الأحد، 6 سبتمبر 2015


خارج الوطن...
عماد أبو غازي
 أجلس في استراحة مطار إسطنبول في انتظار اللحاق بطائرتي المتوجهة الي بوخارست بعد أن أمضيت ليلتي في فندق داخل المطار. سيصبح هذا طريق المعتاد إلى رومانيا بعد أن توقف الخط المباشر للخطوط الجوية الرومانية، استراحة مطار إسطنبول من أجمل استراحات المطارات التي زرتها، لكن مشكلة المطار الرئيسية في ارتباك الرحلات الدولية به؛ وأظن أن السبب في ذلك يرجع إلى حجم الحركة الذي يفوق طاقة ممرات الهبوط والانطلاق.
 جالت بخاطري في هذه اللحظات ذكريات السفر خلال تسع سنوات زرت فيها ما يقرب من عشرين دولة في قارات "العالم القديم" الثلاث، أفريقيا وآسيا وأوروبا، بعض هذه الدول زرته لأكثر من مرة، تذكرت مشاهداتي في السفر التي دونت بعضها من قبل لكن أغلبها لم أدونه.
 كانت أول رحلة لي إلى خارج البلاد بعد أن تجاوزت الثلاثين بأشهر قليلة إلى موسكو، كانت المرة الأولى التي تصورت وقتها أنها الأخيرة، فلم أعد للسفر مرة أخرى إلا بعد التجربة الأولى بما يقارب العشرين عامًا.
 
الطائرة الوحيدة التي ركبتها في صغري!!!
 الرحلة الأولى بعد سن الثلاثين، بين أبناء جيلي كان هذا أمرًا غريبًا، فمعظم أقراني سافروا إلى خارج البلاد قبل أن يكملوا العشرين، في رحلات صيفية الي أوروبا أو إلى بعض دول الجوار العربية؛ بهدف الفسحة أو العمل في أشهر الصيف في بعض الاعمال الصغيرة كغسيل الصحون وبيع الصحف، لتمويل رحلاتهم أو أحيانًا لتمويل دراستهم. 
 عرفت مصر هذه الظاهرة بعد هزيمة يونيو 1967 وانفجار الاحتجاجات الطلابية والعمالية ضد النظام في العام التالي. عام 1968. ذلك العام الفاصل في تاريخ العالم الحديث إذا جاز لنا أن نعتبر أن هناك أعوامًا فاصلة في التاريخ. إنه عام حركات الاحتجاج الكبرى التي اجتاحت دول العوالم الثلاثة وفتحت الطريق لإسقاط منظومة دولية بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية. 
 في مصر كان السفر الي الخارج مقيدًا منذ استتب الأمر لنظام يوليو 52. كان السفر خارج البلاد يحتاج تأشيرة خروج. أي تصريح بالسفر يحصل عليه المواطن من وزارة الداخلية! إنه أمر غريب بالنسبة لأبنائنا اليوم. لا أظن أنه من الممكن لهم أن يتصوروا هذا الأمر. الميزة الوحيدة لهذا النظام إذا كان يمكن أن نعتبر أن له ميزة؛ إن الممنوع من السفر كان يعرف هذا من مجمع التحرير دون أن يتكبد مشقة حجز تذكرة السفر والذهاب إلى المطار ثم يفاجأ هناك بأنه مدرج علي القوائم. كذلك كان من شبه المستحيل الحصول علي عملة أجنبية للسفر بها رغم أن سعر الدولار وقتها كان في حدود 39 قرشًا، لكنه غير مطروح في الأسواق للبيع. لم تكن هناك شركات الصرافة ولم يكن مسموحًا للبنوك أن تبيع العملة الأجنبية للمواطن إلا في أضيق الحدود. كما كان الاحتفاظ بالعملة الأجنبية بحوزة الأفراد جريمة يعاقب عليها القانون. ولم يكن مسموحًا لهم بفتح حساب بالعملة الأجنبية. أتذكر هنا أول مرة رأيت فيها شركة صرافة كانت في مدينة بور سعيد في أول زيارة لي للمدينة سنة 1963 وعمري ثمان سنوات ويبدو أن المدينة لأنها ميناء دولي ومدخل لقناة السويس كان مسموحًا فيها بشركات الصرافة. يومها وقفت مشدوها إمامًا واجهة الشركة أتطلع لأشكال عملات العالم المختلفة التي لم أكن قد رأيتها في حياتي. أتذكر كذلك أنه في عام 66 سافرت صغرى عمتي إلى كندا لمدة ثلاثة أشهر بمنحة من منظمة الصحة العالمية، وعندما عادت إلى القاهرة كان قد تبقي معها أربعون دولارًا من راتب المنحة، ولأنها مواطنة صالحة ولا تكذب أبدًا، فعندما سألها موظف الجمارك هل معكي عملات أجنبية أبلغته بالمبلغ الذي بحوزتها وسجلته في إقرارها الجمركي، فجاء لزيارتها في مساء اليوم الذي وصلت فيه اثنان من موظفي وزارة المالية، وتسلموا منها المبلغ وأعطوها إيصالًا به ومقابله بالجنيه المصري. 
 أتذكر كذلك كيف كان سفر أحد أفراد العائلة الكبيرة في مهمة رسمية للخارج تستغرق أيامًا قليلة يستدعي ذهاب جميع أفراد العائلة في قافلة من السيارات الخاصة وسيارات الأجرة لوداعه في المطار! 
وكان الذهاب الي المطار نزهة ممتعة بل إن استريو المطار كان أحد الأماكن التي يذهب إليها الشباب لقضاء سهراتهم فيها. 
 بعد هزيمة 67 وثورة الشباب بدأت الصورة تتغير تدريجيا؛ ففي محاولة من نظام عبد الناصر لامتصاص الغضب من الهزيمة، ومحاصرة جنوح الشباب نحو التمرد علي نظام أبوي متسلط، قدم النظام تنازلات عديدة، وخلافًا لما يمكن أن يحدث في دولة خرجت مهزومة من الحرب، شهدت البلاد انفراجه جزئية؛ كي لا يشعر الناس بوطأة الهزيمة. فمن ناحية غُض البصر عن تهريب السلع الأجنبية التي كانت قاصرة قبل الهزيمة علي ما يعرف بسوق غزة، لتنشأ في شوارع وسط المدينة ظاهرة جديدة، بوتيكات الملابس والسلع المستوردة المهربة، بدأت الظاهرة بشارع الشواربي الذي تحول إلى أشهر شارع في المدينة، لتمتد بعد ذلك إلى باقي شوارع وسط البلد، ووسط كل مدينة كبري. بل إن الدولة نفسها دخلت طرفًا في طرح السلع المستوردة في محال القطاع العام الكبرى، فأصبحت محلات مثل هانو وريفولي وشيكوريل تبيع شوكلاتة نسله وكادبوري، والصابون ومعاجين الأسنان الأجنبية مثل كامي وكولجيت التي لم يكن معظم أبناء جيلي قد رأوها في حياتهم. وفي هذا السياق تم تخفيف القيود علي السفر للخارج وعرفنا وقتها ما كان يسمي جواز سفر الطلاب، وكان جواز سفر مدة صلاحيته ستة أشهر فقط وعدد صفحاته 12 صفحة، يمنح للطلاب في مراحل التعليم المختلفة، ما عدا طلاب السنوات النهائية: الثانوية العامة والسنة النهائية في المعاهد والكليات، ذلك حتي لا يهربوا من التجنيد. كأن من يريد الهرب أو الهجرة سيمنعه أنه في سنة نهائية. وبالفعل خرج كثيرين من الشباب في جيلي ولم يعودوا. سافر زملائي وشقيقي الأكبر وشقيقتي الصغرى مرات إلى أوروبا في ذلك الزمن لكني لم أسافر أبدًا، كما لم أسافر بعدها مع أهلي، أو فيما عرض علي من فرص للدراسة بعد أن التحقت بالعمل بالجامعة.
لماذا؟
 لأنني كنت مصابًا برهاب من ركوب الطائرات، كنت أخفي هذا الأمر عن أهلي وأتعلل بحجج مختلفة لعدم السفر، لكن مع تكرار عروض السفر، وتكرار الرفض كان علي أن أصارح الجميع بحقيقة أمري.
 إذًا لماذا سافرت إلى موسكو؟
 هذه قصة أخرى...
مطار إسطنبول
7 نوفمبر 2013

هناك تعليق واحد:

  1. حضرتك حتى فى ذكرياتك الشخصية توثقها بالأحداث التاريخية أستاذي الفاضل أتعلم منك الكثير وأفتخر بأنك أستاذي دائماً

    ردحذف

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...