(11)
حكاية الرجل الذي وحد الأمة
عماد أبو غازي
كان
المشهد يوم تشييع عبد الحكم الجراحي يوحي بأن الأمة توحدت، لكننا كنا في حاجة إلى
ثلاثة أسابيع أخرى قبل أن تتشكل الجبهة الوطنية، وقبل أن تستعيد الأمة دستورها،
وتفرض على بريطانيا العظمى الدخول في مفاوضات.
في اليوم التالي لتشيع الجراحي اجتمعت اللجنة
التنفيذية العليا للطلبة واتخذت قرارات منها: فتح باب الاكتتاب لإرسال وفد من
الطلبة إلى مقر عصبة الأمم للمطالبة باستقلال مصر والسودان، والاحتجاج على إجابة
الدعوة لزيارة الأسطول البريطاني لمصر، ومنها المطالبة بمحاكمة المسئولين عن
التصدي لمتظاهرين بعنف، ولم يتهم أحد وقتها بالاستقواء بالخارج، كما أعلنت اللجنة
مواصلة الطلاب لنضالهم حتى تحقيق كل مطالب الأمة.
كما أرسل الطلاب برقيات احتجاج إلى عصبة الأمم
وإلى رئيس الوزراء والوزراء، يحتجون فيها على استخدام القوة لفض مظاهراتهم السلمية
ويعترضون على إغلاق الجامعة.
ورغم إحالة عدد من الطلاب المتظاهرين إلى المحاكم، استنادًا لقوانين استحضرتها
الحكومة لضرب حركة الطلاب، إلا أن الحركة تصاعدت واتسع نطاقها لتشمل عددًا كبيرًا
من المدن المصرية، واتخذ الطلاب قرارًا بأن يكون يوم الخميس 21 نوفمبر يومًا
للإضراب العام حدادًا على أرواح الشهداء، ونجح الإضراب رغم جهود الحكومة والإنجليز
لإفشاله، فاحتجبت الصحف عن الصدور، وأغلقت المحال التجارية، وأضرب المحامون، وخرجت
المظاهرات إلى الشوارع تتقدمها الطالبات وتوجهت إلى بيت الأمة حيث ألقت أم
المصريين كلمة في الجموع المحتشدة أشادت فيها بالحركة الطلابية الصاعدة التي تسعى
نحو عودة الدستور والاستقلال.
صفية زغلول
وفي نفس اليوم توجهت لجنة من سيدات الوفد إلى مقابر
الشهداء لوضع باقات الزهور، ثم زرن أسر من استشهدوا في المظاهرات. وكان رد الحكومة
مد قرار إغلاق الجامعة أسبوعًا ثم أسبوعًا أخرًا لتستمر الجامعة مغلقة حتى يوم 7
ديسمبر.
وخلال الأسبوعين سارت الحركة في مسارين مختلفين،
فمن ناحية انضمت هيئات جديدة إلى حركة الاحتجاج فأرسل القضاة رسالة للملك ورئيس
وزرائه تؤكد رفضهم لغياب الحياة النيابية ولتدخل بريطانيا في شئون مصر، وتوالت بعد
ذلك بيانات الاحتجاج من أساتذة الجامعة، بدأت بكلية الآداب ببيان قوي اللهجة فيه
إدانة واضحة لموقف الحكومة، وللعنف الذي تمت مواجهة مظاهرات الطلاب به، وجاء في
البيان:
"شعرنا من زمن
نحن المصريين من هيئة التدريس في كلية الآداب بالجامعة المصرية أن قلقًا يساور
المصريين، وتكاد آثاره تفسد على البيئة الجامعية أمرها وتحول بينها وبين أداء
الواجب الجامعي من تثقيف الشباب وتعليمهم، وقد انتهى هذا القلق إلى الاضطراب الذي
حدث في الأيام الأخيرة، ونشأ عنه وقف الدراسة في الكليات أسبوعين بعد أن قام
الطلبة بمظاهرات سلمية قمعت بعنف شديد أزهقت فيه أرواح بريئة، وما تزال تدمي لها
قلوب الأساتذة حزنًا وألمًا.
وكثيرًا ما شغلنا هذا القلق وحملنا على البحث عن
أسبابه، وتحدث في ذلك بعضنا إلى بعض، والآن وقد بلغ الأمر هذا المدى الخطير، نرى
من الواجب علينا والحق لنا أن نقرر أن أسباب هذا القلق الذي أثار الأبناء وأزعج
الآباء ترجع إلى اضطراب الحياة السياسية المصرية الداخلية والخارجية، فإن من حق
مصر أن تنعم بحياة مستقرة واضحة الحدود، قوامها الاستقلال والديمقراطية. لكن موقف
إنجلترا من مصر حال دون تنظيم العلاقة بيننا وبينها أولًا، وأغراها بالتدخل في
شئوننا الخاصة ثانيًا، حتى جهر وزير خارجيتها بأنها تأبى عودة الدستور الذي رضيه
الشعب وأقره جلالة الملك.
وإننا نأسف كل الأسف لهذه الحالة المنكرة التي
صارت إليها الأمور، ونصارح الأمة وأولي الأمر والرأي فيها بأن مستقبل الوطن عامة
والعلم والمتعلمين خاصة متعرض لأشد الأخطار، ما دام هذا القلق متسلطًا على النفوس،
ونهيب بهم جميعًا أن لا يضنوا بما يملكون من جهد وعزم وحزم في درء هذا الخطر عن
البلاد.
ولعل هذا الصوت الجامعي الهادئ يبلغ مسمع
الإنجليز شعبًا وحكومة، فينبههم إلى أن ما يسببونه من القلق في مصر لا يلائم
المصلحة المصرية ولا المصلحة الإنجليزية ولا مصلحة السلام العام."
وقد وقع على البيان جميع أساتذة كلية الآداب
المصريين، وتلت كلية الآداب كليات الهندسة والتجارة والزراعة والحقوق، وإن كان بعض
أساتذة كلية الحقوق رفضوا التوقيع على بيان الكلية بسبب فقرة في البيان تضمنت
نصحًا للطلاب بالهدوء وترك الأمر لزعماء الأمة، وقد قرر هؤلاء الأساتذة الانضمام
إلى بيان أساتذة كلية الآداب لقوته ووضوحه، كذلك اجتمع أساتذة كليتي الطب والعلوم
وقرروا تبني البيان الصادر عن أساتذة كلية الآداب.
ومن ناحيتهم أصدر الأطباء والمحامون بيانات
تطالب بالدستور والاستقلال، وتدين عنف الحكومة في مواجهة المظاهرات السلمية، وتدعو
الأحزاب لتوحيد موقفها.
وفي نفس الوقت استمرت المظاهرات والمؤتمرات
السياسية رغم تعطيل الدراسة في الجامعة والأزهر وكثير من المدارس.
ومن ناحية أخرى بدأ انشقاق واضح في المعارضة،
فالوفد يرى أن المطلب الأساسي عودة دستور 23 وإجراء انتخابات نيابية تمهيدًا
للدخول في مفاوضات من أجل الاستقلال، بينما رأى الأحرار الدستوريين وبعض الأحزاب
الصغيرة تقديم مطلب الاستقلال على عودة الدستور، وانعكس الانقسام على حركة الطلاب
فظهرت اللجنة القومية من طلاب الأحرار ومصر الفتاة في مواجهة اللجنة التنفيذية
التي كان الوفد يسيطر عليها، وبدأت الاجتماعات الطلابية تشهد تراشقًا بالكلمات ثم
بالبيانات، ووصل الخلاف إلى ذروته في الأسبوع الأول من ديسمبر، واعتقدت بريطانيا
أن الأزمة إلى زوال قريب وأن الأمور ستعود إلى سابق عهدها، وتصورت حكومة نسيم إنه "مولد
وانفض"، وبالتالي لم تر مبررًا لتأجيل الدراسة مرة أخرى، فالخلاف بين الطلاب
أصبح أشد من خلافهم مع الحكومة.
لقد كان الطلاب يعدون لإقامة نصب تذكاري للشهداء
بساحة الجامعة يزاح عنه الستار يوم افتتاح الدراسة صباح 7 ديسمبر، وكان متوقعًا أن
يتحول الاحتفال إلى معركة على من يتقدم الحفل طالب الحقوق محمد فريد زعلوك زعيم
الطلبة الوفديين أم طالب الطب نور الدين طراف زعيم الجبهة المعارضة للوفد.
لكن الأقدار لعبت دورها مرة أخرى، لتتوحد جبهة
الطلاب وتتكاتف، وتدفع قادة الأحزاب أيضًا إلى الوحدة.
لكن كيف انقلب الخلاف إلى اتفاق مرة أخرى؟ وكيف مر حفل إزاحة الستار بسلام
ووقف فيه طرفا الخلاف معًا؟ وكيف صدر البيان الذي يعلن وحدة الصفوف، ويدعو قادة
الأحزاب إلى الاتحاد حول مطلبي الدستور والاستقلال معًا، والذي نشر في الصحف صباح
السبت 7 ديسمبر؟
هناك رواية نشرها الدكتور عاصم محروس عبد المطلب
في كتابه الذي صدر مؤخرًا عن مركز تاريخ مصر المعاصر بدار الكتب، مصدرها حوار أجره
مع فريد زعلوك زعيم الطلبة الوفديين، ويرجع الحديث إلى عام 77، يؤكد فيه زعلوك أن
الخلاف لم يكن حادًا! وإن خصوم الوفد من الطلاب زاروا الطلاب الوفديين في مقر نادي
المحاماة مما أزال الخصومة فورًا، وساعد على ذلك بعض المحامين الوفديين من لجنة
الدفاع عن الطلاب المحالين للمحاكم كانوا حاضرين بالمصادفة، فتمت المصالحة وصدر
البيان المشترك.
الدكتور محمد ضياء الدين الريس
لكن هناك رواية ثانية للدكتور محمد ضياء الدين
الريس في كتابه "الدستور والاستقلال والثورة الوطنية 1935" الصادر سنة
1975، تكشف عن تفاصيل أخرى كان المؤلف بطلها، يتحدث الدكتور الريس باعتباره شاهدًا
على الأحداث معتمدًا على مذكراته وذكرياته، وكان قد تخرج من دار العلوم في تلك
السنة وعين مدرسًا بوزارة المعارف، ويذكر أنه قرر أن يقابل زعماء الطلبة وهم شباب
مثله ويتحدث إليهم مبينًا خطر الانقسام على الوطن، وما فيه من إهدار لتضحيات
الشهداء، ويدعوهم إلى الاتحاد، ليدفعوا زعماء الأحزاب إلى الوقوف صفًا واحدًا، من
أجل الدستور والاستقلال معًا، فلا تعارض بين المطلبين، بل هما متكاملان. واصطحب
معه في هذه المهمة زميل سبقه في التخرج اسمه أحمد بدوي، وبدأ الشابان جولات
"مكوكية" بين فريد زعلوك ونور الدين طراف بدأت يوم 3 ديسمبر وكللت
بالنجاح مساء يوم 6 ديسمبر، وساق القدر هور بتصريح متعجرف جديد قال فيه أن
بريطانيا لن تتفاوض مع مصر في هذه الظروف، فقد كان يظن أن الانقسام في صفوف
المصريين قضى على حركتهم.
يحكي ضياء الدين الريس تفاصيل القصة على مدار
عشر صفحات من كتابه، تلك القصة التي تنتهي بصدور بيان مشترك لقيادات الحركة
الطلابية نشر في صحف السبت 7 ديسمبر، وتلي أمام نصب الشهداء، كان الريس هو محرر
مسودته.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق