الخميس، 14 مايو 2015

 
سيرة مناضل من أجل الوطن
فتحي رضوان من كتابته
( 1 )
عماد أبو غازي
 
 فتحي رضوان شخصية متعددة الإسهامات في حياة مصر السياسية والثقافية والفكرية في القرن العشرين، فبين 14 مايو 1911 و2 أكتوبر 1988 كانت حياة فتحي رضوان حياة متنوعة الجوانب والأبعاد، حافلة ثرية مليئة بالعطاء للوطن.
فتحي رضوان وثورة 1919
 لقد تفتح إدراك فتحي رضوان على الحياة العامة من حوله مع تفجر الثورة المصرية الكبرى سنة 1919، وتبلور وعيه واكتمل نضجه وتحددت مواقفه السياسية في السنوات التي أعقبتها؛ ولا شك في أن ثورة 19 لعبت الدور الأساسي في تشكيل الوعي السياسي في مصر لسنوات طويلة، لأنصارها وخصومها على حد سواء؛ وكيف لا؟ وتلك الثورة بلغ قدر تأثيرها في وجدان المصريين حدًا لم يبلغه حدث سياسي في تاريخ مصر الحديث من قبل؛ تجسد هذا التأثير في علاقة الأمة بزعيم الثورة سعد زغلول، تلك العلاقة التي وصفها فتحي رضوان في كتابه "الخليج العاشق"، القسم الثاني من سيرته الذاتية، قائلًا عن سعد: "إنه رجل أحبته مصرحبًا كاد يجاوز حبها وافتتانها بأي رجل سواه، فقد نسجت حوله الأساطير، ونسبت إليه المعجزات، ورفعته إلى مراتب القديسين وأولياء الله، ورفعه قوم أخرون إلى مصاف أعلى وأسمى".
 وقد عاشت أسرة فتحي رضوان ـ ابن الثامنة في ذلك الوقت ـ مثل كل أسرة مصرية أحداث الثورة وشاركت فيها مشاركة مباشرة؛ فكانت أخته الوسطى ـ والتي تكبره في السن ـ واحدة من قيادات الطالبات في ثورة 1919. ويصف فتحي رضوان مشاركتها في الثورة فيقول:
 "أما أختي الوسطى فقد كانت رائدة السياسة في عائلتنا؛ فقد كانت تلميذة في المدرسة السنية، وكانت هذه المدرسة في فترة إندلاع ثورة 1919، هي كبرى مدارس البنات الحكومية، وقد كانت أختي أولى بنات فصلها، فلما قامت الثورة، كبر عليها أن يكون دور زعيمة المدارس، دور المتفرج بحجة أنها مدرسة بنات، فوقفت بين زميلاتها، وخطبت فيهن، خطبة، تدعو إلى الجهاد، وكانت تحفظ من شعر حافظ إبراهيم الوطني، ومن الأناشيد، ما ضمنته خطبتها، فإذا بها تبرز بين زميلاتها خطيبة لا يشق لها غبار، ونجحت دعوتها؛ واقتحمت الفتيات وراء زعيمتهن باب المدرسة وأزحن من طريقهن الناظرة الإنجليزية الحازمة "مس كارتر" وانطلقن إلى الطريق العام يهتفن بالعربية والإنجليزية معا، لمصر وللاستقلال التام، وبسقوط الاحتلال والإنجليز.
 كيف فعلت هذه الزعيمة التي لم تر مظاهرة، ولم تر خطيبا ولا خطيبة؟ وكيف أطاعتها جموع تلميذات المدرسة؟ وكيف لم تخش هذه الجموع الناظرة التي كان كلامها قانونا، وصوتها مرهوبا وشخصها مخوفا؟
 إن ذلك كله وحي الفطرة الإنسانية. وحي الفطرة الإنسانية السليمة بلا شك.
 وطردت أختي الزعيمة من المدرسة، فبقيت أياما في المنزل، ننظر إليها وتنظر إليها زميلاتها، وجيراننا، باعتبارها شخصية سياسية، تستحق الإعجاب، وتشبه ـ في محيط الأسرة ـ الزعماء الذين نفوا إلى مالطة في محيط الأمة.
 ولكن الإنجليز، قوم مرنوا على ملاينة الشعوب حين تثور، لا ليعطوا الشعوب ما تطلب، بل ليستديروا حول الحركة الوطنية الثائرة الهائجة بحثا عن نقطة ضعف فيها، فينفذوا إلى صميمها ويضربوا الثوار بعضهم ببعض، وفي أكثر الحركات التي تقوم في البلاد التي طال عهدها بالاحتلال يجرف التيار الوطني العنيف المتدفق في وجهه بعض الذين لا يؤمنون بالحركات الوطنية، ويحسبونها جنونا مدمرا، واندفاعا وخيم العواقب، وهؤلاء يستجيبون لمغريات المحتلين، ولا يلبثون حتى ينقلبوا على الحركة، فتقع في صفوفها الفرقة.
 وجريا على هذا الأسلوب عفت السلطة عن الطلاب والطالبات الثائرين والثائرات وأعادوهم إلى المدارس مقابل وعد شفوي من ولي الأمر ومن التلميذ بألا يشارك في الاضطرابات مرة أخرى، وقد عادت أختي كغيرها، ولكن المظاهرات اجتاحت مصر مرة أخرى ولم تستطع أختي الزعيمة أن ترى أمواج البحر تدعوها، إلى إلقاء نفسها في عبابه، ثم تمنع نفسها من تلبية الدعوة، فما لبثت أن رأت نفسها على رأس تلميذات المدرسة، وإذا بالشعر يتدفق على لسانها، وإذا هي خطيبة تثير الحماسة، ثم تندفع إلى باب المدرسة العتيق الثقيل، فيفتح، وتجري ناظرة المدرسة وراءها وتمسك بثوبها من أعلاه عند ظهرها، وتقول لها بالإنجليزية: "تذكري وعدك" فترد عليها أختي وهي في أعلى درجات الحماسة: "وطني قبل وعدي"، وتتلقف البنات هذه الكلمة وكأنها قول مأثور فيصحن: "وطني قبل وعدي"، وربما أفاءت عليهن اللحظة وحيها فقال: "لا وعد لمن لا عهد له... لا عهد مع أعداء الوطن. وعادت أختي مرة أخرى إلى البيت وقد زاد قدرها كزعيمة".
 بهذه الكلمات سرد فتحي رضوان الشيخ ذكرياته عن صباه الباكر، وقدم صورة لتأثير الحدث السياسي الكبير في حياة أسرته الصغيرة، فماذا عن هذه الأسرة التي نشأ فيها؟
سيرة ذاتية
 فتحي رضوان الولد الوحيد الذي تبقى لوالديه بعد ثلاث بنات يكبرنه وولدين ماتا صغيرين، اجتمعت في عروقه دماء مصرية وتركية وجركسية وحبشية، ينتمي أبوه وأمه إلى الطبقة الوسطى، ويصف فتحي رضوان طبائع والديه في "خط ّالعتبة"، القسم الأول من سيرته الذاتية، فيقول: "... أبي لم يكن يحزن أو يفرح بعمق، تفيض نفسه حنانًا ورحمة، ويتأثر بالصغيرة والكبيرة، فتمتلئ عيناه بالدمع، حتى يشرق بعبراته، ولكن ما أسرع ما يصفو خاطره وكأنه لم يكن يبكي منذ حين.
 أما أميفقد كانت على النقيض منه، لا تستجيب لدواعي الحزن والفرح بسرعة أو خفة، ولكن إذا حزنت امتلأت نفسها همًا، وإذا غضبت فاضت حممًا، وهي في حالات السرور والحزن، والرضا والغضب، لا تفقد اتزانها ولا قدرتها على الإبانة عما تريد في طلاقة ووضوح بعبارة مبينة ولفظة رصينة."
 ويتسأل فتحي رضوان عن تأثير والديه فيه قائلًا: "لقد جئت ثمرة هذين المزاجين المتناقضين، ولم أعرف أيهما أكبر أثرًا في نفسي، وإلى أيهما أنتسب؟ إلى الأم ذات المزاج الدموي، الآمرة المتحدثة شديدة الطموح المحبة للألفاظ الجميلة من الشعر والنثر والزجل، المعجبة ببطولات الرجال والنساء، القارئة تاريخ الملوك والزعماء، الكارهة النقائص، ولاسيما نقيصتي الكذب والجبن، أم إلى أبي الليمفاوي المزاج، الذي تعوزه القدرة على الإبانة... والذي لا يرضى عن شيء، ومن ثم لا يكف عن نقد الناس والأمور، ومع ذلك فهو خفيض الصوت، قليل الصحب والخلان، ضعيف الحيلة في دنيا الشطار الوصوليين، وإن كان مثاليًا إلى حد المبالغة، أمينًا لا يقوى على مسايرة رجل سيء خطوتين اثنتين في الطريق العام، وإذا اعتدي عليه لا يحسن الرد، تنقصه الطاقة الغضبية، والطلاقة اللسانية، والحرارة الدموية، ومع ذلك لا يسلم بأن أحدًا خير منه أو أعلى مقامًا، لشدة اعتداده بفضيلته ونزاهته، وسلامة قصده، وفنائه في العمل الحكومي، ومع هذا الاعتداد فهو بريء من الكبرياء والزهو، لا يباهي ولا يتحدث عن نفسه، إنه لا يطيق أن تقع منه هفوة تلوث شرفه، أو تلقي ظلًا ولو خفيفًا على صفاء صفحته؟"
 
 وقد خط فتحي رضوان بقلمه في سيرته الذاتية بقسميها صورة طفولته وصباه في واحدة من السير الذاتية الرائعة التي تكشف عن صدق إنساني وحس أدبي ولغة راقية، وقدرة عالية على تصوير الحدث العام من خلال الخاص، إن هذه السيرة الذاتية هي كما قيل عنها إطلالة على النفس الإنسانية الرحيبة التي اتخذت من حياة طفل سبيلًا إلى رواية قصة مصر كلها في حقبة مليئة بالحركة والرغبة في التطور والتحرر والانطلاق. لقد رسم فتحي رضوان في سيرته الذاتية صورًا من حياة المجتمع القاهري في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين من خلال رؤية عين نافذة ثاقبة ناقدة.
 
مشروع القرش
 ولنترك حياته الخاصة ونعد مرة أخرى إلى مشاركته في العمل العام؛ فحياة فتحي رضوان ورحلة نضاله هي صورة من حياة مصر خلال ثلاثة أرباع قرن حافلة بالمتغيرات، والمد والجذر؛ فمصر كانت تتفتح منذ مطلع القرن العشرين على تغيرات اجتماعية اقتصادية وسياسية تعيد تشكيل صورة الحياة فيها. فالطبقة الوسطى أخذت في التبلور والظهور اجتماعيًا واقتصاديًا، وبدأت طموحاتها السياسية تبرز في ساحة الصراع من أجل السلطة، كما أخذت تفصح عن مفاهيم جديدة في الفكر والثقافة والفن والحياة، وتفرز مفكريها ومثقفيها ومبدعيها المتأثرين بشكل أساسي بمفاهيم وأفكار الحضارة الغربية الحديثة، مع اختلاف وتفاوت في درجة التأثر، ثم كانت ثورة 1919 وما واكبها من صحوة فنية وثقافية شاملة، وتحدد لأطراف الصراع السياسي في المجتمع.
 
 وفي هذا السياق اشتغل فتحي رضوان بالعمل السياسي وهو شاب صغير، فشارك  زميل دراسته وصباه أحمد حسين في الدعوة لمشروع القرش سنة 1932، ويقول فتحي رضوان في مقال له بمجلة الهلال سنة 1984، بعنوان "كيف فكر أحمد حسين في مشروع القرش؟": "إن فكرة مشروع القرش نبتت في رأس الشاب أحمد حسين سنة 1932، وكان آنذاك طالبًا بالسنة الثانية في كلية الحقوق، أثناء رحلة له في باريس عندما شاهد تمثالًا مشيدًا في حديقة عامة للأطفال وتحته لوحة تذكارية تسجل أن هذا التمثال أقيم من تبرعات الأطفال بقروشهم القليلة". ويسترسل فتحي رضوان قائلًا: "ولما كان أحمد مشغول القلب والنفس دائمًا ببلده، فقد قال على الفور: ولما لا نقيم في بلادنا شيئًا نافعًا بقروش المواطنين؟ والتصقت الفكرة برأسه، فلم يكد يعود من رحلته إلى القاهرة حتى أمسك ورقة وقلمًا وكتب على عجل منه وبسرعة دعوة إلى إقامة مشروع صناعي بقرش صاغ واحد". وبعد محاولات عدة من صاحب المشروع وفتحي رضوان، ومع الإصرار والمثابرة أقيم المشروع بعد أن تبنى الدعوة الدكتور علي باشا إبراهيم مدير الجامعة المصرية في ذلك الوقت، وافتتح مصنع طرابيش مشروع القرش بشارع برج الظفر بالعباسية، ورغم أن مشروع القرش لم يكن له تأثير يذكر على الوضع الاقتصادي في مصر أو على تطور صناعتها الوطنية، فإن المغزى الحقيقي للمشروع ولإقامة المصنع، كما رأه فتحي رضوان بعد أكثر من خمسين عامًا على مشاركته في الدعوة للمشروع: "أن الشباب نجح في أن يحرك الشيوخ الذين جللت هامتهم الأيام بالشعر الأبيض الدال على طول التجربة." وإن الدعوة للمشروع "كانت خطوة نحو تغيير الحياة في مصر التي ماجت بعد ذلك وامتلأت بنشاط الشباب."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...