الاثنين، 14 نوفمبر 2016

عبد الحكم شهيد العلم

 زي النهار ده سنة 1935 بدأت ثورة الشباب، الثورة اللي أنهت أطول انقلاب دستوري في العصر الملكي، انقلاب فؤاد/صدقي، الثورة اللي رجعت دستور 23 وفتحت الباب لمرحلة جديدة في القضية المصرية.
 ده مقال كتبته في الشروق سنة 2010 في اليوبيل الماسي للثورة دي...

الشهيد محمد عبد الحكم الجراحي

14 نوفمبر 1935 ـ 14 نوفمبر 2010

اليوبيل الماسي لثورة الشباب

عماد أبو غازي

  في تاريخ الوطن صفحات مضيئة خطها بدمائهم أبطال منسيون، وأيام ينبغي أن نحفظها في ذاكرة التاريخ، واليوم، 14 نوفمبر، يوم من هذه الأيام.
 ففي هذا اليوم تمر الذكرى الخامسة والسبعون لثورة الشباب، تلك الثورة التي فجرها شباب مصر عام 1935 في مواجهة استبداد الملك فؤاد وحكوماته التي ألغت الدستور وأهدرت الديمقراطية.
 تلك الثورة التي سقط فيها عدد من الشهداء من قادة الحركة الطلابية المصرية وتوجت نضالًا شعبيًا استمر لسنوات، وكللت بالنجاح برضوخ فؤاد وعودة دستور 1923 بعد غياب دام أكثر من خمس سنوات.
 ومن هؤلاء الشهداء عبد الحكم شهيد العلم.
 محمد عبد الحكم الجراحي، يومها كان شابًا في العشرين من عمره، كان طالبًا في كلية الآداب بالجامعة المصرية، وسيم الطلعة، يلتمع الذكاء من عينيه، محبوبا من زملائه، دمث الأخلاق.
 تفتح إدراك عبد الحكم الجراحي على الحياة ومصر تعيش ثورتها الكبرى سنة 1919، التحق بالجامعة المصرية والبلاد في ظلال أسوء الانقلابات الدستورية التي عرفتها؛ ففي سنة 1930 تولى إسماعيل صدقي باشا الحكم، وألغى دستور 1923، ووضع دستورًا جديدًا للبلاد عرف بدستور 1930، رسخ فيه سلطات الملك على حساب سلطات الأمة ممثلة في مجلسها النيابي. استمر حكم صدقي باشا حتى عام 1933، عاشت خلاله مصر في ظل حكم ديكتاتوري عصف بكل المكاسب التي حققها الشعب المصري طوال نضاله منذ سنة 1795، وتوجها في ثورة 1919.
 استمر صدقي في الحكم ثلاث سنوات اشتدت فيه المعارضة وتصاعدت، وكان المسمار الأول في نعش حكومة صدقي حادثة مأمور البداري، التي أدانت فيها محكمة النقض برئاسة عبد العزيز فهمي باشا في حكم تاريخي لها فساد النظام وأفعال رجال البوليس في تعذيب المواطنين والتي وصفتها بأنها "إجرام في إجرام"، وبناء على هذا الحكم بدأت النيابة العامة التحقيق في وقائع التعذيب التي يتعرض لها المواطنون على يد رجال البوليس، وكان هذا الحكم وما تبعه من تحقيقات سببًا في انقسام في حكومة صدقي الذي أوقف التحقيقات فاستقال بعض وزرائه.
وفي نفس الوقت أحس الإنجليز بأن الأمر بات يهدد مصالحهم في مصر، وإن سياستهم الداعمة لصدقي تضر بهم، أعطوا الضوء الأخضر لفؤاد ليتخلص من رئيس وزرائه في محاولة لامتصاص الغضب الشعبي. فاستقال صدقي بإيعاز من الملك في سبتمبر 1933 وحل محله عبد الفتاح باشا يحيي الذي كان قد استقال من الوزارة ومن حزب الشعب قبلها بتسعة أشهر.
 لم يؤد سقوط صدقي إلى انتهاء الانقلاب الدستوري، بل استمرت نفس السياسة المعادية للدستور وللشعب، على يد حكومة حزب "الشعب" برئاسة الرئيس الجديد للحزب وللحكومة عبد الفتاح يحيي، واستمر دستور 1930 الذي سلب من الشعب حقوقه.
وفي خريف 1934 مرض الملك فؤاد، وشعر الإنجليز بأن رحيل فؤاد أصبح قريبًا، وإنهم أمام حكومة ضعيفة لا تملك سندًا شعبيًا، فتدخلوا في شئون البلاد بشكل فج ومهين، للملك ولحكومته.
