السبت، 5 سبتمبر 2015


5 سبتمبر / يوم المسرح المصري
نشرت هذا المقال من عشر سنوات عقب حريق مسرح بني سويف...
 

مخربشات

كود الإهمال المصري

عماد أبو غازي

  بدأت نهاري يوم الثلاثاء الماضي بخبر مأساة الحريق المروع بمسرح الثقافة الجماهيرية ببني سويف، وإذا كانت الواقعة قد هزتني مثلما هزت مصر كلها، إلا أن في الحادث فجيعة خاصة لي ولعديدين من الأصدقاء، أخذت أتبينها ساعة بعد ساعة، فبين شهداء الحادث خمسة من الأصدقاء والمعارف المباشرين، نزار سمك وحازم شحاتة وبهائي الميرغني وصالح سعد ومحسن مصيلحي، بعضهم امتدت صداقتنا لأكثر من ثلاثين عاما منذ سنوات الدراسة الجامعية واتصلت طوال هذه السنوات بحلوها ومرها مثل نزار، وبعضهم انقطعت الصلات وظلت الأسماء والمواقف باقية في الذاكرة، والبعض الثالث تعرفت عليهم في السنوات الأخيرة وتوطدت علاقة العمل وتحولت لصداقة، وبينهم من عرفتهم من خلال ما قرأته لهم من كتابات صحفية ونقدية مثل أحمد عبد الحميد ومدحت أبو بكر، ومن خلال صفحات النعي وسرادقات العزاء اكتشفت أبناء وأقرباء لمعارف آخرين، من هنا كانت الفجيعة فجيعتين، فجيعتي الخاصة قبل الفجيعة العامة وفوقها.

 عندما يفقد المسرح المصري في حادث واحد أكثر من ثلاثين من مبدعيه ونقاده وشبابه الواعد فنحن أمام كارثة للثقافة المصرية بكل المعايير، كارثة ترقى إلى مستوى كارثة الرياضة المصرية في أواخر الخمسينات عندما فقدنا فريق الشيش المصري بالكامل في حادث طائرة، وترقى إلى مستوى كارثة العسكرية المصرية باستشهاد المشير أحمد بدوي ورفاقه من قادة القوات المسلحة في أواخر السبعينيات في حادث طائرة آخر، لكن الكارثة هذه المرة مركبة لأنها نتيجة للإهمال الجسيم ولعدم الاهتمام بمعايير الأمان والجودة، كارثة كان من الممكن تلافيها تمامًا أو على الأقل التخفيف من حجمها.

 إننا أمام قاعة غير مجهزة للعرض المسرحي تنظم فيها مسابقة قومية للمسرح، قاعة بلا أبواب للطوارئ، وديكور يسد الباب ولا أحد يبالي، موظف يغلق الباب على المشاهدين بالمفتاح ويختفي ولا أحد يهتم، مبنى بلا معدات للإطفاء، وقوات مطافئ تصل متأخرة، وسيارات إسعاف أكثر تأخيرًا في الوصول، عدم توافر الإمكانيات الطبية اللازمة لمواجهة الحالة، وقبل هذا عرض ديكوراته قابلة للاشتعال وتشكل الشموع المضاءة مشهدًا أساسيًا فيه ولا من معترض.

 ولكن ما الغريب في هذا إذا كنا نعيش في مجتمع تسود فيه ثقافة "خليها على الله"، ثقافة تتهاون مع  التدخين في المصاعد وفي محطات البنزين، وتتساهل مع البناء المخالف للمواصفات، وتغض البصر عن الارتفاع بالمباني  فوق ما تحتمل فتنهار فوق رؤوس سكانها، وكل ما يهمنا كيف نتهرب من القواعد التي نضعها، وكيف نخرق القوانين أو نتحايل عليها، إننا نعيش للأسف في ظل مبدأ كل واحد يعمل اللي في دماغه.

 لذلك وقع حادث قطار الصعيد منذ عامين وراح المئات ضحية له، وحادث مصعد العمارة الذي فقدت فيه مصر واحدًا من أطبائها وعلمائها البارزين منذ شهرين، وحادث قرية الدبلوماسيين منذ أسبوعين الذي فقدت فيه شابة مصرية مغتربة وأم لطفلين صغيرين حياتها، وسوف تقع حوادث أخرى كثيرة ما لم نغير سلوكنا ونأخذ أمور حياتنا بجدية أكثر.

بمجرد أن سمعت بحادث قصر ثقافة بن سويف قفزت إلى ذاكرتي وقائع المشاركة العربية في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، كان الجناح العربي يضم مسرحًا داخل خيمة منصوبة في الساحة الرئيسية لمبنى المعرض، وكانت تعليمات الأمن صارمة بضرورة الالتزام بأن تكون جميع مكونات الخيمة والمسرح من مواد غير قابلة للاشتعال أو معالجة بحيث لا تشتعل حتى لو تعرضت لنيران مباشرة، ولم يقتصر الأمر على التعليمات، بل حضرت رئيسة مطافئ مدينة فرانكفورت لتتأكد بنفسها من تنفيذ التعليمات بدقة، كانت تجري اختبارات إشعال النيران بولاعتها في الديكورات، ولم تصرح للزميل ناصر عبد المنعم المخرج المسرحي والمسئول عن خيمة المسرح بافتتاح الخيمة إلا بعد أن أطمئنت تمامًا إلى سلامة التنفيذ ودقة الالتزام بالقواعد والتعليمات الأمنية، ولم يشفع لنا كون العالم العربي ضيف الشرف في المعرض، فهناك للإنسان قيمته واحترامه، ولا مجال للمغامرة بأمنه وأمانه، ولا محل للإهمال وعدم الدقة في العمل، وهذا الفارق بينهم وبيننا، الفارق الذي جعلهم مجتمعات متقدمة وأبقانا في تخلفنا، لا نملك إلا التباهي بأمجاد الأجداد دونما صلة حقيقية بما أنجزوه، لقد شيد أبناء وادي النيل حضارتهم القديمة على قاعدة مراعاة معايير الجودة في كل شيء في حياتهم، على أسس من الدقة وإتقان العمل والإخلاص فيه، حتى أن الجنة الموعودة بعد البعث عند المصري القديم كانت عبارة عن حقول أوزير (أوزوريس) التي يباشر فيه الفلاح عمله بإتقان بعد رحلته إلى العالم الآخر، ليس من حقنا أن ننتسب لصناع تلك الحضارة العظيمة إلا إذا تخلينا عن كود الإهمال والتسيب والاستسهال، وعدنا متمسكين بكود الدقة والإتقان والأمانة في العمل.

إن الاعتذار الوحيد لشهداء الثقافة المصرية يأتي بمواجهة صارمة منا جميعًا لمظاهر الإهمال والفساد والاستسهال داخلنا وحولنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...