الأحد، 3 مايو 2015


 في اليوم العالمي لحرية الصحافة

حكاية حرية الصحافة في مصر... مقال قديم جديد

عماد أبو غازي

 عرفت مصر الجريدة أو الجرنال مع الحملة الفرنسية، وبعد خروج الحملة وتولي محمد علي الحكم أمر بإصدار أول جريدة مصرية، جريدة "الوقائع المصرية" التي تصدر إلى الآن، وكانت وقتها تنشر الأخبار والمقالات إلى جانب اللوائح والقوانين والقرارات، وقد تولى أمرها رفاعة الطهطاوي لفترة، وربما كانت كتاباته فيها أحد أسباب إبعاده إلى السودان في عصر عباس الأول. وكانت الوقائع جريدة حكومية، واستمرت وحدها على الساحة حتى عصر إسماعيل وعلى وجه التحديد سنة 1865 عندما صدرت مجلة اليعسوب.
 ثم توالى صدور الصحف والمجلات، وشهد عصر إسماعيل موجة من الصحف السياسية واكبت صعود الحركة الوطنية المصرية، ربما كان أولها صحيفة وادي النيل التي أنشأها الشاعر عبد الله أبو السعود سنة 1867، وقد أوقفتها الحكومة سنة 1872، وكان الخديوي إسماعيل قد عطل قبلها جريدة نزهة الأفكار الأسبوعية التي أصدرها إبراهيم المويلحي بعد صدور عددين فقط من أعدادها، بناء على نصيحة شاهين باشا ناظر الجهادية، وكانت المصادرة مصيرا لعدد من الصحف التي صدرت في عصر إسماعيل وتبنت خطا وطنيا معارضا.
 وكانت الصحيفتان اللتان أصدرهما يعقوب صنوع أهم الصحف السياسية المعارضة التي صدرت في عصر إسماعيل، الأولى "مرآة الأحوال" التي أصدرها في لندن سنة، 1876، والثانية "أبو نضارة" التي صدرت في القاهرة سنة 1877 وأصبح اسمها اسما لمحررها، ويقول عبد الرحمن الرافعي في كتابه "عصر إسماعيل" عن صنوع وصحفه: "كان الشيخ يعقوب صنوع مصريا إسرائيليا (أي يهودي الديانة)، متعلقا بالصحافة، يميل إلى الدعابة في كتاباته، واتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني، وقيل إنه هو أوعز إليه إصدار جريدته لانتقاد سياسة إسماعيل فأصدرها، وكانت أول جريدة هزلية سياسية صدرت في مصر". وقد تسببت انتقادات صنوع لسياسة إسماعيل في صدور قرار بنفيه من مصر، لكن النفي لم يفت في عضد يعقوب صنوع فاستأنف من منفاه في باريس إصدار جريدته بأسماء مختلفة، واستمر في نقد سياسات الخديوي بالكلمة والكاريكاتير، وكانت صحفه تهرب إلى مصر، وبعد الاحتلال الإنجليزي لمصر استمر الرجل في معارضته حتى توفي سنة 1912.
 وقد شهدت السنوات الأخيرة من حكم إسماعيل قبل نفيه إلى إيطاليا اتساعا لهامش حرية الصحافة، فقد كانت خطة الخديوي تقوم على توظيف الصحافة الوطنية في معركته ضد تدخل إنجلترا وفرنسا في شئون مصر، إلا أن الخط الأحمر الذي لم يسمح إسماعيل بتجاوزه أبدا كان توجيه النقد لشخصه.
 بعد نفي إسماعيل وتولي ابنه توفيق تصاعد المد الوطني وقامت الثورة العربية وكان خطيبها وكاتبها ولسان حالها الصحفي هو عبد الله النديم، ففي صيف سنة 1881 أصدر الرجل صحيفة أسبوعية أسماها "التنكيت والتبكيت"، انتهجت خطا وطنيا واضحا وأسلوبا أدبيا ساخرا، وكان عبد الله نديم مهموما في صحيفته بقضية وحدة الوطن واستنهاض همة أبنائه للارتفاع بشأن البلاد، وقد وجد العرابيون فيه سندا لهم بكتاباته الوطنية الحماسية، فانتقل النديم إلى القاهرة ليكون في قلب الأحداث، والتقى بأحمد عرابي زعيم الثورة، حيث طلب منه أن تكون صحيفته لسان حال الثورة، بشرط أن يغير اسمها إلى اسم أكثر وقارا، فأصدر عبد الله نديم صحيفة "اللطائف" من القاهرة لتحل محل "التبكيت والتنكيت" ولتصبح لسان حال الثورة، وخلال أسابيع قليلة أضحت الطائف أهم الصحف المصرية على الإطلاق، وبعد هزيمة الثورة واحتلال مصر صدر الحكم على النديم غيابيا بالنفي من البلاد عقابا له على مقالاته المحرضة على الثورة، إلا أن النديم ظل هاربا يجوب أنحاء مصر تسع سنوات، إلى أن وقع في قبضة السلطات، ورفع وكيل الداخلية مذكرة لخص فيها رحلة النديم مع الهرب وانتهى فيها إلى أنه: "حيث إن عبد الله نديم المذكور نظرا لما هو معلوم من ارتكابه بث الفتن بخطاباته التي أقلقت الأفكار مدة الثورة، أرى وجوب تبعيده عملا بالأمر العالي الصادر في شأنه".
وبالفعل نفي عبد الله نديم إلى يافا في فلسطين، لكنه عاد إلى مصر عقب وفاة توفيق وتولي عباس حلمي الثاني الحكم، ورغم أن عودته كانت مشروطة بابتعاده عن السياسة إلا أن الرجل لم يستطع التخلي عن مبادئه ولم يقبل بالصمت، فأصدر صحيفة "الأستاذ"، وجعلها صوتا للوطنية في مواجهة الاحتلال، ولم يتحمل اللورد كرومر ما يكتبه النديم فسعى إلى نفيه مرة ثانية.
وفي منفاه في استنبول دخل في معارك سياسية عديدة ضد الفساد والاستبداد، وألف أخر كتبه "المسامير" الذي يفضح فيه فساد الصدر الأعظم (رئيس وزراء الدولة العثمانية)، وقضى سنواته الأخيرة بعيدا عن الوطن الذي أحبه وأخلص له وضحى من أجله، وتوفي في 11 أكتوبر سنة 1896 في الآستانة حيث دفن هناك في غربته.
 وفي العقد الأول من القرن العشرين تعرضت حرية الصحافة لحملة من الحملات العاتية في ظل التصالح والتهدئة بين عباس حلمي وسلطات الاحتلال البريطاني، ففي أعقاب المد الوطني الذي نتج عن حادث دنشواي شهدت مصر حملة حكومية شرسة ضد الحركة الوطنية المتصاعدة، فقد دفع تصاعد الحركة الوطنية بالخديوي عباس حلمي الثاني الحاكم الشرعي لمصر بعيدا عنها وعن مواقفها، خاصة مع اتجاه الحركة الوطنية نحو التنظيم، والتفاف قطاعات أوسع من الشعب حولها، وربطها بين المطالبة بالجلاء والمطالبة بالدستور، واتجه الخديوي إلى التحالف مع سلطات الاحتلال في مصر ممثلة في السير إلدون جورست، وكانت الساحة الأساسية  للمواجهة ساحة حرية الصحافة.
 بين عامي 1908 و1910 أصدرت حكومة بطرس باشا غالي ومن بعدها حكومة محمد باشا سعيد مجموعة من التشريعات المقيدة للحريات العامة، وقد وجهت تلك التشريعات ضربات قاسية للحريات في مجالات الصحافة والمسرح والشعر، بهدف محاصرة الحركة الوطنية المتصاعدة بعد حادثة دنشواي، فقد أدركت سلطات الاحتلال والخديوي والحكومة مدى تأثير الصحافة في التحريض السياسي ضد الاحتلال وسياسته وضد الحكومة المنفذة لتعليماته وضد المواقف الجديدة للخديوي عباس حلمي الثاني الذي تحول من مصادمة الاحتلال إلى التحالف معه، كما لمس الجميع دور الفن والأدب في شحن الوجدان الوطني، ومن هنا كان إصدار الحكومة لتشريعات رقابية تقيد حرية الإبداع، وإحياء قوانين مهجورة للمطبوعات تسمح للحكومة بحبس الصحفيين، وتعديل مواد في قانون العقوبات تحاسب الناس على نواياهم.
 جاءت المواجهة الأولى في صيف 1908 فيما عرف بقضية الكاملين، والكاملين بلدة في السودان شهدت انتفاضة شعبية في عام 1908، وبعد أن قمعت قوات الجيش الانتفاضة، تمت محاكمة زعماء الحركة أمام المحكمة المدنية الكبرى التي أصدرت أحكاما بالإعدام والسجن ومصادرة الأملاك على المتهمين ، وتكتمت الحكومة أخبار القضية كي لا تعيد إلى الأذهان ذكرى دنشواي، إلا أن جريدة اللواء لسان حال الحزب الوطني نشرت الخبر مع كثير من المبالغة، فقد رفعت عدد المحكوم عليهم بالإعدام من 12 إلى 70 شخصا، وعندها اضطرت وزارة الحربية إلى إعلان الحقيقة ونشرت اللواء بيان الحربية مع تعليق يحمل التشكيك فيه، عندها أقامت الحكومة الدعوى ضد الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس تحرير اللواء بتهمة إهانة وزارة الحربية ونشر أخبار مثيرة للخواطر، وقد انتهت القضية إلى براءة الشيخ عبد العزيز جاويش من التهمتين.
 وفي نوفمبر 1908 استقالت حكومة مصطفى باشا فهمي التي استمرت في الحكم 13 عاما، وتشكلت حكومة جديدة برئاسة بطرس باشا غالي، ضمت وجوها جديدة، وقد استقبل رئيس الحزب الوطني محمد فريد الحكومة الجديدة مستبشرا بها خيرا، لكن أمل محمد فريد سرعان ما خاب ففي 25 مارس 1909 أعاد مجلس الوزراء العمل بقانون المطبوعات الصادر سنة 1881، أثناء الثورة العرابية، وكان العمل بهذا القانون قد توقف منذ عام 1894، وكان هذا القانون يمنح لوزارة الداخلية حق إنذار الصحف وتعطيلها مؤقتا أو نهائيا دون حكم قضائي، وكانت حجة الحكومة في عودة العمل بهذا القانون بعد توقف دام قرابة 14 عاما، رغبة أبدتها الجمعية العمومية سنة 1902، وأخرى أبدها مجلس شورى القوانين سنة 1904، بوضع حد للقدح في الأعراض الذي ينشر في بعض الصحف.
ولم تمض أسابيع قليلة على إعادة قانون المطبوعات إلى الحياة إلا وكانت الحكومة قد بدأت في ملاحقة الصحف والصحفيين بالمحاكمة والحبس والتعطيل والإغلاق، وكان النصيب الأكبر بالطبع لصحف الحزب الوطني وصحفيها، ومنهم عبد العزيز جاويش ومحمد فريد نفسه، وفي يوليو من نفس العام صدر قانون النفي الإداري الذي كان يجعل من حق السلطة الإدارية نفي من تره خطرا على الأمن العام إلى جهات نائية بالقطر المصري.
 وعندما تشكلت وزارة محمد باشا سعيد في فبراير 1910 عقب جريمة اغتيال بطرس باشا غالي، واصلت إصدار التشريعات المعادية للحريات، فأصدرت في يوم  16 يونيو من نفس العام قانونا يقضي بإحالة قضايا الصحافة إلى محاكم الجنايات بعد أن كانت من اختصاص محاكم الجنح، لأن الحكومة رأت أن محاكم الجنح تتهاون مع الصحفيين في أحكامها، كما أن التعديل كان يسلب الصحفي حقه في درجة من درجات التقاضي، مما يسهل مهمة الحكومة في ملاحقة الصحافة الوطنية.
 كما أصدرت في نفس اليوم قانونا آخر بتعديل قانون العقوبات يقضي بمعاقبة المتهمين بالاتفاق الجنائي حتى ولو لم يتوافر فيه ركن الاشتراك في ارتكاب الجريمة، أي أنها شرعت محاكمة الناس على نواياهم وضمائرهم، الأمر الذي وصفه عبد الخالق باشا ثروت في إحدى مرافعاته قائلا: "كان شديدا علينا يوم أن جر على البلاد ما فعله السفهاء من ضرورة سن قانون الاتفاقات الجنائية، ذلك القانون الاستثنائي الذي في وجوده سبة على أمن الديار، وحجة دائمة على أننا دائما تحت خطر الاضطراب والهياج"، كما فرضت التعديلات قيودا على حرية الصحف في نشر المرافعات في القضايا الجنائية، وأقرت للمرة الأولى المسئولية الجنائية على مديري الصحف بالنسبة لما ينشر فيها، حتى لو لم تتوافر أركان الاتفاق الجنائي في وقائع النشر، وأضاف التعديل عقوبة جديدة لجريمة من أغرب الجرائم أسماها التهديد بالكتابة أو بالقول ولو لم يكن مقرونا بطلب، ويرى المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي أن الغرض الحقيقي من وراء هذا التعديل الأخير كان معاقبة الشبان الوطنيين الذين كانوا يطوفون على أعضاء مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، لدعوتهم لمناصرة الأمة في مطالبها.
 كما وضعت الحكومة قانونا جديدا يقضي بإحالة تهم الصحافة إلى محكمة الجنايات بدلا من الجنح، كما عدلت نصوص قانون العقوبات لمعاقبة من ينشر المرافعات في القضايا الجنائية، واعتبرت مديري الصحف مسئولين بالاشتراك الجنائي عما ينشر في صحفهم، وأكملت الحكومة تقييدها للحريات بوضع لائحة للمسارح تجرم تمثيل الروايات التي تدعو للحرية والاستقلال.
 وقد تصدى دعاة الحرية لتلك التشريعات والقوانين بالقول والفعل، وكان من المدافعين عن الحرية بقلمه شاعر القطرين خليل مطران الذي كتب في المجلة المصرية:
 "في مصر وفي الآستانة العلية خطتان رسمتا للتضييق على الصحافة يراد بهما أن تصدر الجريدة كما يخرج الكلب العقور من بيت صاحبه وفي فكه كمامة، على أنه ليس في العزائم أدل من هذه العزيمة على رسوخ الداء الشرقي القديم في قلوب أولياء الأمور منا، داء الخوف من النقد. وبديهي أن هذا الخوف يكون عادة نتيجة حالتين: الكبرياء وهي أخصهما، وسوء السيرة أو الطمع في الراتب وهو أعمهما".
 كما تبقى في الذاكرة دائما أبيات مطران دفاعا عن حرية الرأي والتعبير، التي قال فيها:

شردوا أخيارها برا وبحرا         واقتلوا أحرارها حرا فحرا

إنما الصالح يبقى صالحــــــا  آخــــر الدهر ويبقى الشر شرا

كسروا الأقلام هل تكسيرها     يمنع الأيدي أن تنقش صخرا

قطعوا الأيدي هل تقطيعها       يمنع الأعين أن تنظر شـزرا

أطفئوا الأعين هل إطفاؤها      يمنع الأنفاس أن تصعد زفرا

اخمدوا الأنفاس هذا جهدكم      وبه منجــــــــاتنا منكم فشكرا

 توالت القضايا ضد صحف الحزب الوطني وتعرضت للإنذار وللإغلاق الإداري أكثر من مرة، كما سجن أكثر من كاتب وصحفي من كتابها، لكن الحزب استمر والحركة الوطنية تصاعدت، فبدأ التخطيط لتوجيه ضربة مباشرة لرئيس الحزب محمد فريد، وجاءت الفرصة مع صدور ديوان وطنيتي للشاعر علي الغاياتي، ففي شهر يوليو عام 1910 صدر ديوان وطنيتي للشيخ علي الغاياتي المحرر بجريدة اللواء، أول ديوان شعر يتسبب في صدور أحكام بحبس ثلاثة من ساسة مصر وصحفيها، الشيخ على الغاياتي نفسه، والشيخ عبد العزيز جاويش رئيس تحرير جريدة اللواء والزعيم محمد فريد رئيس الحزب الوطني، والذي صدر الحكم ضده بالحبس ستة أشهر بتهمة أنه "حسّن كتاب وطنيتي وامتدحه"، بسبب تقديمه للديوان.
 والغريب في الأمر أن قصائد الديوان لم تكن جديدة بل إنها جميعا سبق أن نشرت على مدار عامين في الصحف، ولم يحاسب أحد الشيخ الغاياتي ولا أي من رؤساء تحرير الصحف التي نشرت قصائده.
  تمت محاكمة الشاعر علي الغاياتي والشيخ جاويش في أغسطس 1910 وصدر الحكم غيابيا بحبس الغاياتي سنة مع الشغل، وحضوريا بحبس الشيخ جاويش ثلاثة أشهر، أما محمد فريد فكان في أوروبا، وأمامه فرصة كاملة للبقاء هناك هربا من المحاكمة، لكنه قرر العودة ومواجهة الموقف، ويذكر المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي أن ابنة فريد أرسلت له خطابا تدعوه إلى العودة لمواجهة المحاكمة قالت فيه:
 "ولنفرض أنهم يحكمون عليك بمثل ما حكم به على الشيخ عبد العزيز جاويش، فذلك أشرف من أن يقال بأنكم هربتم، وما تحملتم الهوان في سبيل وطنكم ... وأختم جوابي بالتوسل إليكم باسم الوطنية والحرية، التي تضحون بكل عزيز في سبيل نصرتها أن تعودوا وتتحملوا آلام السجن"
  في يناير 1911 تمت محاكمة فريد وحكم عليه بستة أشهر أمضاها كاملة في سجن الاستئناف بباب الخلق من 23 يناير إلى 17 يوليو لأنه حبذ الوطنية.
 وعندما خرج محمد فريد من السجن فجر يوم 18 يوليو كتب يوم خروجه مقالا بعنوان "من سجن إلى سجن"، جاء فيه:
 "مضى عليّ ستة أشهر في غيابات السجن، ولم أشعر أبدا بالضيق إلا عند اقتراب أجل خروجي، لعلمي أني خارج إلى سجن آخر، هو سجن الأمة المصرية، الذي تحده سلطة الفرد ويحرسه الاحتلال ... حقيقة لم أشعر بأي انشراح عند حلول أجل مفارقتي لهذه الغرفة الضيقة التي قضيت بها ستة أشهر قمرية ... لعلمي أني خارج إلى سجن أضيق، ومعاملة أشد، إذ أصبح مهددا قانون المطبوعات، ومحكمة الجنايات، محروما من الضمانات التي منحها القانون العام للقتلة وقطاع الطريق، فلا أثق أني أعود لعائلتي إن صدر مني ما يؤلم الحكومة من الانتقاد، بل ربما أوخذ من محل عملي إلى النيابة، فالسجن الاحتياطي، فمحكمة الجنايات فالسجن النهائي، وستبقى حالتنا كذلك حتى نسترد الدستور."
 جاءت الموجة التالية من موجات العدوان على حرية الصحافة في العصر الليبرالي في ظل حكومات إسماعيل صدقي، ففي الانقلاب الدستوري سنة 1930 تعرضت حرية الصحافة، بل الحريات الديمقراطية كلها لمحنة شديدة، كان ممن نالهم نصيب منها الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، فقد تصدى قادة الرأي والفكر للملك فؤاد ولرئيس حكومته صدقي، وكان منهم العقاد الذي كتب سلسلة من المقالات هاجم فيه الملك هجوما شديدا، ومما قاله فيها: "فليعلم المصريون جميعا أن مصيبة الرجعية على هذا البلد أكبر من مصيبة الاحتلال، وإنها هي التي مهدت له واستعانت به، وأوقعت البلاد في البلاء الذي يعانيه. فلولا كراهة الدستور القديمة في نفوس هؤلاء الرجعيين، ولولا التكبر عن الاعتراف للفلاحين العبيد بالحرية والحكومة العصرية، لما حدثت في مصر تلك الأحداث التي نعاني من جرائرها إلى اليوم ... فالرجعية هي السوس الناخر في أبدان الأمة من قديم الزمن، والرجعية هي أصل المصاب وسبب الاحتلال، وهي العدو الأكبر الذي يجب أن يبرز على حقيقته ليكون الجميع على بينه من أمره." وواضح طبعا أن العقاد كان يقصد بحديثه عن الرجعية الملك وأسلافه من أسرة محمد علي، وكان رد الحكومة القبض على العقاد وإحالته هو وصاحب امتياز جريدة المؤيد التي نشرت مقالته للمحاكمة بتهمة العيب في الذات الملكية، وصدر الحكم بحبس صاحب الامتياز 6 أشهر وحبس العقاد تسعة أشهر، ويوم خروجه من السجن توجه إلى ضريح سعد زغلول قبل أن يذهب إلى بيته وألقى قصيدته الشهيرة التي تعهد فيها بمواصلة النضال من أجل الدستور وقال في مطلعها:
 "كنت جنين السجن تسعة أشهر".
 وفي حكومة إسماعيل صدقي الثانية سنة 1946 شن حملة واسعة على الصحافة الوطنية والتقدمية فيما عرف بقضية الشيوعية الكبرى التي انتهت على فاشوش، والتي تضمنت إغلاق عديد من الصحف واعتقال عدد من الصحفيين كان من بينهم الكاتب الكبير محمد زكي عبد القادر والدكتور محمد مندور.
 وفي أعقاب انقلاب يوليو تراجعت حرية الصحافة تراجعا كبيرا وصار ثوار يوليو على نهج إسماعيل صدقي باشا فتعرضت الصحف للمصادرة والإغلاق، وتعرض الصحفيون للاعتقال خاصة في أزمة مارس 1954، ومع تأميم الصحافة فقدت حريتها بشكل عام ولم تعد السلطة في حاجة قوية إلى الاعتداءات الفجة، إلا في لحظات استثنائية مثل فصل المثقفين والكتاب والصحفيين الذين أيدوا الحركة الطلابية في مطلع السبعينيات من الاتحاد الاشتراكي ومنعهم من الكتابة، وفي مقدمتهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وثروت أباظة.
 لكن عودة الحياة الحزبية المقيدة في منتصف السبعينيات، ثم السماح بإصدار الصحف المستقلة أعاد "الحاجة" مرة أخرى إلى الاعتداءات على الصحف، فصودرت جريدة الأهالي لأسابيع متوالية بقرارات قضائية، ثم كانت الضربة الكبرى في سبتمبر 1981 بإغلاق مجموعة من الصحف واعتقال عدد من الصحفيين والكتاب، وإبعاد آخرين عن مؤسساتهم الصحفية.
 وبعد سقوط قانون تقييد الصحافة الذي صدر في تسعينيات القرن الماضي بدأنا نشهد في السنوات الأخيرة قضايا "الحسبة" السياسية ضد الكتاب والصحفيين.
 إنه تاريخ للصحافة المصرية يمتد قرابة قرن ونصف، تاريخ من الصراع من أجل الحرية حرية الصحافة التي هي من حرية الوطن وحرية الإنسان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...