(10)
يوم 14 نوفمبر 1934
عماد أبو غازي
استمرت المظاهرات التي وصفها المؤرخون بأنها ثورة الشباب واعتبروها تقارب
في قوتها وأهميتها ثورة 1919، وكانت مظاهرة 14 نوفمبر من أقوى هذه المظاهرات، وقد
دفعت قوتها الحكومة إلى اتخاذ قرارًا بإغلاق الجامعة ظلت تجدده حتى تهدأ ثورة
الطلبة، لكن الثورة تواصلت لعدة أيام وسقط فيها عشرات الجرحى والشهداء فبعد
استشهاد محمد عبد المقصود شبكة ومحمد محمود النقيب من طنطا والعامل اسماعيل محمد
الخالع في سرادق بيت الأمة يوم 13 نوفمبر، استشهد عبد المجيد مرسي الطالب بكلية
الزراعة في مظاهرة 14 نوفمبر وعلي طه عفيفي الطالب بدار العلوم يوم 16 نوفمبر.
الشهيد محمد عبد المجيد مرسي
لكن أشهر هؤلاء الشهداء الذين غيروا تاريخ مصر
بدمائهم كان الشهيد محمد عبد الحكم الجراحي شهيد كلية الآداب الذي أصيب بالرصاص في
مظاهرة 14 نوفمبر.
لقد بدأت الأحداث يوم الخميس 14 نوفمبر 1935
وفقًا لرواية الدكتور محمد ضياء الدين الريس بتجمع طلاب كلية الحقوق في الثامنة
صباحًا بفناء الجامعة الرئيسي أمام كليتهم، وسرعان ما انضم إليهم طلاب كلية
الآداب، وبدأت الهتافات المطالبة باستقالة الحكومة وعودة الدستور، ثم انضم إلى
الحشد طلاب كلية الهندسة وطالبات كلية الآداب، واعتلت إحداهن منصة الخطابة وألقت
كلمة حماسية، أعقبتها كلمات لممثلي كليات الجامعة؛ وبعد احتشاد الطلاب خرجوا في
مظاهرة كبيرة سارت في شارع المدارس (شارع الجامعة الآن) فانضم لها طلاب كليات
الزراعة والطب البيطري والمدرسة السعيدية ومدرسة التجارة المتوسطة، وسارت المظاهرة
حتى وصلت كوبري عباس دون تدخل من قوات البوليس التابعة لمحافظة الجيزة، وبمجرد أن
عبرت المظاهرة كوبري عباس ووصلت إلى الروضة تصدت لهم قوة من الكونستبلات الإنجليز
بقيادة البكباشي ليز والكونستابل لوكنر، وأصدر المستر كين بويد مدير إدارة الأمن
الأوروبي بوزارة الداخلية أوامره بإطلاق الرصاص على المظاهرة، فأصيب الطالب محمد
عبد المجيد مرسي من طلاب كلية الزراعة بعدة رصاصات أودت بحياته، كما أصيب عدد من
الطلاب بالرصاص الحي وكانت إصابة الطالب محمد عبد الحكم الجراحي الذي أصيب بعدة
رصاصات خطيرة فتم نقله إلى مستشفى قصر العيني، واستمر الجراحي يصارع الموت خمسة
أيام، وكانت متابعة الصحافة لإخباره يومًا بيوم سببًا في التفاف مشاعر الأمة حول
الشاب الذي كان في العشرين من عمره.
الشهيد علي طه عفيفي
هذا وكان أحمد لطفي السيد مدير الجامعة قد اتخذ قرارًا بإغلاق الجامعة لمدة أسبوع اعتبارًا من يوم 14 نوفمبر، وكذلك إغلاق نادي الجامعة بشارع المناخ (عدلي) وكان النادي ملتقى لطلاب الجامعة وأساتذتها، لكن مدرسة دار العلوم العليا التي كانت حتى ذلك الحين لا تتبع الجامعة قررت استئناف التظاهر يوم السبت 16 نوفمبر، وبعد خروج المظاهرة من مبنى المدرسة القديم بشارع المبتديان في طريقها إلى بيت الأمة تصدت لها قوات الشرطة والجيش وتعدت على المتظاهرين بالهراوات، وأصيب الطالب علي طه عفيفي بكسر في قاع الجمجمة بعد أن تعرض للضرب بعنف من بعض الجنود، واستشهد في اليوم التالي، وشيعه جمع كبير من المواطنين في جنازة شعبية كبيرة زادت من السخط على الحكومة.
علي طه عفيفي مصابًا قبيل وفاته
وفي نفس اليوم خرجت المظاهرات من طلاب المدارس
الثانوية في معظم محافظات مصر، وتصدى لها البوليس والجيش بالقوة، وتم القبض على
العشرات وتقديمهم لمحاكمات عاجلة، حصل معظمهم فيها على البراءة أو على أحكام
مخففة.
أما الأزهر، فبمجرد أن تسرب نبأ نية طلابه تنظيم
مظاهرات ضد الحكومة، قام الشيخ المراغي شيخ الجامع الأزهر بتعطيل الدراسة بمناسبة
اقتراب شهر رمضان، رغم أن الأحداث جرت في منتصف شعبان، وقد اتخذ الشيخ قراره بعد
لقاء استمر لمدة ساعة كاملة مع المستر كين بويد.
وفي نفس الوقت استمرت محاولات الأطباء في مستشفى
قصر العيني لإنقاذ حياة عبد الحكم الجراحي دون جدوى، وكانت الرسائل التي يبعث الجراحي
بها من سريره وهو بين الحياة والموت سببًا في حفز همم المصريين واشتعال الموقف ضد
حكومة توفيق نسيم وضد الاحتلال، فقد بعث إلى مستر بلدوين رئيس وزراء بريطانيا
رسالة قال في مطلعها إلى بريطانيا روح الشر، وعدد فيها مظاهر عدوان بريطانيا على
الشعوب وتنبأ بقرب زوال إمبراطوريتها، كما بعث برسالة أخرى إلى زملائه قال فيها:
"إخواني
الأعزاء: إني أشكر لكم شعوركم السامي بالنسبة لما أديته، وأعتبره أقل من الواجب في
سبيل البلد الذي وهبنا الحياة بل وهب الحضارة للعالم".
الجراحي
عندما علم الطلاب بنبأ وفاة الجراحي قرروا أن
يشيعوا جثمانه في جنازة شعبية تليق به وبالقضية التي استشهد من أجلها، وتناوبوا
على حراسة الجثمان حتى لا تختطفه الحكومة ليدفن في صمت مثلما حدث مع زميله الشهيد محمد
عبد المجيد مرسي.
وخرجت الجنازة من مستشفى قصر العيني يتقدمها
مصطفى النحاس وأحمد لطفي السيد رئيس الجامعة ومنصور فهمي عميد كلية الآداب وعشرات
من الساسة المصريين من مختلف الاتجاهات وزعماء النقابات المهنية والعمالية، وآلاف
الطالبات والطلاب، وتقدم العلم المصري الأخضر الجنازة وتوجهت الجنازة إلى مسجد
السيدة زينب حيث صُلي على الجثمان، ومن هناك إلى المدافن، وكان الطريق محفوفا
بآلاف المواطنين يهتفون لمصر ولشهيدها، وأصوات النساء ترتفع من الشرفات والشبابيك
مودعة جثمان عبد الحكم في رحلته الأخيرة. مشهد رأيته يتكرر في نوفمبر 2012 في
جنازة الشهيد جابر صلاح (جيكا) شهيد موقعة محمد محمود الثانية الذي ودعه الآلاف في
جنازة سارت من جامع عمر مكرم إلى مدافن باب الوزير في القلعة، بعد أن ظل في حالة موت
إكلينيكي لمدة خمسة أيام، وقد نقل الجثمان بعد ذلك إلى مدفن جديد بالقرب من باب النصر.
شاهد قبر الشهيد عبد الحكم الجراحي
وقد وصف بشتلي أفندي في تقريره بالقلم
المخصوص بوزارة الداخلية الجنازة قائلا:
"عندما يموت أحد المتظاهرين تكون المشكلة الكبرى أمام السلطات هي
أن تنتهي الجنازة بأقل قدر ممكن من الاضطرابات، وقد نجح البوليس في تلافي القلاقل
الخطيرة في كل الحالات عدا حالة واحدة، حالة محمد عبد الحكم الجراحي الذي توفي في
19 نوفمبر، وفي بادئ الأمر أخفى طلبة الطب الجثمان في المستشفى ورفضوا الإفصاح عن
مكانه، حتى أعطيت التأكيدات بأنه سوف يسمح بخروج جنازة شعبية، وقد اشترك جمع غفير
في الجنازة التي خرجت في مساء نفس اليوم، وعومل الفقيد باعتباره بطلًا وطنيًا،
ورافق زعماء سياسيون، مثل النحاس وصدقي ومحمد محمود وآخرون مسيرة الجنازة لقدر من
المسافة..."
وقد غطت الأهرام الجنازة تغطية تفصيلية، وجاء في
كلمة التحرير:
"لقد شهدنا أمس أول بوادر الائتلاف الحقيقية في مأتم المغفور له
محمد عبد الحكم الجراحي، فقد حقق هذا الفتى المعجزة التي حبطت دونها جهود
المفكرين، إذ اجتمع وراء نعشه جميع رؤساء الهيئات والأحزاب، ساروا صفا واحدا وقد
نسوا كل شيء إلا الضحية الغالية التي تسير الهوينة على أعناق الرفاق ملفوفة في علم
البلاد."
لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فما الذي حدث
بين تشيع الجراحي يوم 19 نوفمبر وعودة الدستور يوم 12 ديسمبر 1935؟
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق