(6)
صدقي يحارب سعد حيًا وميتًا
عماد أبو غازي
عندما وقع الانقلاب الدستوري في عام 1930، وتوالت الاعتداءات على الدستور
وعلى حرية الفكر والتعبير في البلاد، كان نصيب مختار من الهجمة الرجعية عرقلة
العمل في مشروع تمثالي سعد زغلول بالقاهرة والإسكندرية، وبداية القصة ترجع إلى
زمان وفاة سعد زغلول.
فعندما توفي الزعيم سعد زغلول في 23 أغسطس سنة
1927 شيعته جماهير الشعب المصري في جنازة مهيبة شارك فيها عشرات الآلاف من
المصريين، وبعد أن انتهت مراسم الحداد الرسمي والحزن الشعبي، بدأ التفكير في خطوات
تخليد ذكرى زعيم الأمة، وكانت الوزارة التي تتولى الحكم وزارة ائتلافية يؤيدها
الوفد المصري.
وكان من القرارات التي اتخذتها الحكومة لتخليد
ذكرى سعد شراء بيته واعتباره من الأملاك العامة لصيانة آثار سعد الباقية فيه،
وتشييد ضريح يليق بالزعيم، ينقل إليه جثمانه بعد الانتهاء من تشييده، على أن
يستلهم تصميمه من خطوط العمارة المصرية القديمة، وتقرر أن يشيد الضريح في أرض
خالية بالقرب من بيت سعد الذي عرف باسم "بيت الأمة" منذ بدأ الرجل يقود
حركة الشعب المصري نحو الاستقلال أواخر عام 1918.
كما قررت الحكومة كذلك إقامة تمثالين للزعيم
واحد في القاهرة والثاني في الإسكندرية، واستدعت الحكومة المثال مختار من باريس
لتكلفه بإقامة التمثالين، كان مختار وقتها أبرز نحات مصري، وكانت له قصة طويلة مع
الثورة المصرية، ثورة 1919 منذ عبر عنها بتمثاله الرائع نهضة مصر الذي التف حوله
الشعب بكل طبقاته، وتحمس مختار للفكرة ولبى الدعوة واعتبر المهمة عملًا قوميًا
يتيح له تسجيل حياة الشعب المصري وكفاحه ومثله السياسية التي كان يناضل من أجلها
من خلال تمثالي الزعيم، وكانت فكرة التمثالين حاضرة في ذهن محمود مختار، فهو
القائل:
"إن في
وجدان كل مصري ولو لم يكن فنانًا تمثالًا لسعد زغلول".
مختار
وتقرر أن يقام تمثال القاهرة في ميدان قصر النيل
بينما يقام تمثال الإسكندرية في محطة الرمل، وأراد مختار أن يكون عمله صرحًا كبيرًا
يرتفع إلى عنان السماء ليرفع زعيم الأمة إلى المكانة التي يستحقها.
وتعاقدت الحكومة مع مختار وتقرر في العقد أن
يعهد إلى الفنان بالتنفيذ الكامل، وأن تكون الحكومة طرفًا في التعاقد معه، تلتزم
بما تقضي به أحكام العقد دون تدخل في عمل المثال، أو في الجوانب الفنية.
وكان من الممكن أن تسير الأمور في مسارها
الطبيعي ويشيد الضريح وينقل إليه جثمان سعد، ويرتفع التمثالان في القاهرة
والإسكندرية، خاصة أن مختار كان يطمح إلى إنهاء العمل خلال عام واحد فقط، لكن
الملك فؤاد كان يعتبر سعدًا حتى بعد وفاته خصمًا لدودًا له، كما كان للزعيم خصومه
من بين الساسة ورجال الأحزاب الموالين للسرايا والإنجليز، ولم ينس خصوم سعد للرجل
مواقفه خاصة في سنواته الأخيرة، وقيادته لثورة الشعب عام 1919، ودفاعه المجيد عن
إقامة حياة دستورية سليمة، لقد كانت القوى الرجعية تتحين كل فرصة للانقضاض على
المكاسب الديمقراطية التي حققتها ثورة 1919، وتحرص دائمًا على حصار الحريات العامة
التي اكتسبها الشعب بكفاحه، وتسعى إلى تحطيم رموز الحرية الفكرية، فقامت حكومة
إسماعيل صدقي بعرقلة العمل في التمثالين.
وكان الهدف من العرقلة مزدوجًا: سعد
ومختار في آن واحد؛ فهناك "تار بايت بين الملك ومختار" منذ اختار
الفلاحة رمزًا يعبر به عن مصر، ومنذ نحت تماثيل شخصية لرجال العصر الذين شيدوا
دعائم الحرية من أمثال عدلي يكن وعبد الخالق ثروت وسعد زغلول، ولم يعرض أن ينحت
تمثالًا للملك فؤاد، وعندما طلب منه ذلك وبدأ في نحت التمثال مرغمًا، توقف عن العمل
فيه بمجرد أن أبدى فؤاد ملاحظات فنيه على العمل، ولم يتبق منه سوى صورة فوتوغرافية
للتمثال في مرحلة الإعداد الأولي.
وبدلًا من ذلك نحت تمثالًا كاريكاتيريًا ساخرًا
من الملك، وقام بعض أصدقائه المقربين من السرايا بتحطيم التمثال حماية لمختار وخوفًا
عليه عندما علموا بأن خبره تسرب إلى الملك.
أما سعد فلم تكتف الحكومة بعرقلة العمل في
تمثاليه، بل استولت على ضريحه ونقلت إليه مومياوت الفراعنة بحجة عدم ملائمة عرضها
على الجمهور، لتشغل المكان وتوقف إجراءات نقل الجثمان.
كانت معركة الحكومة ضد تمثالي سعد طويلة، في
البداية قررت نقل تمثال القاهرة من المكان المقرر لإقامته، ميدان قصر النيل، إلى
الضفة الأخرى من النيل، إلى ميدان الجزيرة، المكان الذي يقف فيه التمثال الآن شامخًا،
وتقرر أن يقام في ميدان التحرير تمثالًا للخديوي إسماعيل، لم يُقم أبدًا كأن
اللعنة قد حلت على هذا المكان، أقيمت القاعدة الجرانيتية لتمثال إسماعيل لكنها ظلت
خالية إلى أن تم فكها مطلع الثمانينيات عندما بدأ العمل في الخط الأول لمترو أنفاق
القاهرة ولم تعد إلى مكانها، وهي القاعدة التي كتب عنها أمل دنقل رائعته
"الكعكة الحجرية" تحية لانتفاضة الطلبة في يناير 1972، والتي اعتصم فيها
الطلاب في ميدان التحرير.
قبل مختار مرغمًا قرار نقل موضع التمثال، فكانت
الخطوة التالية من جانب الحكومة لتعطيل العمل في التمثالين صدور أمر بوقف العمل
بحجة تزيين الميادين العامة في القاهرة والإسكندرية والمدن المصرية الكبرى احتفالًا
بعيد جلوس الملك، لكن الزينات مهما طال بقاؤها في الميادين سيأتي وقت وترفع، فبدأت
الحكومة تبحث عن خطة جديدة.
وجاء القرار، يعطل العمل في التمثالين لإعادة
دراسة المشروع من الناحية الفنية، رغم أن العقد المبرم بين مختار والحكومة كان ينص
على عدم إجراء أي تعديل فيما تم الاتفاق عليه، وعندما سئل رئيس الحكومة عن الأسباب
التي دعته لتعطيل العمل في التمثالين أجاب قائلًا:
"لقد كان رأيي تأجيل المشروع حتى يتاح دراسة
رسوم التمثال من جديد، وإدخال التعديلات اللازمة خاصة ما يتعلق منها بالارتفاع، إن
ارتفاع كلا التمثالين وفقًا للتصميمات يصل إلى 20 مترًا وهو ارتفاع لا نظير له في
العالم إلا في تمثال نابليون بباريس وبسمارك بهامبورج ونلسون بلندن، وينبغي أن
نلاحظ أن تمثال سعد بالإسكندرية سيكون قريبًا من تمثال محمد علي الذي لا يتجاوز
ارتفاعه سبعة أو ثمانية أمتار، وليس من اللياقة أو الجمال أن يتجاوز ارتفاع تمثال
سعد تمثال رب الأسرة العلوية".
