هوامش على حكاية عروس النيل
عماد أبو غازي
شغل نهر النيل
أذهان الناس منذ القدم وجذب اهتمامهم... وكيف لا، والنيل شريان الحياة الذي جعل من
مصر واحة كبيرة وسط الصحراء، بل أكبر واحة على وجه الأرض، كان فيضان النيل الذي يأتي
بالخير كل عام يثير دائما أذهان الناس وخيالهم، ويدفعهم إلى البحث عن سبب حدوثه،
والسعي إلى الحفاظ على استمراره.
وفي هذا السياق
ترددت بين الناس قصة تقول: إن المصريين القدماء كانوا يزيِّنوُن في كل عام فتاة
عذراء يختارونها من بين أجمل بنات مصر ويلقونها في النيل حتى لا ينقطع فيضانه،
وتؤكد الحكاية أن المصريين لم يتوقفوا عن هذه العادة إلا عندما دخل المسلمون مصر
في القرن السابع الميلادي فأبطلوا تقديم هذا القربان البشري للنهر.
المصدر الأساسي
لهذه القصة كتاب فتح مصر للمؤرخ ابن عبد الحكم المصري، الذي قام بتأليفه في القرن
الثالث الهجري ـ التاسع الميلادي.
فمن هو ابن عبد
الحكم وما قصة كتابه؟
إنه المؤرخ عبد
الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، أقدم مؤرخ مصري كتب بالعربية ووصلت إلينا
مؤلفاته من العصر الإسلامي، ولد ابن عبد الحكم حوالي سنة 187هـ وتوفي في الفسطاط
سنة 257هـ، المقابلة لسنة 871م، ودفن بجوار قبر الإمام الشافعي. كان الرجل ينتمي
لأسرة من الفقهاء، كان أبوه من علماء الفقه والحديث البارزين في أواخر القرن
الثاني وأوائل القرن الثالث الهجريين، وقد عاصر ابن عبد الحكم قيام الدولة
الطولونية وعاش ثلاث سنوات بعد تأسيسها.
وترجع أهمية ابن
عبد الحكم إلى أنه صاحب أقدم كتاب عربي مؤلف في مصر يتناول تاريخ دخول العرب إلى
مصر، ورغم أن ابن عبد الحكم لم يكن معاصرًا لتلك الحوادث إلا إنه جمع الروايات
المختلفة التي دونها السابقون عليه، أو تلك التي سمعها تروى شفاهًا.
إن السنوات التي
عاشها ابن عبد الحكم تأتي في قلب فترة تعرف في تاريخ مصر الإسلامي بعصر الولاة،
يمتد هذا العصر منذ دخول المسلمين إلى مصر بقيادة عمرو بن العاص سنة 640م المقابلة
لسنة 20 هـ حتى ضم الفاطميون مصر إلى دولتهم ونقلوا إليها مركز خلافتهم سنة 969م
المقابلة لسنة 358هـ. خلال عصر الولاة كانت مصر تابعة لدولة الخلافة الإسلامية
يحكمها ولاة يعينهم الخليفة ويفوضهم في إدارة شئون الولاية، وكان أول هؤلاء الولاة
القائد عمرو بن العاص الذي ضم مصر إلى دولة الخلافة الإسلامية في عصر الخليفة
الثاني عمر بن الخطاب.
استمرت مصر
ولاية تابعة لدولة الخلافة بقية عصر الخلفاء الراشدين، وطوال عصر الدولة الأموية،
ولفترة من عصر الدولة العباسية، لكن مع اتجاه ولايات الدولة إلى الاستقلال الذاتي
في إطار الخلافة العباسية تأسست في مصر الدولة الطولونية سنة 254هـ ـ التي عاصر
ابن عبد الحكم تأسيسها ـ ومن بعدها قامت الدولة الإخشيدية سنة 323هـ.
وخلال عصر
الولاة بدأت بوادر تحول مصر إلى اللسان العربي، كما بدأ الأسلام ينتشر تدريجيًا في
البلاد، وخلال ذلك العصر استوطنت في مصر عديد من القبائل العربية التي اختلطت بأهل
البلاد فتمصرت مع مرور الزمن. كما هاجر إلى مصر أعداد من الصحابة والتابعين وعاشوا
فيها، وانتقل إليها فقهاء وعلماء ومحدثون من مختلف أرجاء الدولة الإسلامية ليعيشوا
فيها، حيث تأسست حلقات العلم والدرس في مدينة الفسطاط ومسجدها الجامع الذي شيده
عمرو بن العاص. في هذا المناخ العلمي الذي ظهر فيه الإمام الليث بن سعد والإمام
محمد بن إدريس الشافعي نشأ مؤرخنا عبد الرحمن بن عبد الحكم، واشتغل بجمع التواريخ
وتدوينها.
خصص ابن عبد
الحكم جزءًا من كتابه للحديث عن النيل فذكر أهمية النهر لحياة مصر، وتحدث عن
روايات السابقين عن النهر وعظمته. وأورد ابن عبد الحكم رواية استند إليها كثير من
الناس في أسطورة عروس النيل، ومفاد هذه الرواية: إن المصريين أخبروا عمرو بن العاص
بعد أن دخل مصر أن للنيل سنة لا يجري إلا بها، وطقوسًا لا يتحقق فيضان النهر إلا
إذا مارسوها. ويمضي ابن عبد الحكم في روايته فينسب إلى المصريين أنهم أكدوا لعمرو
بن العاص أن عليهم أن يختاروا بنتًا بكرًا في الليلة الثانية عشر من شهر بؤونه من
شهور السنة المصرية، الذي يقابل شهر يونيو من الشهور الميلادية، ويعطوا لأبويها
ديتها، ويضعوا عليها الحلى وأفضل الثياب، ثم يلقونها في النيل قربانًا حتى لا
يتوقف عن الفيضان!!
ووفقا لرواية ابن
عبد الحكم رفض عمرو بن العاص بالطبع أن يمارس المصريون طقوس تقديم القرابين
البشرية التي تخالف تعاليم الإسلام، ووفقًا للقصة الأسطورة استمر رفضه لمدة شهرين
ونصف، لم يزد فيها النيل إصبعًا واحدًا. وعند هذا الحد أرسل عمرو بن العاص بكتاب
إلى الخليفة عمر بن الخطاب، يخبره فيه بقصة النيل والمصريين. فأيد عمر موقف واليه
على مصر وبعث إليه ببطاقة ليلقيها في النيل، يقول عمر في البطاقة وفقا لرواية ابن
عبد الحكم:
"من عبد
الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر
أما بعد، فإن
كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار الذي يجريك، فنسأل الله
الواحد القهار أن يجريك".
فماذا حدث بعد
ذلك؟
يقول ابن عبد
الحكم:
"فألقى
عمرو البطاقة في النيل وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها، لأنه لا يقوم
بمصلحتهم فيها إلا النيل، فأصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعا في ليلة، وقطع تلك
السنة السوء عن أهل مصر..."
وقصة ابن عبد
الحكم عن عروس النيل قصة من نسج الخيال، ومع ذلك فقد لاقت رواجًا واسعًا بين
المؤرخين القدماء، كما أصبحت أسطورة عروس النيل من الأساطير التي يستلهمها الأدباء
والشعراء والفنانين في أعمالهم.
والقصة غير
معقولة منطقًا لأن أهل مصر عندما دخلها عمرو كانوا يعتنقون المسيحية، وهي تحرم
بالطبع القربان البشري، ومن هنا فمن غير المتصور أن يُقْدم المصريون في القرن السابع الميلادي على إلقاء
فتاة في النهر وتقديمها كقربان حتى يفيض، بعد مرور سبعة قرون على بداية انتقالهم
إلى المسيحية، وبعد مرور أكثر من مائة عام على إغلاق أخر معابد الديانة المصرية
القديمة في بلاد النوبة. لكن هل معنى هذا أن المصريين القدماء قبل اعتناقهم
المسيحية اعتادوا تقديم عروس للنيل في كل عام؟
في الحقيقة لا
توجد أدلة أثرية أو تاريخية تؤكد قصة عروس النيل في مصر القديمة، كما أن المؤرخ
الإغريقي هيردوت الذي زار مصر في القرن الخامس قبل الميلاد لم يشر إلى مثل هذه
الأسطورة، رغم أنه تحدث كثيرا عن النيل وفيضانه.
والمعروف
تاريخيًا، إن الحضارة المصرية القديمة لم تعرف في مرحلتها التاريخية تقديم
القرابين البشرية، كان المصريون القدماء يلقون بالهدايا في النيل أثناء احتفالهم
بوفائه، وكانت هذه الهدايا تضم ثمار الفاكهة والتمائم والتماثيل ربما يكون هذا
مصدرًا للأسطورة.
لكن رواية ابن
عبد الحكم الأسطورية عن إلقاء فتاة حية في النيل ليس لها أساسًا من المنطق ولا سند
من التاريخ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق