الأحد، 10 مايو 2015

  النهار ده 10 مايو  ذكرى ميلاد مختار رائد النحت المصري الحديث، بالمناسبة دي بأعيد نشر مقال كنت نشرته في مجلة الهلال سنة 1992.
الفنان والزعيم
تمثال مجهول للزعيم سعد زغلول

                                                                     عماد بدر الدين أبو غازي
يعرف الناس عن علاقة المثال محمود مختار بسعد زغلول، أن مختار هو مبدع تمثالي الميدان للزعيم في القاهرة والإسكندرية، وهما التمثالان اللذان شيدهما مختار بطلب من الحكومة المصرية في إطار حملة تخليد ذكرى سعد، بعد رحيله في 23 أغسطس 1927، وكانا إسهامًا من مختار في الاحتفاء بذكرى الزعيم، فمختار هو القائل:  "إن في وجدان كل مصري ـ ولو لم يكن فنانًا ـ تمثالاً لسعد زغلول".


من خلال تمثالى سعد بالقاهرة والإسكندرية سجل مختار مجموعة من القيم والمفاهيم السياسية والوطنية، فلم يكن التمثالان مجرد تجسيد لشكل الزعيم وملامحه الشخصية، ولم يكونا مجرد تمثالى ميدان كغيرهما من التماثيل التى جمّلت ميادين القاهرة منذ القرن 19. لقد كانت المرة الأولى التى يحول فيها فنان مصري تمثال الميدان الشخصى إلى ملحمة تٌعبر عن ثورة شعب وطموحاته وأهدافه وآمانيه القومية، فقاعدة تمثال الإسكندرية قامت على مشاهد تسجيلية لأحداث ثورة 1919.

 
 ورمزين مجسمين للوجهين البحري والقبلي.

 
 وحين صور مختار العدالة والدستور والإستقلال على قاعدة تمثال القاهرة كان يسجل أهدافا يسعى الشعب المصرى إلى تحقيقها من خلال نضاله الوطني.



وحين صور أصحاب الحرف ومشاهد العمل في الريف وعلى صفحة النهر كان يخلد أبناء هذا الشعب الذين ثاروا سنة 1919 في نحت جداري ميداني لأول مرة.
 
 
 
 
لقد كان بناء قاعدة تمثال سعد الجرانيتية فى القاهرة تشكيلًا متكاملًا مع تمثال الزعيم الذى يعلوها، إنها ليست مجرد قاعدة ترفع التمثال ولكنها تحمل إشارة واضحة إلى أن القاعدة بما فيها من بشر وقيم وأهداف هى التى رفعت الزعيم وحملته ليحتل مكانه البارز فى وجدان وتاريخ الأمة.

كذلك يشاهد زوار متحف مختار بالجزيرة تمثالًا نصفيا لسعد وتمثالًا آخر لرأس سعد ـ مأخوذًا عن تمثال سعد الميدانى بالقاهرة ـ وهو واحد من أروع أعمال مختار فى فن التمثال الشخص.


وإذا كانت ثورة 1919 التي فجرها نفى سعد وصحبه هي البداية تفجر مختار وانطلاقه الفني في طريق إرساء ملامح مدرسة مصرية حديثة في فن النحت، فقد كانت الثورة بداية لمرحلة جديدة في حياة مصر الفكرية والفنية مثلما كانت بداية مرحلة جديدة في حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وإذا كان مختار هو واحد من مشيدي أروع الرموز الفنية لتخليد ثورة 1919 وزعيمها، فإن ما لا يعرفه الناس عن علاقة الفنان بالزعيم، هو أن هذه العلاقة لم تسر دائمًا في اتجاه التأييد والتمجيد من الفنان للزعيم بل مرت بمرحلة من الجفوة والمعارضة.
في سياق الثورة كان لقاء مختار الأول بالوفد المصري وزعيمه سعد، فعندما كان مختار في باريس أشترك في حركة الطلاب المصريين في دعم الوفد المصري في مفاوضات السلام، وهناك كان إسهامه الأساسي فى التعبير الفني عن الثورة من خلال النموذج الأول لتمثال النهضة الذى عرضه في صالون باريس 1920. وأرسل سعد خطابا لمختار في 6 مايو 1920 يشيد بالتمثال قال فيه:
"حضرة المصور الماهر مختار.
شاهدت المثّال الذى رمزت به لنهضة مصر فوجدته أبلغ رمز للحقيقة وأنهض حجة على صحتها فأهنيك على هذا الخيال الواسع وهذا الذوق السليم وهذا الفن الساحر وأهنئ مصر بأنك من أبنائها العاملين على إعادة مجدها وأرجو الله أن يعين هذه النهضة حتى تبلغ كمالها فتشفع مثال النهضة بمثال الإستقلال والسلام."
                                                          سعد زغلول

                                                          باريس 6 مايو سنة 1920

 

 

ويتحمس بعض أعضاء الوفد للتمثال وتبدأ الدعوة في جريدة الأخبار لاكتتاب شعبي لإقامة التمثال في مصر..( ويعود مختار إلى مصر بطلا من أبطال نهضتها.. فتمثاله رمز للنهضة وعلامة من علامات الثورة والبعث فهو أول أثر فنى يقيمه مصري.. ويقيمه في عهد "السلاطين" ولكنه لا يرمز للنهضة بالحاكم وإنما يرمز لها بالشعب ويجعل الفلاحة في الميدان العام رمزا لمصر" وبدأ العمل في التمثال اعتمادا على التبرعات الشعبية وعلى الدعم الحكومي الذى قدمته وزارة عبد الخالق ثروت ومقداره 3000 جنيه وعقب صدور دستور 23 وتشكيل أول برلمان وطني انبرى ويصاواصف للدفاع عن التمثال وضرورة توفير الاعتمادات الكافية لإنجاز  واستجاب زغلول وكان على رأس الوزارة لهذه الدعوة إذ رأى أن حكومة النهضة يجب أن تتكفل بتمثالها.
وفي هذه المرحلة التى أعقبت قيام الحكم البرلمانى وما شهدته من صراعات سياسية وفكرية وانشقاقات خرجت عن الوفد المصرى، تعارضت نظرة مختار إلى سعد رئيس الحكومة ورئيس البرلمان والسياسى الذى يصارع على الساحة السياسية فى الداخل مع نظرته لسعد زعيم الأمة وقائد الثورة، ووقف مختار فى كثير من الأحيان فى مواجهة مع سعد ومواقفه وقدم من خلال مجلة " الكشكول " مجموعة من الرسوم الكاريكاتورية عرفت باسم " الزغلوليات " أنتقد فيها بعض مواقف سعد وسخر منها، كما قدم كذلك رسوما كاريكاتورية ساخرة فى " السياسة الأسبوعية " ، ومن اللافت للنظر أن كثيرا من الأدباء والمفكرين ذوى الميول الليبرالية والديمقراطية قد أنحازوا فى هذه الفترة إلى جانب حزب الأحرار الدستوريين أو التفوا حول جريدته الأسبوعية التى كانت فى تلك المرحلة من العشرينات أحد أهم المنابر الثقافية فى مصر. وربما يرجع ذلك إلى أن حزب الأحرار كان منحازا بالكامل إلى جانب حرية الفكر في بعض  القضايالتى أثيرت فى تلك الفترة، بينما كان الوفد متحفظا إلى حد ما ومتبنيا لمواقف أقل حسما، مثلما حدث عند إثارة قضيتى " السلام وأصول الحكم" و " الشعر الجاهلى".
كذلك كان موقف سعد من معارضيه وموقفهم الحاد منهم مجالا لإنتقاد مختار له.
ولم تقتصر إنتقادات مختار لسعد على الرسوم الكاريكاتورية، فقد نحت تمثالا لسعد يعد من أعمال النحت الكاريكاتورى النادر مثل فيه سعدا مرتديا ملابس فقراء الهنود وجالسا فى جلسة التأمل فى اليوجا ومرتديا فى نفس الوقت ياقة منشاة ورابطة عنق ( بابيون) فى إشارة إلى التعارض بين المواقف والأقوال، مع تضخيم الأذنين بشكل مبالغ فيه تلميحا إلى أن سعد يستمع إلى الوشايات التى تنقل إليه لقد حاول مختار أن يلخص فى هذا التمثال الساخر رأيه الناقد لسعد فى مرحلة من مراحل حياته السياسة.

وقد ظل هذا التمثال مجهولا لعشرات السنين إلى أن كشف عنه فى محاضرة ألقيت بمتحف مختار أثناء الإحتفال بالعيد المئوى لميلاد مختار، ولا يزال التمثال فى حوزة أسرة مختار إلى الآن (قمت بإهداء التمثال للمتحف عام 2005) والتمثال قد صب فى الجبس ويمثل مع مجموعة آخرى من التماثيل الساخرة أحد جوانب فن مختار. التى لم يلق عليها الضوء الكافى بعد ومن هذه التماثيل الساخرة تمثالا صديقى مختار حسين رجب ومحمد شفيق، ولعل أشهرها تمثال ابن البلد، والذى يرجع إلى مرحلة دراسة مختار فى مدرسة الفنون بالقاهرة.

وقد أثارت رسوم مختار وانتقاداته حفيظة سعد عليه وأدت إلى قطيعة بينهما دامت سنوات إلى أن التقيا مصادفة فى فندق ميناهاوس وتصافيا وتصالحا، ثم قام بعدها سعد بزيارته الشهيرة لموقع العمل فى تمثال النهضة بصحبة جماعة من الساسة والأدباء والصحفيين، وقد أحتفى مختار بسعد إحتفاء بالغا فى تلك الزيارة التى كانت من أيام الوداع فى حياة سعد فلم يمهل القدر مختارا حتى يحظى بمشاركة سعد فى حفل إزاحة الستار عن تمثال النهضة بسبب مماطلات الحكومة التى أجلت الحفل لشهور طوال كان سعد قد فارق الحياة.



 لقد إنقضت بذهاب سعد تفاصيل الخلافات العابرة والإنتقادات الساخرة ولم يبق إلا الرمز الذى خلفه كزعيم للأمة واستوحاه مختار فى تمثاليه الميدانيين لسعد، هذان التمثالان اللذان تسببا فيما لاقاه مختار من عنت وإضطهاد فى سنواته الأخيرة ورحل قبل أن يراهما قائمين فى مكانيهما، مثلما رحل سيد درويش قبل أن يستمع إلى الجماهير وهى تنشد لحنه فى إستقبال سعد عند عودته من منفاه فى المرة الثانية.
مصرنا وطنا                سعدها أملنا
كلنا جميعا         للوطن ضحية

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...