لم يكن المقصود بالطبع تعديل الجوانب الفنية في
التمثالين بل عرقلة مشروعات تخليد الزعيم سعد زغلول بأية وسيلة، فماذا كان رد فعل
الرأي العام المصري وقتها، كان الأمر واضحًا وضوح الشمس أمام الرأي العام، وتناولت
الصحف الوطنية موقف حكومة إسماعيل صدقي بالهجوم في حدود ما كانت تسمح به ظروف
الرقابة والتضييق على الحريات العامة في تلك الفترة.
ودخل الكاريكاتير والزجل ميدان المعركة دفاعًا
عن مختار وفنه ودفاعًا عن سعد وذكراه، فنشرت إحدى الصحف رسمًا ساخرًا لمختار وإلى
جانبه تمثال سعد زغلول، وأمامه إسماعيل باشا صدقي يخاطبه حاملًا تمثاًلا لرأسه
شخصيًا ـ أعني رأس صدقي ـ ويقدمه لمختار على "صنية" وتحت الرسم عنوان
كبير: "رأس تمثال سعد"، ثم عنوان آخر صغير يقول: "اقتراح يتقدم به
صاحب الدولة رئيس الوزراء إلى المثال مختار"، ثم قصيدة زجلية على لسان صدقي
يقول فيها:
بلاش مقاوحة يا شيخ في الفن ومغالطة
فين سعد؟ فين وشه؟ فين المجد والسلطة؟
الجسم جسمه صحيح... قابلينه بالبلطة
لكن بقى الوش في التمثال ودماغه
بالهايفة فيهم ميتين أو تلتميت غلطة
بلاش تغير! ما فيش للتعب داعي
أدي دماغ تانية من صنعي وإبداعي
شوف فيها فني... وشوف في الفن طول
باعي
ركبها واخلص على التمثال... وأنا اقطع
إن حد قال بم للتمثال دهو ـ دراعي
هاود وطاوعني أحسن لك وأبقى لك
مالك مبوز كده؟ مال حضرتك مالك؟
هاود وطاوعني واستنقح لتمثالك
أحسن ميدان في البلد ـ دا سعد كان
روحي ـ
واجعل جبال الدهب ربحك وراسمالك...
لكن هل توقف مختار عن العمل في التمثالين؟ وهل
نجحت جهود إسماعيل صدقي في إثنائه عن غايته؟
رغم كل العقبات استمر مختار يعمل في التمثالين،
تمثال سعد في القاهرة وتمثاله في الإسكندرية، وكانت أم المصريين، السيدة صفية
زغلول أرملة الزعيم سعد زغلول تزوره في موقع العمل وتشد من أزره، مثلما زاره سعد
من قبيل رحيله في موقع العمل بتمثال النهضة.
وكلما زاد تعنت الحكومة وتضيقها على مختار
وتمثاليه كلما زاد إصراره على إنجاز العمل، لقد أصر مختار على استكمال عمله وتسجيل
ملحمة نضال الشعب المصري من خلال تماثيل الزعيم سعد زغلول، فأعد النماذج الكاملة
لمشروعه تمهيدًا لتنفيذه برضاء الحكومة أو بقوة القانون.
حاولت الحكومة من ناحيتها شراء مختار؛ فعرضت
عليه تعطيل العمل من جانبه مقابل تعويضه عن كل ما تحمله ماليًا، لكنه رفض لأن ما
يعنيه لم يكن ما أنفقه من مال على العمل طوال سنوات، بل كل ما كان يشغله إنجاز
العمل الفني القومي لبلاده، العمل الذي يخلد فيه كفاح الشعب من أجل الجلاء
والدستور، ويضيف به صرحيّن جديدين إلى جانب صرحه الأول الذي خلده إلى الأبد: تمثال
نهضة مصر، لقد ساندت الأمة مختار في مشروع تمثال النهضة وكان مختار يحاول أن يرد
بعضًا من الدين إلى الأمة في محنتها، عندما اغتال الطغاة دستورها وكبلوا حريتها،
وكان سلاحه الفن الذي أتقنه واحترفه.
اضطر مختار إلى مقاضاة الحكومة، وكان محاميه في
هذه القضية التي عرفها الرأي العام باسم "قضية المثال مختار" هو الأستاذ
عبد الرحمن الرافعي المحامي، قال الرافعي في عريضة الدعوى التاريخية التي قدمها
للمحكمة:
"هذه قضية
فذة لم يسبق للمحاكم أن نظرت مثلها في ظروفها وملابساتها، سواء في مصر أو في غير
مصر، لأن هذه أول مرة فيما نعلم تقف حكومة ما موقف الخصومة والإساءة والتحدي تجاه
فنان يعد بحق نابغة الفنانين في بلاده، ولا نعرف حتى الآن حكومة وقفت من نوابغ
فنانيها مثل الموقف الذي وقفته الحكومة من المثال مختار، وإذا وقفت أية حكومة حيال
الفن والفنانين موقف الاضطهاد واللدد في الخصام كان ذلك نذيرًا بالقضاء على النهضة
الفنية في البلاد، وهذا هو الموقف الذي تقفه الحكومة في هذه الدعوى".
وكما يقول بدر الدين أبو غازي في
كتابه المثال مختار:
"كانت
القضية مظهرًا من مظاهر النكسة التي أصابت عصره وعطلت طاقات الإبداع والانطلاق،
كانت أكبر من أن تكون نزاعًا بين فرد وحكومة، كانت مظهر تجمع قوى الرجعية ضد إرادة
الشعب ممثلة في هذا الفنان الذي أخذ يعد لإقامة تمثال يخلد ملحمة الكفاح الشعبي في
رمز زعيم تلك الحقبة سعد زغلول، من أجل هذا كانت قضية المثال مختار كما سمتها صحف
العصر حلقة في خط المقاومة الذي أقامه الحكم الرجعي المطلق بعد سنة 1930 في مواجهة
المفكرين، حين كانت الحرية مغلولة والرأي مقيدًا. وجيل المفكرين والفنانين يعود
ليلتقط الأسلحة التي ألقاها ليرد بها العدوان عن حرياته الأساسية وعن القيم التي
ظفر بها في السنوات التي تلت ثورة 1919."
لقد رحل مختار عن عالمنا في 27 مارس سنة 1934
قبل أن تنتهي القضية، وقبل أن يرى التمثالان النور ودون أن يراهما مختار في
موضعهما الذي اختاره، لكن الأمور سارت في طريق معاكس، فكسب مختار القضية وحكم
لورثته بالتعويض لما لحق به من أضرار، وسقطت حكومة إسماعيل صدقي وحكومات السرايا
التي توالت بعدها، وعاد دستور 1923، ومات فؤاد، واستأنفت الحكومة مشروعات تخليد
ذكرى سعد، فنقلت رفاته إلى ضريحه في سنة 1936، وأزيح الستار عن التمثالين في صيف
1938، وانتصرت بذلك إرادة الأمة على إرادة الملك وأعوانه.
ويوم نقل رفات سعد إلى ضريحه الذي تستقر فيه إلى
اليوم، نشر الكاتب الكبير عباس محمود العقاد قصيدة بهذه المناسبة قال فيها:
عرف النفي حياة ومماتًا
وأصاب النصر روحًا ورفاتًا
كلما أقصوه عن دار له
رده الشعب إليها واستماتا
كيف نجزيه افتئاتًا وهو من
كان لا يرضى على الشعب افتئاتًا
أصبحت دارك مثواك فلا
تحسن بعد اليوم يا سعد شتاتًا
حبذا الخلد ثمارًا للذي غرس المجد ونماه نباتًا
كل أرض للمصلي مسجدًا غير أن الكعبة الكبرى مقامًا
هكذا قبرك مرفوع الذرى في
جوار البيت أو سفح الإمام
أرض مصر حيث أمسيت بها فبنوا مصر حجج وزحام
غير أن الذكر يبقى منسكا مثلما يبغيه حج واستلام
فالق في قبرك خلدًا كلما مر عام تبعته ألف عام
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق