الثلاثاء، 12 مايو 2015


 

مدرسة الفنون الجميلة

عماد أبو غازي

 شهد عام 1908 حدثين مهمين على في مجال الثقافة والفكر وفي مجال المبادرة الأهلية؛ ففي ذلك العام تم افتتاح الجامعة المصرية، التي شيدها المصريون بأموالهم وتبرعاتهم، وكانت نموذجًا لقدرة المجتمع على بناء مؤسساته الثقافية والتعليمية بمعزل عن الحكومة، وقبل افتتاح الجامعة المصرية بأكثر من ستة شهور عاشت مصر حدثًا مهمًا أخر في مجال التعليم والثقافة، ففي شهر مايو من عام 1908 وعلى وجه التحديد في 12 مايو، أعلن عن افتتاح مدرسة للفنون الجميلة بحي درب الجماميز بالقاهرة، وإذا كانت الجامعة المصرية قد قامت بتضافر جهود المصريين من خلال الاكتتاب وتبرعات الأغنياء فإن شخصًا واحدًا حمل على كاهله عبء تأسيس مدرسة الفنون الجميلة في قصر كان يملكه، وقام باستحضار الأساتذة من أوروبا للتدريس فيها، بل والإنفاق على بعثاتها الأولى من ماله الخاص، إنه الأمير يوسف كمال حفيد إبراهيم باشا، الذي كان من أبرز المتبرعين لإنشاء الجامعة المصرية، والذي ساهم في دعم عدد من المؤسسات العلمية والثقافية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين فضلًا عن إنفاقه على ترجمة عدد من الكتب المهمة، وقيامه هو نفسه بتأليف موسوعة جغرافية عن مصر وأفريقيا تعرف بالموسوعة الكمالية.

الأمير يوسف كمال 


مرسم في مدرسة الفنون الجميلة

 ولم يأت إنشاء مدرسة الفنون الجميلة سنة 1908 من فراغ، فالرأي العام في مصر كان مهيأً للحدث، بل ربما مترقبًا له، فكان عصر محمد علي قد شهد إنشاء مدرسة العمليات سنة 1839، تلك المدرسة التي تغير اسمها فيما بعد إلى الفنون والصنايع، التي تعد سلفًا لكلية الفنون التطبيقية القائمة الآن، كما عرف عصر محمد علي أيضًا كتابات رفاعة الطهطاوي رائد النهضة الحديثة في مصر، الذي قدم من خلالها وصفًا للمتاحف ودور الآثار التي شاهدها في باريس.

 رفاعة الطهطاوي
 وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر أعيد تخطيط المدن المصرية على النسق الأوروبي، وأصبحت التماثيل مكونًا أساسيًا للثقافة البصرية للمصريين، من خلال تماثيل الميادين التي جلب إسماعيل باشا فنانين أوروبيين لإقامتها في ميادين القاهرة ولإسكندرية، وكانت تلك التماثيل تجسد شخصيات من الأسرة العلوية الحاكمة مثل محمد علي باشا وإبراهيم باشا ثم الخديوي إسماعيل نفسه، وبعض كبار رجال الدولة مثل سليمان باشا الفرنساوي ومحمد بك لاظوغلي ونوبار باشا، وظهرت التماثيل في الحدائق العامة، كما زُينت واجهات بعض المباني العامة كذلك بالتماثيل والجداريات النحتية البارزة والغائرة، وأصبحت اللوحات الفنية جزءًا أساسيًا من ثقافة الطبقات العليا في المجتمع، أما الثقافة الشعبية فلم يغب عنها أبدًا العمل الفني التشكيلي، بل ظل دومًا وفي كل العصور مكونًا أساسيًا من مكوناتها.
 ومع مطلع القرن الجديد ـ القرن العشرين ـ بدأت الدعوة للاهتمام بالفنون الجملية تتردد في أوساط المفكرين المصريين، وكان في مقدمتهم الإمام محمد عبده الذي كتب عن الفنون الجميلة "إن الرسم ضرب من الشعر الذي يُرى ولا يُسمع، وإذا نظرت إلى الرسم فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تتمتع بها نفسك"... كان هذا فارق بين زمانهم الذي يدعو فيه مفتي الديار المصرية للفن الجميل ويروج له وهذا الزمان الذي تصدر فيه الفتاوى بتحريم الفن.

الإمام محمد عبده
 وعندما مات مصطفى كامل في 10 فبراير 1908، كان من بين خطط تكريمه بل في مقدمتها إقامة تمثال له اكتتب أنصار الحزب الوطني لإقامته، وقد حُبس التمثال في مدرسة مصطفى كامل إلى أن أفرج عنه مع تمثالي سعد للمثال مختار لتحتل التماثيل الثلاثة منذ أواخر الثلاثينات مكانها في أبرز ميادين القاهرة والإسكندرية.
 إذًا فالأرض كانت ممهدة لافتتاح كلية للفنون والمجتمع كان مستعدًا لاستقبال الكيان الجديد، وقد تأثر الأمير يوسف كمال بهذه الآراء والأفكار كما أقنعه صديقه المثال الفرنسي لابلاني بأهمية إنشاء مثل هذه المدرسة، فتحمس الرجل للمشروع وقام به وحده.
 وقد استعان الأمير بعدد من الفنانين الأوروبيين المقيمين بمصر لوضع مناهج الدراسة ونظمها، وللقيام بالتدريس أيضًا.

 وكان الالتحاق بالمدرسة مجانيًا، دون تقيد بسن أو جنسية أو مؤهل دراسي، والتحق بالمدرسة مع افتتاحها أربعمائة طالب، ويقول الناقد بدر الدين أبو غازي في كتابه مختار حياته وفنه: "في البدء تلقت مدرسة الفنون الجميلة خليطًا عجيبًا من سكان القاهرة، خليطًا تفاوت في كل شيء... في الجنس والسن والبيئة والثقافة، وفي مدى الاستعداد، تلقتهم المدرسة في كرم، وفتحت لهم أبوابها، ولكن الأساتذة لابلاني وفورشيللا وبيررون استطاعوا أن يلتقطوا أشعة المواهب التائهة وسط هذه الجموع، وما لبث الفضليون أن انصرفوا عن المعهد وبقى أكثر من مائة طالب بينهم فئة كان يلوح منها النبوغ، وهؤلاء لقوا الأيدي التي رعتهم وكشفت عن مواهبهم، ورفعتهم إلى سماء جديدة فمضوا مبهورين بحب الفن وأصبح له في نفوسهم قداسة العبادة... من هذه القلة النادرة محمود مختار ومحمد حسن ويوسف كامل وراغب عياد".

مختار
 وكانت مدرسة الفنون تضم أربعة أقسام: قسم التصوير وقسم النحت وقسم الزخرفة وقسم العمارة؛ لقد كانت مدرسة الفنون الجميلة التي افتتحت في 12 مايو 1908 فاتحة لعصر جديد في تاريخ الفن المصري.

 ابن البلد من أعمال مختار
 محمد حسن من أعمال مختار
مختار بريشة يوسف كامل
 مختار بريشة محمد حسن
 المتسول من أعمال مختار
رأس زنجية من أعمال مختار
 وقد تخرجت الدفعة الأولى من الكلية سنة 1911 وأقام طلاب الكلية أول معرض عام لهم في نادي الأوتومبيل المصري. وأوفد الأمير يوسف كمال محمود مختار للدراسة على نفقته في فرنسا، فالتحق هناك بمدرسة الفنون الجميلة بباريس.

 معرض طلاب مدرسة الفنون الجميلة
 وقد فكر الأمير في ضم المدرسة إلى الجامعة بعد افتتاحها بعدة سنوات، لكنه تراجع عن ذلك وعاد ليسلمها لوزارة المعارف، وقد تنقلت المدرسة بين أكثر من موقع إلى أن استقرت في مقرها الحالي بفيلا عبود باشا بالزمالك، وقد أرخ لهذه المدرسة الدكتور عبد المنعم الجميعي في بعض صفحات من كتابه الوثائقي الشيق: "مدارس عليا ساهمت في إنشاء الجامعات المصرية" الذي صدر في العام الماضي. كما أصدرت الكلية كتابًا تذكاريًا عام 2008 احتفالًا بمؤيتها الأولى.
 
مختار في مرسمه بمدرسة الفنون الجميلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...