(7)
سقوط طاغية
عماد أبو غازي
"أيها المصريون لقد رأيتم ما حل بوطنكم من
نكبات وما نزل بأرضكم من ويلات. لقد رأيتم كيف تصبح كرامتكم هدفًا للأهواء ولقمة
سائغة في فم الأعداء. لقد استغل الآثمون وداعتكم واتخذوها ذريعة لأطماعهم ومنفذًا
لخداعهم.
اعتدوا على الدستور وهو عنوان نهضتكم وعلى
البرلمان وهو رمز كرامتكم وعلى النيل وهو مصدر حياتكم. ولم يدعوا في أرض الوطن
لسان ينطق بالحق أو قلمًا يجري بالصدق ومدوا أيديهم إلى امتهان رجولتكم واحتقار
عزتكم لتطيب لهم لذات المناصب وشهوات الحكم في جو يأمنون فيه صوتًا يواجههم أو
كلمة تعلوا في وجوههم...
أيها المصريون إنهم أشخاص وأنتم أمة، إنهم أفراد
وأنتم جماعة، إنهم ضعف وأنتم قوة، إنهم يريدون المناصب وأنتم تريدون الحرية،
والمناصب في عهدهم ذل وعار والحرية شرف ووقار...
إن اليوم عصيب والوقت رهيب والنصر من المجاهدين
قريب، فجاهدوا قليلًا لتستريحوا كثيرًا، وإن كانت حياتكم غالية فالوطن أغلى، وإن
كانت معيشتكم عالية فالكرامة أعلى والموت خير للمرء من أن يقضي الحياة هوانًا وذلًا...
أيها المصريون اليوم يومكم والوطن لكم والحرية
حقكم. فهبوا لإنقاذها قبل أن تحق على البلاد كلمة الدمار والخراب، فثبتوا في الحق
أقدامكم، وارفعوا بجهاد الصدق أعلامكم".
هذه فقرات من منشور من تلك المنشورات التي كانت
تغرق مصر كلها في مواجهة حكومة صدقي واستبداده، والتي صورها المشهد الأخير من فيلم
القاهرة 30 لصلاح أبو سيف والمأخوذ عن رواية نجيب محفوظ "القاهرة
الجديدة" والذي يجري فيه الفنان عبد العزيز ميكاوي وهو يلقي في الهواء
منشوراته الثورية، وهذا المنشور موقع باسم المصري الحر، وصورته منشورة في كتاب
الانقلابات الدستورية في مصر، للدكتورين علي شلبي ومصطفى النحاس جبر، وكان المنشور
سلاحًا من أسلحة المقاومة ضد الاستبداد في زمن صودرت فيه الصحف، ولم تكن به
فضائيات أو شبكات للتواصل الاجتماعي على الإنترنت.
لقد استمرت المقاومة وتصاعدت ضد صدقي، وزاد من
قوتها وحدتها امتداد آثار الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى إلى مصر، وكان سلوك
حكومة صدقي في مواجهة الأزمة يصب في خدمة الأثرياء من كبار الملاك وأصحاب رؤوس
الأموال الكبيرة، بينما حاصرت الأزمة الناس في أرزاقهم، حقًا لقد أنشأت حكومة صدقي
"مساكن الشعب"، لتأوي الفقراء، بقي بعضها إلى الآن شاهدًا على العصر في
منطقة أبو الريش بالقاهرة، وافتتحت الحكومة "مطاعم الشعب" لإطعام
الجائعين، لكنها كانت مسكنات شكلية لم تؤد إلى حل المشكلات، وسرعان ما انضم العمال
والفلاحين إلى حركات الاحتجاج، وظهر عمال عنابر السكة الحديد في مقدمة الحركة
العمالية وطليعتها، كما شهدت قرى الدلتا والصعيد هبات فلاحية متعددة بعضها أخذ
طابعًا جماعيًا سياسيًا ضد دستور 30 وتزوير الانتخابات، وبعضها الآخر كان احتجاجًا
على سوء الأوضاع الاقتصادية وتعسف الحكومة في جباية الضرائب، وابتكر الوفد أسلوبًا
جديدًا في النضال بالدعوة للامتناع عن دفع الضرائب.
وانضم الاتحاد النسائي المصري بقيادة هدى شعراوي
إلى المعارضة، ونظمت لجنة سيدات الوفد مظاهرة نسائية ضخمة ضد حكومة صدقي باشا،
وخرجت المظاهرة من دار رياض باشا وسارت في طرقات القاهرة، وانضم إليها المئات،
وتدخلت الشرطة لفض المظاهرة بالقوة واعتقلت عدد من السيدات وأودعتهن في أقسام
الشرطة، ثم اضطرت تحت الضغط الشعبي للإفراج عنهن ليلًا، وقد شاركت النساء في أنشطة
عديدة ضد حكومة صدقي أبرزها الدعوة لمقاطعة الانتخابات البرلمانية الزائفة التي
نظمتها الحكومة.
وها هو شاعر النيل ينعى حال مصر في ظل الحكومة
الاستبدادية في قصيدة جاء فيها:
حولوا النيل واحجبوا الضوء عنا واطمسوا النجم واحرمونا النسيما
واملأوا البحر ـ إن أردتم ـ سفينًا واملأوا الجو ـ إن أردتم ـ نجومًا
وأقيموا للعسف في كل شبر
كونستبلًا بالسوط يفري الأديما
إننا لن نحول عن عهد مصر
أو
ترونا في التراب عظمًا رميمًا
لكن المسمار الأول في نعش حكومة صدقي كان حادثة
اغتيال مأمور مركز البداري، فقد كشفت تلك القضية عن الانتهاكات التي كانت تقع في
مراكز الشرطة ضد المواطنين، ففي ظل الدكتاتورية والاستبداد والفساد تغولت سلطة
البوليس والإدارة على سلطة القضاء والنيابة، ويحكي عبد الرحمن الرافعي في كتابه
"في أعقاب الثورة المصرية"، عن واقعة منع مأمور الشرطة في المنيا لأحد
وكلاء النيابة من مباشرة التحقيق في شكوى قدمها الأهالي ضد رجال الإدارة في مديرية
المنيا كنموذج لهذا التغول الذي ساندته الحكومة.
وقد
أدت سياسة إطلاق يد الشرطة وجهات الإدارة في التنكيل بالمعارضين السياسيين إلى
امتداد هذا الأسلوب إلى التعامل مع كل المواطنين، فأصبحت إهانة الكرامة والتعذيب
أسلوبًا معتادًا في أقسام الشرطة، ومن ضمن هذه الوقائع ما حدث في مركز البداري،
والذي انتهى بحكم لمحكمة النقض برئاسة عبد العزيز فهمي باشا في أدانت فيه المحكمة
في حكم تاريخي لها صدر يوم 5 ديسمبر سنة 1932 فساد النظام وأفعال رجال البوليس
التي وصفها الحكم بأنها "إجرام في إجرام"، وقالت المحكمة أيضا: "إن
من وقائع هذه القضية ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون بالأشغال الشاقة،
وإنها من أشد المخازي إثارة للنفس".
عبد العزيز فهمي
وفتح هذا الحكم ملف انتهاكات الشرطة؛ فبدأت
النيابة العامة التحقيق في وقائع التعذيب التي يتعرض لها المواطنون على يد رجال
البوليس في مختلف أنحاء البلاد، وكان هذا الحكم وما تبعه من تحقيقات سببًا في
انقسام في حكومة صدقي الذي أوقف التحقيقات فاستقال بعض وزرائه احتجاج على هذا
الإجراء، وتم تغيير الحكومة بعد استبعاد الوزراء المستقيلين، واستمرت انتهاكات
البوليس ورجال الإدارة، لكن حكومة صدقي الجديدة لم تصمد أكثر من تسعة أشهر وسقطت
وسقط معها صدقي باشا؛ ففي نفس الوقت أحس
الإنجليز بأن الأمر بات يهدد مصالحهم في مصر، وإن سياستهم الداعمة لصدقي تضر بهم،
فغيروا في صيف 1933 مندوبهم السامي الذي كان سندًا دائمًا لصدقي، وأعطوا الضوء
الأخضر لفؤاد ليتخلص من رئيس وزرائه في محاولة لامتصاص الغضب الشعبي. فاستقال صدقي
بإيعاز من الملك في سبتمبر 1933 وحل محله عبد الفتاح باشا يحيي الذي كان قد استقال
من الوزارة ومن حزب الشعب قبلها بتسعة أشهر، ولم يخرج صدقي من الوزارة فقط بل انفض
عنه حزبه "حزب الشعب" كما هي عادة أحزاب السلطة دائمًا.
روزاليوسف
وكتبت السيدة روزاليوسف تعليقا على سقوط
الطاغية:
"حين سقط
صدقي تخلى عنه كل شيء: تخلى عنه حزبه، وتخلت عنه جريدته، وتخلت عنه الأغلبية التي
أوجدها من العدم. وتلك كانت نتيجة طبيعية. فالبناء الذي يقام على السلطان يذهب
بذهاب السلطان، وما تأتي به الريح تذهب به الزوابع..."
لكن هل انتهى عهد الطغيان بسقوط الطاغية؟
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق