وفاء
النيل
عماد
أبو غازي
قبل آلاف السنين انتقل المصريون ليعيشوا على
ضفاف النهر في الوادي والدلتا ومنذ ذلك الحين ارتبطوا بالنيل وبفيضانه الذي يأتي
بالخير ويجدد الحياة في كل عام، وقد عرف المصريون فضل النيل عليهم، واعترفوا له
بهذا الفضل، فكان الاحتفال بوفاء النيل من أهم الأعياد القومية في مصر عبر عصور
التاريخ.
لقد استمر المصريون يحتفلون بالنهر ويحتفون به
عند اكتمال فيضانه في كل عام، وتنوعت أشكال احتفالهم عبر العصور لكن جوهرها ظل
دائمًا يحمل معنى الامتنان للنهر العظيم والابتهاج بالخير الذي أتى به. وكانت
أعياد وفاء النيل احتفالات ضخمة تليق بالمناسبة العظيمة التي تحمل معها الحياة
لمصر وشعبها، احتفالات تجمع بين الطابع الرسمي والطابع الشعبي يشترك فيها الحاكم
والمحكومين؛ لقد كان يوم وفاء النيل من أيام البهجة والفرح في مصر عبر عصورها،
ويعلق سفير جمهورية البندقية دومنيكو تريفشيان الذي زار مصر سنة 1512 في زمن
السلطان قانصوة الغوري على هذه الاحتفالات التي شاهدها بنفسه قائلًا: "والواقع أن لهم الحق في كل ذلك، لأننا نستطيع أن نؤكد
أن حياة مصر كلها تتوقف على فيضان النيل، وإليه مرجع الثروة الطائلة التي نشاهدها
في مصر..".
لقد لمس سفير جمهورية البندقية إلى مصر في أوائل القرن
السادس عشر الحقيقة التي أدركها المصريون عبر آلاف السنين، حقيقة أن حياتهم مرتبطة
بهذا النهر الخالد، وأن رخائهم رهن بفيضانه الذي يأتي في صيف كل عام حاملًا معه
الطمي من الهضاب الأثيوبية.
وكان المصري القديم يعلن الوفاء للنهر في احتفال
مهيب يقام كل عام عند موضعين اعتقد أنهما مساكن حابي الذي كان يجسد النيل، أولهما
في الجنوب عند أسوان والثاني بالقرب من أونو أو عين شمس. كذلك كان المصريون يقيمون
الاحتفالات بفيضان النهر عند كل المواضع التي شيدت فيها مقاييس للنيل لرصد مقدم
الفيضان، وكان الناس في تلك الاحتفالات في عصور الحضارة المصرية القديمة يقذفون
إلى النهر بالكعك والفاكهة والتمائم، كما كانوا يقذفون كذلك بتماثيل كالإناث في
النهر، ربما كانت هذه العادة وراء الخرافة التي روج لها المؤرخ ابن عبد الحكم في
القرن الثالث الهجري حول عروس النيل.
وفي العصور الوسطى كان كسر الخليج أو فتحه هو
الإعلان الرسمي عن وفاء النيل، فإذا وصل ارتفاع الفيضان إلى ست عشرة ذراعًا أمر
حاكم البلاد بكسر السدود إيذانًا بانطلاق المياه في الخلجان المتفرعة من النيل،
ويبدو أن الاحتفالات طوال عصر الولاة كانت تقتصر على كسر الخليج، وربما تحرير
وثيقة أو حجة شرعية تفيد وفاء النيل وكفاية مياهه للزراعة، وربما عادت الطقوس
الاحتفالية الرسمية والشعبية بوفاء النيل مع حكم الفاطميين لمصر، فمصادر ذلك العصر
تكشف لنا عن التطور السريع للاحتفال في عصرهم؛ فوقائع الاحتفال بكسر الخليج التي
ذكرها المؤرخ المصري ابن زولاق الذي كان معاصرًا لدخول الفاطميين إلى مصر تؤكد أن
احتفالًا جرى في زمن المعز لدين الله كان قاصرًا على موكب رسمي أمر فيه الخليفة
بكسر سد الخليج؛ لكن سرعان ما نجد في روايات المؤرخين الذين عاشوا مراحل تطور
الدولة الفاطمية في مصر من أمثال البطائحي وابن المأمون وصفًا تفصيليًا لاحتفالات
رسمية وشعبيه حاشدة بمناسبة وفاء النيل، وقد حفظ لنا ابن منجب الصيرفي أحد كبار
كتاب دولة الفاطميين في مصر نص وثيقة من وثائق وفاء النيل جاء فيها:
"إن أولى ما تضاعف به الابتهاج والجذل،
وانفتح فيه الرجاء واتسع الأمل، ما عم نفعه صامت الحيوان وناطقه، وأحدث لكل أحد
اغتباطًا لزمه وآبى أن لا يفارقه، وذلك ما من الله به من وفاء النيل المبارك الذي
تحيى به كل أرض موات، وتكتسي بعد اقشعرارها حلة النبات، ويكون سببًا لتوافر
الأقوات، فإنه وفي المقدار الذي يحتاج اليه، فلتذع هذه المنة في القاصي والداني،
لتستعمل الكافة بينهم ضروب البشائر والتهاني، إن شاء الله تعالى."
وفي عصر سلاطين المماليك قدمت لنا المصادر
التاريخية صورة متكاملة عن وقائع الاحتفال بوفاء النيل في كل عام؛ ففي فترة
الفيضان خلال فصل الصيف كان صاحب مقياس الروضة يتابع عصر كل يوم مقدار الزيادة في
ارتفاع مياه النيل، وفي الصباح ينادي المنادي في شوارع القاهرة وضواحيها بمقدار
الأصابع التي ارتفعها النهر ليعرفها كافة الناس، في الوقت الذي يرفع فيه صاحب
المقياس تقريرًا يوميًا مكتوبًا إلى أرباب الدولة، وكان هذا التقرير الرسمي يؤرخ
بالتاريخين الهجري والقبطي ويتضمن مقدار زيادة النيل في نفس اليوم من العام
السابق، ومقدار الفارق بين العامين. وإذا بلغ ارتفاع ماء النيل ستة عشرة ذراعًا
علقت ستارة صفراء على الشباك الكبير بمقياس الروضة، وفي هذه الليلة يوقد سكان
الفسطاط والروضة الشموع والقناديل ويستأجر الناس المراكب الصغيرة للنزهة في النيل
حول جزيرة الروضة، أما الأمراء فيزينون مراكبهم بمختلف أنواع الزينات. وفي نفس
الوقت يحضر إلى المقياس بعض كبار موظفي الدولة، وبعض المقرئين لتلاوة القرآن، كذلك
يستمر الغناء حتى الصباح في دار المقياس.
وفي اليوم التالي يباشر السلطان بنفسه أو من
خلال من ينيبه عنه كسر الخليج في احتفال مهيب يشارك فيه كبار رجال الدولة وأفراد
الشعب، ويبدأ الاحتفال بمد موائد الطعام العامرة بأنواع الشواء والحلوى والفاكهة،
وعقب انتهاء الطعام يسبح صاحب المقياس في الفسقية التي تحيط بعمود قياس ارتفاع النهر
ليدهن العمود بالزعفران، وبعد ذلك ينزل السلطان بنفسه ليسبح في النهر ثم يركب
سفينته المزينة بالزينات ويتوجه بها وبصحبته سفن الأمراء وحولها مراكب الأهالي.
وقد استمرت مواكب وفاء النيل يوم عيده تقليدًا
راسخًا حتى سنوات قريبة مضت حيث كانت "العقبة" وهى السفينة الرسمية
للاحتفال تجوب النهر مزينة بجريد النخل وسباطات البلح ما بين مقياس الروضة وميناء
روض الفرج وباسوس بالقرب من القناطر الخيرية، كذلك استمر تقليد كتابه حجة وفاء
النيل التي يحررها مفتي الديار المصرية، وهذا نص لحجة سنة 1958 ميلادية والتي
وقعها فضيلة الشيخ حسن مأمون مفتي الجمهورية وجاء في مطلعها:
"بعد
حمد الله تعالى واستمداده المعونة والتوفيق، وبعد الصلاة والسلام على سيدنا محمد
سيد المرسلين وخاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
انعقد المجلس الشرعي في تمام الساعة السابعة من
مساء يوم الأربعاء الخامس من شهر صفر سنة 1378 هجرية، الموافق 20 من شهر أغسطس سنة
1958 ميلادية والرابع عشر من شهر مسرى سنة 1674 قبطية بسراي محافظة القاهرة بميدان
الجمهورية برياسة السيد اللواء عبد العزيز صفوت محافظ القاهرة نائبًا عن السيد
الرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة، وبحضور حكمدار القاهرة
وسكرتير عام المحافظة ووكلاء الحكمدارية وكبار الضباط والعلماء ورجال الصحافة
والإذاعة والتجار والأعيان..."
وتقول الحجة بعد ذلك :
"وبعد الإقرار الصادر أمامنا من السيد المهندس فؤاد عبد
العزيز زكي مدير مكتب وكيل وزارة الأشغال وهو الثقة المعين من قبل حكومة الجمهورية
العربية المتحدة لقياس النيل بمقياس الروضة، وبعد الإطلاع على الكشف المحرر بتاريخ
اليوم بمعرفة سيادته وسماع شهادة الشهود، المتضمن ذلك جميعه، أن النيل بلغ في هذا
العام بمقياس الروضة اثنين وعشرين ذراعًا وتسعة عشر قيراطًا، وإقرارهم بأنه ببلوغ
فيضان النيل هذا المقدار، يتوفر ري الأراضي المصرية، تحقق لدينا نحن حسن مأمون
مفتي الجمهورية العربية المتحدة وفاء النيل المبارك في هذا العام، وبذلك وجبت
جباية جميع أنواع الضرائب المقررة بمقتضى القوانين واللوائح والنظم المعمول بها، واستحقت
كافة الأموال والمرتبات والمستندات للخزانة المصرية العامة، كما هو متبع في كل
عام، وتمت نعمة الله تعالى على هذه البلاد بكمال فيض نيلها المبارك سبب نماء رزقها
ومصدر حياتها، فحق علينا جميعا حمده سبحانه والثناء عليه بما هو أهله."
إن حجة وفاء النيل امتداد تاريخي لتقاليد قديمة
والملاحظ أن حجة عام 1958 تربط بين وفاء النيل وجباية الضرائب مثلما كان متبعًا في
العصور القديمة عندما لم يكن في مقدور الفلاح أن يسدد ما عليه من ضرائب ما لم يفض
النيل ويفي الماء باحتياجات الزراعة وفي العصر الحديث خاصة بعد بناء مشروعات الري
العملاقة كالقناطر الخيرية وخزان أسوان ثم السد العالي وتحول معظم البلاد إلى نظام
الري الدائم لم يعد لهذا الارتباط وجود لكن شكل صياغة الحجة ظل ثابت على ما كان
عليه في العصور القديمة والوسطى، إلى أن بطلت الحجة وبطلت مظاهر الاحتفال الشعبي،
فهل آن لنا أن نفكر في إعادتها لنحاول أن نعيد احترام الناس للنهر؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق