصديق عليها، كما شدد العقوبة في قضايا النشر، وبدأت سنوات من اضطهاد الوطنيين وأنصار الديمقراطية في مصر والتنكيل بهم ما بين سجن واعتقال وإبعاد عن الوظائف وملاحقة في لقمة العيش.
 كان على المصريين أن يتخذوا القرار، إما الرضوخ لفؤاد وصدقي وتسليم أنفسهم للطغاة، أو المواجهة والدفاع عن حريتهم.
 كان القرار واضحًا النضال من أجل استعادة دستور الأمة، وبالفعل نجح المصريون بعد خمس سنوات من الكفاح في تحقيق هدفهم، لكن لم يستعد المصريون دستورهم ومعه حريتهم "بالساهل"، كان الطريق طويلًا وشاقًا، وكان المصريون قادرون على دفع الثمن ومستعدون لتحمله، كان الثمن غاليًا لكن الحرية كانت أغلى عند المصريين، لقد اشتركت النخبة في دفع الثمن قبل الجماهير، وقادت حركتها، لم يقبع زعماء الأمة في بيوتهم أو قصورهم، بل خرجوا إلى الشوارع وطافوا المدن والقرى والنجوع يدعون الشعب للتصدي للاستبداد، بات النحاس باشا على أرصفة محطات القطارات، وتصدى بصدر مفتوح لرصاص بوليس صدقي وجيشه، وتعرض لأكثر من محاولة لاغتياله، لكنه لم يتراجع.


 كذلك تصدى قادة الرأي والفكر للملك ورئيس حكومته صدقي وخاضوا معاركهم من أجل الحرية وإسقاط دولة الاستبداد والطغيان، وتعرض غير واحد منهم للسجن والفصل والتشريد والملاحقة والنقل من العمل.
 فنشر توفيق الحكيم روايته عودة الروح سنة 1933 في ظل الانقلاب الدستوري، ورغم أن العمل الروائي من عنوانه حتى أخر صفحة فيه يضع نصب عينيه الثورة المصرية ثورة 1919، وقضية نضال الشعب المصري، إلا أن حدث الثورة لا يظهر إلا في الصفحات الأخيرة من الرواية، ليؤكد من خلاله الحكيم على فكرته عن هذا الشعب الذي يبدو ساكنًا لكنه يهب مرة واحدة من سكونه محملًا بتراث حضارته الضاربة في أعماق التاريخ، الفكرة التي صاغها على لسان أحد شخوص روايته، عالم الآثار الفرنسي:
 "بلد أتت في فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى... أو معجزات! بلد يزعمون أنها ميتة منذ قرون ولا يرون قلبها العظيم بارزًا نحو السماء من بين رمال الجيزة! لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش الأبد...!"

توفيق الحكيم
 لقد استحضر الحكيم أحداث ثورة 1919 ليبعث من خلالها الأمل في ثورة جديدة تطيح بالانقلاب الدستوري.
 وكتب العقاد سلسلة من المقالات هاجم فيه الملك هجومًا شديدًا، ومما قاله فيها:

 "فليعلم المصريون جميعًا أن مصيبة الرجعية على هذا البلد أكبر من مصيبة الاحتلال، وإنها هي التي مهدت له واستعانت به، وأوقعت البلاد في البلاء الذي يعانيه، فلولا كراهة الدستور القديمة في نفوس هؤلاء الرجعيين، ولولا التكبر عن الاعتراف للفلاحين العبيد بالحرية والحكومة العصرية، لما حدثت في مصر تلك الأحداث التي نعاني من جرائرها إلى اليوم... فالرجعية هي السوس الناخر في أبدان الأمة من قديم الزمن، والرجعية هي أصل المصاب وسبب الاحتلال، وهي العدو الأكبر الذي يجب أن يبرز على حقيقته ليكون الجميع على بينه من أمره."

العقاد

وواضح طبعًا أن العقاد كان يقصد بحديثه عن الرجعية الملك وأسلافه من أسرة محمد علي، وعلى وجه الخصوص الخديوي توفيق، وكان رد الحكومة القبض على العقاد وإحالته هو وصاحب امتياز جريدة المؤيد التي نشرت مقالته للمحاكمة بتهمة العيب في الذات الملكية، وصدر الحكم بحبس صاحب الامتياز 6 أشهر وحبس العقاد تسعة أشهر، ويوم خروجه من السجن توجه إلى ضريح سعد زغلول قبل أن يذهب إلى بيته وألقى قصيدته الشهيرة التي تعهد فيها بمواصلة النضال من أجل الدستور، ومما قاله فيها:

كنت جنين السجن تسعة أشهر      وها أنا ذا في ساحة الخلد أولد
ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجا      وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد
وما أقعدت لي ظلمة السجن عزمة   فما كل ليل حين يغشاك مرقد
وما غيبتني ظلمة السجن عن سنا   من الرأي يتلو فرقدًا منه فرقد
عداتي وصحبي لا اختلافٌ عليهما     سيعهدني كلٌ كما كان يعهد

أما شاعر النيل حافظ إبراهيم فقد دخل الميدان بقصائده التي قال في واحدة منها هاجيًا صدقي وعهده:

قد مر عام يا سعاد وعام                وابن الكنانة في حماه يضام
صبوا البلاء على العباد فنصفهم       يجبي البلاد ونصفهم حكــام
أشكو إلى قصر الدوبارة ما جنى      صدقي الوزير وما جبى علام

حافظ إبراهيم

ويختمها بقوله موجها الحديث لصدقي:

ودعا عليك اللهَ في محرابه            الشيخ والقسيس والحاخام
لا هم أحي ضميره ليذوقها            غصصًا وتنسف نفسها الآلام

وإذا كان العقاد قد سجن فإن حافظ إبراهيم قد فصل من عمله في دار الكتب.
  وفي ظل الانقلاب الدستوري وقعت أول أزمة سياسية في الجامعة المصرية، وكان الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب حينذاك ضحيتها، فقد كانت للرجل مواقفه المؤيدة للديمقراطية والمعادية للديكتاتورية، وكان يحترم القيم الجامعية ولا يتهاون فيها، وعندما رفض الأوامر الحكومية بمنح الدكتوراه الفخرية لمن لا يستحقها، كان رد الحكومة عزله من عمادة كلية الآداب ونقله بعيدًا عن الجامعة ليعمل موظفًا بوزارة المعارف.




 لكن لأن قيم الليبرالية كانت راسخة جاء رد الفعل قويًا، لقد استقال مدير الجامعة أحمد لطفي السيد باشا من منصبه احتجاجًا على تجاوز الحكومة لحدودها وتعديها على استقلال الجامعة، وكانت هذه الاستقالة يوم 9 مارس سنة 1932، اليوم الذي أضحى في أيامنا هذه اسمًا لحركة أساتذة الجامعات من أجل استقلال الجامعة تخليدًا لمفكر حر اتخذ موقفًا في مواجهة الطغيان دفاعًا عن استقلال الجامعة.

أحمد لطفي السيد
 ومن ناحيتهم قرر المثقفون تنصيب طه حسين عميدًا للأدب العربي ردًا على عزل الحكومة له من عمادة كلية الآداب، ولم تمض سنوات قليلة إلا وكانت الحركة الوطنية قد نجحت في إسقاط حكومة صدقي ومن بعدها دستوره، وعاد دستور 23، وعاد طه حسين إلى الجامعة محمولًا على الأعناق.
 ولم تسلم الفنون الجميلة من تعسف صدقي ورجاله، وكان العدوان على الحرية هذه المرة موجها لتمثالي مختار لزعيم الأمة سعد زغلول؛ ولهذا حديث آخر.

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...