الخميس، 14 مايو 2015


أبي... بدر الدين أبو غازي
(14 مايو 1920 ـ 11 سبتمبر 1983)
 زي النهار ده من خمسة وتسعين سنة اتولد ابويا بدر الدين أبو غازي، اتولد يوم 14 مايو سنة 1920... فكرت أسيب له المدونة يتكلم فيها عن طفولته، الكلام اللي منشور هنا، ابتدى يكتبه من 57 سنة وشهرين، كان رسالة أو حوار أو مشروع كتاب مشترك مع أختي الصغيرة نادية...

 


 كتب بدر الدين أبو غازي:
الرحلة
باريس
14 مارس 1977
        إلى نادية...
        عندما قلت لي أود أن نؤلف كتابًا معًا كان لكلمتك في نفسي وقع ورنين، وبدأت أفكر ماذا نكتب معًا؟
وفي الطريق إلى المطار وأنت معي عاودتني الفكرة، وعندما أخذت مكاني في الطائرة كانت تعاودني مشاعر أسف على رحلات تطلعنا هذا العام إلى أن نقطعها معًا.


وكلما أعددنا لرحلة تعثرت حتى جاءت هذه الرحلة المفاجئة أقطعها وحدي.
عندما ترتفع الطائرة وتحلق في السحاب تعاودني سكينة من التأملات لا أحب أن أقطعها بالقراءة أو أشغلها بأمور أخرى تفسدها.
  هذه اللحظات النادرة التي أخلو فيها من مشاغلي وأتطلع إلى السحاب الفضي تبعدني عن كل ما يفصلني عن نفسي في دوامة العمل، وتجمع أطرافًا من الذكريات والتأملات في رحلة العمر التي قطعتها...
لماذا لا يكون كتابنا معا هو هذه الرحلة...
  أقص عليك طرفًا من رحلتي لتشقي أنت رحلتك بنفسك، وتقصين علي طرفًا من رحلتك التي مازالت تتفتح كزهور تشرق عليها الشمس وتلقي عليها الضياء.
  عندي رحلة أيام مضت وحياة تشكلت ولم يعد إلى تغييرها من سبيل، كل ما قد يأتي بعد ذلك قدر محتوم صاغته أيام العمر الماضية.
 وعندك رحلة حياة تتشكل ومازالت أغصانها الخضراء تحلق في النور وتصوغ زهورًا قد يكون للأرض التي نبتت فيها أثر في ألوانها، ولكن إرادة الحياة عندك وعبقرية الربيع في سنك مازالت تستطيع أن تشكل الأغصان وتتحكم في ألوان الزهور.
 في مثل سنك لم أكن قد زرت الإسكندرية، أما أنت فقد قطعت الرحلة وحدك إلى لندن، وذهبت في رحلة رفاق شبابك إلى باريس. جيلكم يختزن تجارب أفضل من جيلنا، ولديه الرغبة في الرؤية والمعرفة والتجوال، ولعل طموحه مع سرعة إيقاع الزمن أكبر من طموحنا.
  إن السنين التي ذهبت من عمري والليالي التي راحت في النسيان، والأمل والتطلع والساعات السعيدة والأيام الشقية، كل شيء يبدو أمامي في هذه اللحظة مضيئًا في حضور غريب، يأخذ على البعد قيمته، والحقيقة كلوحات التصوير التي لا تفضي إليك بأسرارها إلا على مسافة معينة.
 ماذا بقى من هذه الأيام؟ وهل تستطيع الكلمات أن تبلور جوهرها وتعيد إليها ضوئها الحي متألقًا في حقيقته الصادقة بالفرح والحزن، بالخوف أو السكينة، بالصراع أو الاستقرار؟
 إن صورًا كثيرة تفرض الآن حضورها في هذه اللحظات من صفاء الذهن وجلاء الذاكرة.
 

صورة من اللون الوردي تتشكل في بيت من أحياء القاهرة القديمة يلوح فيها أبي وأمي وخالتي وبعض إخوتي، وحولنا جو من المرح والهدوء والاستقرار، وجدتي في البيت تحكي لنا قصصًا غريبة عن أبطال وهميين وملائكة وجان، ومعنا في البيت أقارب من جيلها والجيل الذي تلاها... هكذا كانت بيوتنا في العشرينيات لا تعرف الأسرة المحدودة، وإنما تعرف العائلة بمعناها الواسع فكل شيء ميسر... البيوت فسيحة، والطعام لكل فم، والحياة لا معنى لها في إطار الأسرة الصغيرة المعزولة. لا أذكر بعد ذلك إلا صداقات رقيقة في طفولتنا، ولعب عزيزة علينا أكاد الآن ألمسها بيدي وتستعيدني طفلًا بغير هموم.

 
 
 وتأتى مرحلة المدرسة... سيارة تقدم كل صباح أنزل إليها كارهًا وأحيانا أبكى لأن دورتها الطويلة تعيدني إلى البيت الذي أحببت وقد أوشكت الشمس أن تغيب، ينزل أبي معي كل يوم ليطلب إلى السائق اختصار الرحلة.
 
كنت منطويًا خجولًا، فلم أجد صحبة هذا المجتمع الكبير من الأطفال متعة، قد تكون بعض الكلمات قد أقامت جسورًا بيني وبينهم، ولكني أجاهد في اجتيازها. أجد في بعض مدرساتي روحًا من الحب تربطني بهن؛ كانت إحداهن كأمي، وجدت عندها ظلًا من الرحمة وحنانًا، ولكنها ذات يوم أخبرتنا بأنها ستترك المدرسة، كان هذا هو الشرخ الأول في مشاعري، بكائي عليها مازال يهز نفسي حتى الآن... هل يمكن أن تبعد عنى وتغيب؟ وماذا تعني المدرسة بعدها وماذا تكون؟ طالت هذه المأساة، وعشت أيامًا مع الحزن لا يصرفني عنه شيء إلى أن جاء الحزن الأكبر...

 ذات صباح، وكنا قد انتقلنا إلى بيت جديد، وكم كان اختيار البيوت والتنقل بينها يسيران في تلك الأيام، هذا البيت أوسع، وذاك يجمع بين الشمس والهواء، وهنالك بيت آخر فيه حديقة، وهكذا تعددت صور البيوت في طفولتي... في هذا البيت الجديد، ولون الصباح رمادي في غرفة مغلقة النوافذ تطلعت إلى أمي، سمعتها تنتحب؛ وفي ركن من الغرفة أبي يحتضر، عيناه شبه مسبلتين، ولكن فيهما ابتسامة سكينة وبريق يلمع.      في لحظات تحول البيت إلى صراخ وضجيج، أشخاص يذهبون ويجيئون، وصلت سيارة المدرسة فصرفها من وكلوا إليه أمري من أتباع البيت وأصدقائه، وصحبني إلى محل قريب فاشترى لي قطعة من الشوكولاتة... ظللت معه في الطريق لا أريد العودة إلى البيت، وبعد لحظات وضعت مقاعد كثيرة، وبدأ الناس يتوافدون، وعند الظهيرة خرج من البيت نعش وارتفع بكاء واصطف جمع من تلاميذ مدرسته يشيعونه... لا أدرى كم مشينا، ولكن الطابور الطويل، وجموع المشيعين الغفيرة، وأصوات البكاء والنشيج غمرني في مسيرة طويلة يخيل إلى أنها امتدت من تمثال لاظوغلي حيث كان بيتنا إلى ميدان المحطة فوضع النعش في القطار ووضعنا معه. كم قطعنا هذه الرحلة بصحبته حيًا إلى بلدتنا في إجازات الصيف، كانت هذه رحلته ورحلتنا عرفنا بفضله الريف وعشنا في بيت جدي أيامًا مازال لها حضورها، وتنقلنا بين بيوت أقاربنا، وفي ذاكرتي حتى الآن صور شيخ الكتاب والحلاق والعريف والمأذون وعبيط القرية والمجانين وبنات الفلاحات في رحلة اليوم التقليدية إلى الترعة، رائحة الطعام في البيت تنبعث من الأفران، ومذاق النبات وعبيره في الحقول، وأيام الموالد بشموعها وألوانها، وأغاني جمع القطن، وحصاد القمح في الأجران، والنورج القديم نركبه في دورته التقليدية حول سنابل القمح، وصوت الجاموسة عزيزة، وركوب الحمير من البيت إلى الحقول، ورحلة السيارة تحملنا من القرية إلى المنصورة لنمضي يومًا بين محلاتها ومقاهيها، وعبور النيل في المراكب القديمة بين طلخا والمنصورة، كم لكل هذه الصور الآن من حضور غريب، الشكل واللون والعبير وبعد الزمن يضفي عليها بعدًا ساحرًا...
 كانت هذه هي رحلاتنا السابقة؛ أما هذه الرحلة فقد جللت بالسواد، حملناه إلى جبانة القرية، واختفى من بيوتها العتيدة الغناء وارتفعت أصوات النادبات... كان كل شيء ينوح عليه ويبكيه... ذهب في سن الثانية والثلاثين... كان الهدوء والطيبة والتواضع والمحبة... ظلت القرية تبكيه وتذكره ولا تغيب الدموع عن عيون نسائها ورجالها وشبابها كلما رأونا نأتي لنقوم بواجب الزيارة... وكان الحديث عن كرمه وشهامته وخلقه لا ينقطع على لسان كل من عرفه.

 سكن السواد بيتنا وأحاط كل شيء، الصور والأثاث والملابس، وكل حياتنا يجللها الحداد، وأمي لا تكف عن البكاء.  وعدت إلى المدرسة بعد غياب طويل مرتديًا مريلة سوداء، مازالت صورة هذه البقعة السوداء بين لون المرايل الفاتحة والأشرطة الخضراء تهزني؛ فقد انتبذت بين التلاميذ مكانًا قصيًا، وباعد هذا اللون بيني وبينهم، كأن حزنًا غامضًا عليهم يقتحم بهجتهم... ظل هذا اللون الأسود بقعة طاردة إلى أن رفعت الحداد.
 كانت هذه الرحلة بداية هموم ومتاعب عايشتها وأدركتها طفلًا.
  ما زلت أذكر أسوار القصر الملكي الرمادية ومجموعة من المكاتب أطرقها بصحبة أمي وجدي لنقبض حقنا في مكافأة... لم يكن على الدولة، أو مدارس الخاصة الملكية التي كان يعمل بها التزام سوى أربعين جنيهًا هي كل ثمن حياة ذهبت في سن باكرة ونصيب أسرة تدير بها شئون الحياة، لا أمن في الحياة ولا استقرار، وداعًا إذن لأيام ذهبت وطوت معها السعادة والرخاء. انتقلنا من بيت إلى بيت أصغر، وخيم السواد على كل شيء، صورة هذا البيت الجديد هي صورة الكآبة والخوف؛ وعرفت استمارة مجانية التعليم الرمادية، والالتماسات والتظلمات، أدركت هذه الأشياء في سن لا يعرف فيه الأطفال غير المرح واللعب.

وعاد خالى من باريس وحمل بنبل ودون أن يشعر أحد كل مسئوليتنا، ونقلنا مرة أخرى إلى بيت آخر كبير، كانت هذه السنة هي سنة أزمة نهضة مصر، وظروفه المالية ليست كما ينبغى، ولكنه أخفى عنا كل شيء، وانتهت أزمته، وأزيح الستار عن تمثال النهضة في حفل كبير مازلت أذكر صورًا منه، وخروجنا في الليل في عربة ذات خيول؛ فقد كانت السيارات شيئًا نادرًا في هذه الأيام، نطوف حول ساحة التمثال يلألئها النور وجموع الشعب تتطلع إلى الأثر القومى الذى طال إرتقابهم له، وفي طريق عودتنا لمحناه في سيارة مع صحبة من الأصدقاء.
 وفى هذه الأيام أيضًا قمت بعمل أخرجني من وحدتي وكسر حاجز الحداد الأسود الذي أحاطني؛ فقد أسندت إلى المدرسة دور أبو جميلة في مسرحية الحفل الختامي للمدرسة.

كانت مدرسة روضة أطفال قصر الدوبارة هي المدرسة الأولى للأطفال في مصر، وكان حفلها شيئًا كبيرًا يحضره رجال الدولة وجمع غفير من الناس، مثلت أمام هذا الجمع ونشرت المجلات والصحف صورتي وأنباء الاحتفال فعاودتني الثقة وشغلني هذا النجاح عن أحزان في باطني.
 
وما كاد الصيف يأتى حتى عدنا إلى رحلتنا التقليدية للقرية إلى جوار الغائب عنا، وعدت لأواجه أزمة جديدة، ففي نفسي إلف للأماكن والأشياء والأشخاص؛ فارقت مدرستي موجع القلب، وكم بكيت لفراقها وظللت وثيق الارتباط بها دائم التردد عليها في السنوات الأولى من تعليمي الابتدائي.
***
 قائد الطائرة يعلن اقترابنا من الجبل الأبيض هامات الجبل تجللها الثلوج، ولا يلوح من نافذة الطائرة شيء غيرها، جلال السكينة الرائع يحيطنا لحظات وكأننا نحلق في عالم سحري لو كانت السكينة الأبدية بهذا الجلال لذهب عنا بعض الخوف، رأيت الجبل الأبيض بعد ذلك من الأرض السويسرية وأنا أجتاز طرقات جنيف فلم أر له هذا السحر العظيم، إن رؤية الأشياء تتغير ووقعها يختلف فيتغير عمقها النفسي بتغير البعد والموقع.

***
الرحلة إلى باريس تهزني دائمًا فبيني وبينها وشائج لا تغيب، كانت رحلتي الأولى خارج مصر إليها وقبل هذه الرحلة فى الواقع كان إرتحال بالروح إليها لا ينقطع حتى زرت أحياءها ومتاحفها، وجبت ضفتيها اليمنى واليسرى في مخيلتي، وعايشت فنانيها وأدباءها العظام بين مونمارتر ومونبارناس والحى اللاتينى. فلما طرقتها أقدامى لأول مرة عام 1955 كنت أعرفها برؤيتي الذاتية قبل أن أراها بعيني.
 للأحياء والمدن حياتها وروحها وسرها الخاص، وهذا هو ما يربطني بباريس كارتباطي بصديق له في نفسي إلف ومحبة.
 ذكرت هذه المرة رحلتنا الأولى إليها مع أمك قبل مولدك، وذكرت رحلتنا الثانية حين كنت تجتازين طفولتك، وذكرت رحلاتي إليها منفردًا، لكل رحلة طابع ومذاق ولكن يبقى للرحلة الأولى سحرها الخاص، كانت جلاءً بصريًا لما نعرفه عنها في نفوسنا، وكانت رحلة البساطة والشباب، نعيش في حي الطلبة ونتردد على مطاعمهم، ونقطع الساعات سيرًا ونهتز لكل اكتشاف جديد، وكان كل ما رأينا وحصلنا ركيزة لرحلاتنا التالية.
 

 
 

 في اليوم الرابع من قدومنا لباريس خرجت وحدى متجهًا صوب السين، ولكنك كنت بصحبتي في الطريق إلى اللوفر، على الضفة اليسرى يقوم عمود ملحمي لم أره من قبل على كثرة ترددي على المكان، أنه تمثال آدم ميكيفتش شاعر بولونيا العظيم وبطلها نحته المثال الفرنسي أنطوان بورديل وأحاطه برموز تمثل الملحمة البولونية، على قاعدة العمود كلمات الشاعر العظيم:
         "ولو كنت أسيرًا
تستطيع بالفكر والإيمان أن تحلق"
 " ياروح الحرية إن الشخصيات العظيمة منك "
لقد كافح آدم ميكييفتز من أجل حرية بلاده وعاش مشردًا وأسيرًا، ولكن بورديل كان قبسًا من روح الحرية، فخلد الأحرار والمعذبين، ونحت من نسيج روحه هذا النصب العظيم لشاعر عظيم آدم ميكيفتش.
 عندما تذهبين إلى اللوفر لا تحاولي أن تزوري كل شيء فإنك لن ترى شيئا... وجهى نفسك إلى أعمال بذاتها، وقفي عندها طويلًا، فهنا فيض عطاء النفس الإنسانية عبر العصور، ومن العسير أن نستوعب في ساعات أو أيام كل هذا العطاء. في طريقك إلى القسم اليوناني وأنت تعبرين تمثال فينوس دي ميلو الشهير لا يفوتك أن تلقي النظر إلى أشياء صغيرة لم يكن لها هذا الحظ من الشهرة والذيوع، هنالك ستجدين نبض التمثال الإغريقي القديم وعطاءه الصادق في ثماثيل صغيرة قد تنصرف عنها العين.
"الموناليزا"، هنالك لافتات وإشارات توجه الطريق إليها وأمامها انظار خاشعة وأخرى تشدها الشهرة إلى هذا الركن المغطى بالزجاج تطل منه لوحة أبدع ليوناردو دافنشي أروع منها وأبدع غيره من الفنانين، ولكن لعبة الحظ في الحياة تمتد إلى روائع الفنون فتلقي على عمل ما من الأضواء أكثر مما يستحق وتغمر أعمالًا أخرى تفوقه روعة.
 طالت زيارتك للوفر أو قصرت فأعطي نفسك في اللحظات التي تخصصيها له لما ترين فيها عذابات فنانين من أجل الابداع، وهنا جانب مضيء من حضارة الإنسان، تأمليه فى ورع الصلاة، فإن ساعة واحدة من هذا الورع الروحي خير من ساعات تمضين فيها لاهثة بين أجنحته الشاهقة.
 في اليوم الخامس كنت أصعد سلمًا عاليًا لأصل إلى مسكن صغير يطل على موقع جميل في باريس ويشهد من شرفته قبة الأنفاليد؛ أصبح هذا البيت من مزاراتي التي أحرص عليها في باريس بحثًا عن الزمن الضائع من خلال حديث أو ورقة أو صورة.
 إنها رحلة لا تنقطع في حياتي، ارتبطت بها منذ رحلة بعيدة في الزمان قطعتها في عربة ذات خيول مع جدتي وأمي وخالتي من المنيل إلى المستشفى الفرنسي بالعباسية، ولكنها تبدو لي من أطول رحلات الحياة وأشقها، كان يوم عيد وحملت دقات التليفون نذيرًا فركبنا في هلع ووجوم وقلق نستحث الطريق، نكاد نستنفر الخيل ونضربها لتسرع الخطى، حتى بلغنا مبنى أصفر اللون تحيطه جدران صامتة، قطعنا حديقته عدوًا وصعدنا الدرج قفزًا حتى بلغنا غرفة فيها شبح يحتضر؛ إنه الموت مرة أخرى ولكن لونه هذه المرة باهت البياض ضارب في صفرة.
لم أكن قد رأيت مختار في مرضه، وكانت آخر صورته في نفسي صوت ضخم أخاذ وعيون يشع فيها بريق وجسد مفتول فكدت أنكر صورة هذا الحطام أمامي. كم تعذب!
 وفي هذه المرة ومن هذا المسكن في طريق بيتي بباريس قرأت بقايا أوراق تشير إلى آلام مبرحة وعذاب نفسي وجسدي مرير، ورحلة إلى مصحات سويسرا ينشد عندها العلاج، ووصف حزين لمرضه وحالته وإحساسه بالخطر، أعادتني هذه الصورة إلى تلك اللحظات من غروب حزين حين فارقته آخر أنفاس الحياة، وخرجت مع صديق نطوف حول جدران المستشفى فقد غمره الظلام وفجأة مثل أمامنا إحساس بالضياع.
قال من معي ماذا ستفعلون؟ وكيف ستعيشون؟ وقد كان كل شيء لكم، ومات بعد صراع مرير مع السلطات مدينًا معدمًا.
مرة أخرى لا أمن ولا استقرار ولا مال...

 في هذه اللحظات قدم صديقه عزيز المصري، وكان آخر من شهده قبل أن يذهب في غيبوبة الموت ثم انصرف فترة ليعد لدفنه إعدادًا قوميًا، نظر إلي ثم قال: "لا تجزعوا... أنا أعلم وسأكلم الملك لينهي هذا النزاع السخيف فمن حقكم أن تعيشوا..."
 هذه الرحلات القصيرة عميقة الأثر في نفسي، لعلها حفرت فيها أخاديد من الألم والحزن، اختلط في نفسي الصفو والسكينة بتوقع الخطر، وفي أحسن لحظات الصفو تتولد في داخلي تيارات من القلق تظل تطاردني، تضييق علي الخناق، تفسد بعض سعادتي لا أدري لها منطقًا ولا سببًا، ولكنها صدمات النفس في الطفولة فجرت أوعية لا تنضب من الصراع والألم...
 أسأل الله يا ابنتي أن يجنبك في حياتك هزات المآسي والقلق، فالحياة جميلة ونحن نحياها مرة واحدة، ومن حقها علينا ألا نفسدها، ومن حقنا على الحياة أن نعيشها في أمن وهدوء ومحبة. إن انعدام الأمن يفجر الخوف ويبدد الأمل والحب ويجعل الحياة دوامة من القلق.
ولكن ظل الغائبين دائمًا معنا.
لقد رحل مثل أبي، وفي شبابه، لم يخلف شيئًا، كان يملك عطاء للأهل والأصدقاء هو الذي كان يعيش من فنه لا يستند إلى دخل من منصب أو ثروة، ولكنه عاش حياته عمقًا وعرضًا، أستمتع بلياليها، وسعد بها، واسعد من حوله، رحلاته في أوروبا وحياته في مصر كانت في مستواها وذوقها تقارب حياة أصحاب المال والجاه.
وإذا كان السل قد نخر عظامه وهد كيانه وفجر في جسمه عذاب الألم؛ فإن سنواته قبل ذلك كانت للفن والحب والحياة.
فى إقبال المجد وتطلع الأمل ذهب وبقى ظله يرعانا.
 تماثيله التي كانت عطاؤه لمصر وهبناها له لترضى نفسه، وبين مخلفاته وجدنا مجموعة من الآلات والمعدات من بقايا ما اشتراه لإنهاء أعمال تمثال النهضة، فكانت هذه المخلفات سندنا مع قطعة أرض تركها أبي، موردهما عنا لم ينقطع فإن من يذهب لا يكون عدمًا ولكن حياته تبقى، تتحول إلى أثير، وما تركه على الأرض من أثر لا يختفي.
هكذا يرى الصوفية ويرى أهل العلم، ألم يتنبأ هكسلى بآلة الزمن التي نحركها فتستعيد لنا أيامًا ماضية بكل أحداثها وشخوصها! هنالك إذن أشعة غير منظورة تربطنا بهم هي الروح التي تبقى هائمة ومحلقة.
***
كانت الحياة في أيامنا ليست كالحياة في أيامك. بضعة مئات من الجنيهات يمكن أن تقيم شأن أسرة لعدة سنوات، فمضى كل شيء لم يتغير، تأتي ساعات الشدة وتذهب وقطعنا رحلة الحياة.
 ولكن مالي توقفت طويلًا عند رحلتين كبيري الأثر في نفسي، وأنا أود أن أقص عليك يومياتي!!
 إن الرحلة لم تنته ولنا عودة...
***
متحف جيميه في باريس، مبنى قديم ليس له حظ اللوفر من الشهرة، ولا جاذبية متحف الفن الحديث، ولا ضخامة المركز الذي أقامه بومبيدو مكان الهال القديم فأثار سخطًا لم ينقطع، أقام شيئًا اقتحم به الذوق الباريسي، وفي الهال الباريسي الشهيرة بأسواقها ومقاهيها التي كانت تسهر حتى الصباح.
هكذا حتى المتاحف تتفاوت حظوظها، ولكن هذا المبنى القديم يحتضن عراقة حضارة عظيمة هي الحضارة الأسيوية بكل عطائها في فنون هي من فيض صدقها وعقيدتها.
عندما تكونين فى باريس أعبري جسر "ألما" واتجهي يسارًا إلى هذا البيت القديم يطل عليه برج إيفل غير بعيد واقضي ساعات في رحاب رحلة عظيمة بين الحضارات.

***
 الآن الليلة الأخيرة من رحلتي، في غرفتي بفندق يطل على البحيرة والجبل، الحياة في سويسرا رتيبة نظيفة منظمة ولكن شيئا يغيب عنها هو هذا النبض المتألق وتلك الشرارة التي تفجر الفن والإبداع، الدقة سمتهم والنظام، ومن أجل هذا برعوا في صناعة الساعات والآلات الدقيقة؛ لعل إتصالهم بإيطاليا وفرنسا وألمانيا وإحاطة تلك البلاد بأراضيهم جعلهم يأخذون منها الشكل دون الروح فتخلفت عنهم أشياء وأدركوا أشياء.
 تمضين فى طرقات جنيف فإذا غاب عنك سحر الطبيعة التي تحيط بها ضقت بكآبة راسخة تجسم على الأنفاس.
إن قرب جنيف من فرنسا جعلها تتطلع إلى باريس "الضفة اليسرى" و"الضفة اليمنى" "ريف جوش" و"ريف دروات" مثل ضفتي السين في باريس، والمولان روج تتسمى باسم طاحونة لوتريك العظيمة، ولكن أين هذا الميدان من مونمارتر؟
في متحف التاريخ والفنون قريبًا من المدينة القديمة فى جنيف رأيت مجموعة تماثيل فيها ظل من أعمال أوجست رودان العظيم، ولكن أين هي من وهج عبقرية مثال فرنسا مبدع تمثال المفكر وبرجوازيو كاليه؟
على هذه التماثيل كتب أسم مثال سويسري رودو، طالعت بطاقة التعريف به فإذا هو أوجست دى نيدرهاوزن مثال سويسري عمل مع أوجست رودان خلال السنوات من 1883 حتى 1898 في باريس، ودفعه إعجابه به إلى أن يسمى نفسه "رودو" تقربًا من أسم رودان العظيم.
في هذا النموذج صورة من شخصية جنيف مدينة تحفل بأسماء ومواقع تتشبه بباريس فتأخذ منها شيئًا وتغيب عنها أشياء، ولعلهم بإقامة تماثيل الميادين والحدائق مثل ولع باريس في القرنين الماضيين، في كل نشراتهم إشارة إلى تمثال جان جاك روسو المقام في حديقة مواجهة لجسر الجبل الأبيض قريبًا من البحيرة، على قاعدة التمثال كتبوا جان جاك روسو مواطن من جنيف... عجبًا لهذا النظام والهدوء الجنيفي تنبعث منه شرارة من فكر الثورة الفرنسية...
وعلى حائط تذكاري ضخم مواجه لجامعة جنيف التي أنشأها كالفن عام  1559، كانت أكاديمية وتحولت إلى جامعة، على هذا الحائط حكاية من النحت والكتابة ساهم في إبداعها مجموعة من المعمارين وأثنين من النحاتين الفرنسيين بوشارو ولاندوفسكي إنها حكاية تسجل تاريخ حركة الإصلاح في سويسرا يتوسطها أربعة تماثيل ضخمة لأربعة من قادة حركة الإصلاح، وعلى امتداد الحائط لوحات من النحت البارز تمثل كفاح الشعب السويسري من أجل حقوق الإنسان ومن أجل ضمانات الحرية والتعليم، وصدى حركة الإصلاح في فرنسا والأراضي الواطئة وبروسيا وإنجلترا والولايات المتحدة والمجر.
 إن سويسرا بلد لها روح خاص يتطلب التأمل الوئيد لسبر أغواره، لكن جنيف تختلف كثيرًا عن روح باريس الفنانة المتألقة بالفكر والذوق وبكل ما فيها من سحر عميق.
وددت لوكنتي معي؛ إذن لكانت رحلتي أرق وأجمل، ولأشعتي فيها من ذكاء نفسك ورقتك ما كان كفيلًا بتخفيف وحدة الملل؛ ولكنها خطوات كتبت علينا، كم تطلعنا إلى رحلة معًا منذ شهور، فجاءت هذه الرحلة العجلى بدون ترتيب. إنها رحلة الجواب المتفرد أتاحت لي أن أقترب من أملك في أن نشارك في كتاب معًا فخططت هذه السطور تحمل تذكارات رحلات قديمة ولقطات من رحلة اليوم.
وستأتي بعدها رحلات نقطعها معًا... وعلى البعد والقرب سأظل أقيم من هذه الخطوط بناءً وأقص عليك مزيدًا من أطراف رحلتي.
جنيف 22 مارس 1977.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...