 ويبدو أن فؤاد عندما شعر باقتراب أجله وبعد أن تأكد له فشل حكومة عبد الفتاح يحيي في إزالة الاحتقان، قرر أن يسعى في اتجاه إرضاء الشعب، فجاءت الخطوة الثانية عندما كلف الملك فؤاد توفيق نسيم باشا بتشكيل الوزارة في محاولة الاقتراب خطوة أخرى نحو الشعب والمعارضة، كما أصدر مرسومًا ملكيًا بإلغاء دستور 30 المرفوض شعبيًا، وحل البرلمان الذي أتت به انتخابات صدقي المزورة، إلا أنه لم يعد العمل بدستور 1923، بل نقل اختصاصات البرلمان إلى شخصه.
 ولم تكن نوايا فؤاد خالصة، لقد كان يعتقد أن خطوته ستؤدي لشق صفوف المعارضين، وقد أثمرت المحاولة بالفعل على هذا الصعيد، انفضت الجبهة القومية التي تشكلت من الوفد والأحرار الدستوريين، وشهد الوفد نفسه انقسامًا حادًا، فقد أيدت قيادة الوفد حكومة نسيم تأييدًا ضمنيًا، بينما رفضت بعض الفصائل الأكثر ثباتًا في المعارضة أن تؤيد الحكومة.
 وفي سنة 1935 كانت الأمة تموج بالغضب على الأوضاع، فالاحتلال البريطاني مستمر، والدستور المعبر عن إرادة الأمة معطل، والأحزاب السياسية منقسمة على نفسها، لقد مرور عام كامل من حكم توفيق نسيم دون إعادة دستور 23، ثم إحكام السيطرة البريطانية على البلاد بسبب الحرب الحبشية الإيطالية إلى انفجار الغضب الشعبي، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقال، تصريح السير صمويل هور وزير خارجية بريطانيا الذي صدر في 9 نوفمبر سنة 1935، وقال فيه: "لا صحة إطلاقًا إننا نعارض في عودة النظام الدستوري لمصر، بشكل يتفق مع احتياجاتها، فنحن انطلاقًا من تقاليدنا لا نريد أن نقوم بذلك ولا يمكن أن نقوم به، فقط عندما استشارونا في الأمر، أشرنا بعدم إعادة دستور 23 ولا دستور 30، لأنه قد ظهر أن الأول غير صالح للعمل به، والثاني غير مرغوب فيه".
واعتبر المصريون هذا التصريح ماسًا بسيادة مصر، بل حتى باستقلالها المنقوص الذي حصلت عليه بتصريح 28 فبراير 1922، والتهبت المشاعر وتوالت اجتماعات الهيئات الحزبية المختلفة لتصدر النداءات والبيانات التي تدين هذا التصريح.
 وقد تواكب صدور هذا التصريح مع قرب الاحتفال بعيد الجهاد الوطني الذي يوافق الثالث عشر من نوفمبر من كل عام، ذكرى اليوم الذي توجه فيه سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي سنة 1918 إلى دار المعتمد البريطاني مطالبين بإنهاء الأحكام العرفية والسماح لهم بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس ممثلين للشعب المصري، فكان الاحتفال مناسبة لانفجار الشعب ضد الحكومة والاحتلال.
 وبدأت الثورة من الجامعة والمدارس الثانوية في يوم 13 نوفمبر سنة 1935 حيث توافدت الحشود على السرادق المقام بجوار بيت الأمة، وبعد انتهاء الاحتفال خرجت مظاهرة حاشدة اشتبكت مع قوات البوليس التي كان يقودها الأميرالاي لوكاس بك مساعد حكمدار العاصمة، وقد أسفر الاشتباك عن استشهاد العامل إسماعيل محمد الخالع وجرح 150 آخرين، والقبض على 220 من المشاركين في الاحتفال والمظاهرات.
 وفي اليوم التالي تفجر الموقف في الجامعة فخرجت المظاهرات إلى ميدان الجيزة ثم اجتازت كوبري عباس، وفي الروضة تصدت قوات شرطة القاهرة التي كان يقودها ضباط وكونستبلات إنجليز للمتظاهرين وأطلقت الرصاص عليهم، وأصيب محمد عبد المجيد مرسي الطالب بكلية الزراعة برصاصة في صدره فكان أول الشهداء يوم 14 نوفمبر.
 وكان حامل العلم في هذه المظاهرة الطالب محمد عبد الحكم الجراحي الذي ظل يتقدم رافعًا علم مصر رغم تحذيرات قوات الأمن، فأصابته ثلاث رصاصات في بطنه نقل على أثرها إلى مستشفى قصر العيني، وهناك ظل الجراحي يقاوم الموت لخمسة أيام، ومن على سريره بالمستشفى أرسل خطابًا إلى مستر بلدوين رئيس وزراء بريطانيا رسالة قال في مطلعها إلى بريطانيا روح الشر، وعدد فيها مظاهر عدوان بريطانيا على الشعوب وتنبأ بقرب زوال إمبراطوريتها، كما بعث برسالة أخرى إلى زملائه قال فيها: "إخواني الأعزاء: إني أشكر لكم شعوركم السامي بالنسبة لما أديته، وأعتبره أقل من الواجب في سبيل البلد الذي وهبنا الحياة بل وهب الحضارة للعالم".
 وبعد خمسة أيام صدرت الصحف يوم 20 نوفمبر تحمل نبأ وفاته، فقالت:
 "ولم تغن مهارة الأطباء في رد القضاء، فبعد الساعة السابعة من صباح أمس بدقائق أسلم الشاب محمد عبد الحكم الجراحي أنفاسه الأخيرة، ولحق بمن سبقه من ضحايا الوطن، وما أن رأى الذين حوله أنه فارق الحياة حتى أخذوا يقبلون جثمانه ويهتفون للحرية وشهدائها، ثم أحدقت به الممرضات يبكين بالدمع الغزير وهو مسجى فوق سريره."
 وكان لوفاة الجراحي أعمق الأثر في وجدان المصريين، وصار رمزًا للنضال الوطني لطلاب الجامعة المصرية، ورغم أن الجراحي لم يكن الشهيد الوحيد في مظاهرات نوفمبر 1935، كما لم يكن أول هؤلاء الشهداء ـ فقد استشهد قبله محمد عبد المقصود شبكة ومحمد محمود النقيب من طنطا والعامل إسماعيل محمد الخالع وعبد المجيد مرسي الطالب بكلية الزراعة وعلي طه عفيفي الطالب بدار العلوم يوم 16 نوفمبر ـ فإن استمراره تحت العلاج لخمسة أيام ومتابعة الصحف لأخباره ومحاولات إنقاذ حياته جعل مشاعر الناس تلتف حوله، وكانت جنازته من الجنازات الشعبية المهيبة في تاريخ مصر.
 وقد وصف بشتلي أفندي في تقريره بالقلم المخصوص بوزارة الداخلية الجنازة قائلًا:
 "عندما يموت أحد المتظاهرين تكون المشكلة الكبرى أمام السلطات هي أن تنتهي الجنازة بأقل قدر ممكن من الاضطرابات، وقد نجح البوليس في تلافي القلاقل الخطيرة في كل الحالات عدا حالة واحدة، حالة محمد عبد الحكم الجراحي الذي توفي في 19 نوفمبر، وفي بادئ الأمر أخفى طلبة الطب الجثمان في المستشفى ورفضوا الإفصاح عن مكانه، حتى أعطيت التأكيدات بأنه سوف يسمح بخروج جنازة شعبية، وقد اشترك جمع غفير في الجنازة التي خرجت في مساء نفس اليوم، وعومل الفقيد باعتباره بطلا وطنيا، ورافق زعماء سياسيون، مثل النحاس وصدقي ومحمد محمود وآخرون مسيرة الجنازة لقدر من المسافة..."
 في اليوم التالي لتشيع الجراحي اجتمعت اللجنة التنفيذية العليا للطلبة واتخذت قرارات منها: فتح باب الاكتتاب لإرسال وفد من الطلبة إلى مقر عصبة الأمم للمطالبة باستقلال مصر والسودان، والاحتجاج على إجابة الدعوة لزيارة الأسطول البريطاني لمصر، ومنها المطالبة بمحاكمة المسئولين عن التصدي لمتظاهرين بعنف، كما أعلنت اللجنة مواصلة الطلاب لنضالهم حتى تحقيق كل مطالب الأمة.

 ولم تذهب دماء الجراحي ورفاقه سدى فقد امتد الاحتجاج والثورة إلى كل هيئات الأمة وطوائفها، وتصاعدت المظاهرات، ونجحت ثورة الشباب سنة 1935 في دفع قادة الأحزاب إلى تشكيل الجبهة الوطنية، وصباح الأربعاء 11 ديسمبر 1935 صاغ قادة الجبهة خطابين الأول للملك يطلب عودة دستور 1923، والثاني للمندوب السامي البريطاني يطلب بدأ المفاوضات من أجل الجلاء، وسط ذهول الملك والإنجليز من التحول السريع في المواقف، ولم ينقض يوم الخميس 12 ديسمبر 1935 إلا وكانت حكومة توفيق نسيم قد قدمت استقالتها، وأصدر الملك أمرًا ملكيًا بعودة الدستور، وانتصر الشعب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...