الأربعاء، 13 مايو 2015


الأمير العاشق

عماد أبو غازي

 لقد كان لعصر أسرة محمد علي جوانبه السلبية، كما كانت له كذلك جوانبه الإيجابية، ومثلما كان بين حكام هذه الأسرة وأمرائها طغاة وفاسدون، كان بينهم مصلحون ومحبون لمصر، ومن بين من ينتمون للفريق الثاني الأمير يوسف كمال أحد عشاق هذا الوطن، صاحب الإسهامات المتعددة في الحياة العلمية والثقافية والفنية في مصر في النصف الأول من القرن الماضي.

 لقد كان الأمير متعدد الاهتمامات واسع الثقافة نهمًا للمعرفة العلمية، وكانت الرحلات والكشوف الجغرافية أحد أهم هذه الاهتمامات، وقد قام الأمير بعدد من الرحلات في صحارى مصر، درس فيها عادات السكان في تلك المناطق، وجمع العديد من المنتجات البيئية واكتشف عشرات من القطع الأثرية أهداها للمتحفين المصري والإسلامي. كما كان الأمير من رعاة الجمعية الجغرافية المصرية الذين دعموا أنشطتها العلمية، ووهب قصره بالمطرية ليكون مقرًا لمعهد بحوث الصحراء.

 هذا ولم تقتصر اهتمامات الأمير يوسف كمال على الجغرافيا والرحلات، بل امتدت إلى دعم الثقافة والفنون، فالأمير يوسف كمال هو مؤسس أول مدرسة للفنون الجميلة بمصر، وكان مقرها بقصر له يقع في حي درب الجماميز بالقاهرة خصصه للمدرسة، واستقدم لها أساتذة من أوروبا على نفقته للتدريس لطلابها، وقد فتحت هذه المدرسة أبوابها للطلاب في مايو 1908، وكان من بين الدفعة الأولى من الطلاب الذين التحقوا بها، وتخرجوا منها بعد ثلاث سنوات، نحات مصر الأول محمود مختار، والمصورون الرواد راغب عياد ويوسف كامل ومحمد حسن.
 ولم تقف رعاية الأمير للفنون الجميلة في مصر عند إنشائه للمدرسة واستقدامه للمدرسين من أوروبا للتدريس فيها، بل امتدت إلى رعاية خريجها، فقد أوفد مختار في بعثة لدراسة الفنون في باريس على نفقته الخاصة.

 مختار في باريس في حفل مرقص الفنون الأربعة
كذلك كان الأمير يوسف كمال أحد الرواد في تأسيس الجمعيات الفنية والثقافية في مصر، حيث كان أول رئيس لجمعية محبي الفنون الجميلة التي تأسست في مطلع العشرينيات من القرن الماضي ومازالت تمارس دورها في الحركة الفنية والثقافية إلى يومنا هذا كأقدم جمعية فنية في مصر.

 أحد قصور الأمير
ولا يقف دور أميرنا عند النشاط العلمي والثقافي، بل يمتد إلى ساحة العمل الوطني، فقد كان أحد ستة أمراء أصدروا نداء إلى الأمة في 3 يناير سنة 1920 أثناء أحداث المرحلة الثانية من ثورة 1919، وجاء فيه:
 "حيث أن الأمة المصرية الشريفة التي هي سبب عظمتنا وشوكتنا وفخارنا، قد قامت بالواجب عليها قيامًا يجعل لها ولنا أعظم منزلة نتفاخر بها في العالم بأسره، وبما إنه لم يتبق من جميع طبقات أمتنا العزيزة طبقة إلا نادت بأعظم صراحة وأجلى بيان مطالبة بحقوقها الشرعية المقدسة والحقة، فقد جئنا نحن أولاد محمد علي لا لنشارك أمتنا في أمانيها ومقاصدها فقط، بل لنضم صدورنا إلي صدور أفرادها، ونجعل أيدينا في أيديهم، حيث أننا لسنا إلا روحًا واحدة، حتى نكون جسمًا لا يبتر، وقوة لا تقهر، فنطالب بحقوق وطننا، نطالب بحقوق أمتنا، نطالب بحقوقها الشرعية، نطالب باستقلال مصرنا استقلالًا تامًا مطلقًا بلا قيد ولا شرط."
 وقد وقع على هذا البيان الأمراء كمال الدين حسين وعمر طوسون ومحمد علي إبراهيم وإسماعيل داود ويوسف كمال.
 وقد أرسل الأمراء الستة في نفس اليوم مذكرة إلى اللورد ملنر رئيس اللجنة الشهيرة التي عرفت باسمه، والتي جاءت إلى مصر لتقصي الحقائق والتحقيق في مطالب الأمة بالاستقلال، وقاطعتها الحركة الوطنية، وصارت مقاطعة المصريين للجنة مضرب الأمثال، فعندما يقاطع شخص شخصا آخر مقاطعة شديدة، يقول الناس "ده مقاطعه مقاطعة لجنة ملنر". وقد جاءت رسالة الأمراء الستة إلى اللجنة مؤيدة في نصها وفحواها للموقف الوطني المقاطع للجنة، ذلك الموقف الذي أجمعت عليه غالبية الأمة بأحزابها وطبقاتها المختلفة.
 كما شارك الأمير يوسف كمال مرة ثالثة في نوفمبر 1925 مع مجموعة من أمراء أسرة محمد علي في توجيه رسالة إلى الملك أحمد فؤاد أثناء الأزمة الدستورية التي نشبت بين الملك والأمة، في واحد من الانقلابات الدستورية الشهيرة التي عرفتها البلاد في عهد فؤاد، عندما تعدى الملك على الدستور وعطله وحل البرلمان، وقد طالب الأمراء الملك في هذه الرسالة بإعادة النظام النيابي إلى البلاد مرة أخرى، وجاء في الرسالة:
 "يا صاحب الجلالة، لما تراءى لنا أن الحالة السياسية قد بلغت في وطننا مبلغًا من الخطورة، وإنه يجب الاهتمام بصفة خاصة، جئنا نلتمس من جلالتكم إعادة النظام النيابي إلى البلاد طبقا لنص الدستور".
وقد وقع على هذه الرسالة أربعة عشر أميرًا، كان من بينهم الأمير يوسف كمال، ليعلن هؤلاء الأمراء انحيازهم إلى الشعب، وإلى جانب الديمقراطية واحترام الدستور والحياة النيابية.

 
 هذه قصة الأمير الذي عشق مصر وأعطى لها الكثير، أما أهم ما قدمه الأمير فكان عمله الموسوعي المعروف باسم "المجموعة الكمالية في جغرافية مصر والقارة الإفريقية"، ولهذا العمل قصة أُخرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...