الأحد، 30 أغسطس 2015


نجيب محفوظ موثقًا للثورة

عماد أبو غازي

 


  إن ما حدث في مصر في ثورة 1919 كان يكشف عن روح جديدة أخذت تسري في الشعب، عبر عنها الإبداع الأدبي لسنوات طويلة بعدها، وكان نجيب محفوظ من أهم من وثقوا لهذه الروح إبداعًا أدبيًا.
 منذ 13 نوفمبر 1918 كانت مصر تتغير، و لم يشعر الإنجليز ورجالهم في مصر وأعوانهم من المصريين بهذه التغيير، فتمادوا في غيهم، وزادوا في تعنتهم، وفي المقابل كانت روح المقاومة تسري بسرعة، وقيادة الوفد بزعامة سعد زغلول تزداد إصرارًا على المواجهة وتصعد من مواقفها طوال شهر فبراير سنة 1919، وحسين رشدي باشا رئيس الوزراء يقدم خطاب استقالة للمرة الثانية إلى السلطان فؤاد في 10 فبراير سنة 1919، عقب الاستقالة قبلت الحكومة البريطانية دعوة رشدي وعدلي يكن وحدهما إلى لندن، إلا أنهما رفضا السفر قبل السماح لأي مصري يرغب في السفر بممارسة حقه الطبيعي، فأضطر السلطان فؤاد إلى قبول استقالة الحكومة في أول مارس سنة 1919، وفي اليوم التالي وجه الوفد المصري خطابًا شديد اللهجة إلى السلطان فؤاد.
 وفي 4 مارس أرسل الوفد خطاب احتجاج إلى معتمدي الدول الأجنبية في مصر يفضحون فيه السياسة البريطانية في البلاد، وبعدها بيومين استدعى الميجر جنرال وطسن قائد القوات البريطانية في مصر بالنيابة رئيس الوفد وأعضاءه إلى فندق سافوي بميدان سليمان باشا، حيث مقر القيادة وتلى عليهم إنذارًا بريطانيًا رسميًا بتطبيق الأحكام العرفية عليهم في حال استمرارهم في معارضة السياسة البريطانية.
 كان رد الوفد واضحًا في اليوم نفسه بإرسال برقية احتجاج إلى لويد ﭼورﭺ رئيس وزراء بريطانيا، قبل أن تمضي 48 ساعة، وفي يوم 8 مارس سنة 1919، كانت السلطات البريطانية قد ألقت القبض على سعد زغلول ومحمد محمود باشا وإسماعيل صدقي باشا وحمد الباسل باشا وأودعتهم ثكنات قصر النيل، وفي اليوم التالي تم ترحيلهم إلى بور سعيد ومنها إلى مالطة منفيين بعيدًا عن الوطن، شاع الخبر بسرعة في العاصمة ومنها إلى الأقاليم، ما هي إلا ساعات قليلة وبدأت الثورة صباح الأحد 9 مارس سنة 1919، وكانت البداية من طلبة مدرسة الحقوق، واشتعلت نار الثورة في مصر من أقصاها إلى أقصاها.
 
 

 وفي رواية "بين القصرين" أول أجزاء ثلاثية نجيب محفوظ تدور الأحداث في ظلال ثورة 1919، يتطور الحدث الروائي مواكبًا للثورة ومتفاعلًا معها... يرصد محفوظ التغير في المجتمع المصري مع حدث الثورة من خلال التغير في عائلة السيد أحمد عبد الجواد ومحيطها، ودون أن تفقد الرواية جانبها الإبداعي تتحول بمعنى ما إلى تأريخ أدبي للثورة، بل في بعض صفحات الرواية يتحول نجيب محفوظ إلى موثق للثورة يضمن السرد الروائي وثائق الثورة بنصوصها الكاملة، في تجربة من تجارب محفوظ في الشكل الروائي...
 
 
 السطور التالية من الرواية تقدم نموذجًا لهذا السرد التوثيقي:
 

 "أعلنت إنجلترا حمايتها من تلقاء نفسها دون أن تطلبها أو تقبلها الأمة المصرية، فهي حماية باطلة لا وجود لها قانونا بل هي ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي بنهايتها".
 كان فهمي يملي الكلمات، كلمة كلمة، في أناة وبصوت واضح النبرات والأم وياسين وزينب يتابعون باهتمام درس الإملاء الجديد الذي انكب كمال على كتابته، مركزًا وعيه في ألفاظه من دون أن يفقه معنى كلمة مما كتب صوابًا أو خطأً، لم يكن غريبًا أن يلقي فهمي على شقيقه الصغير درسًا في الأملاء أو غيرها في جلسة القهوة، ولكن موضوع الإملاء بدا جديدًا حتى للأم وزينب، أما ياسين فنظر إلى أخيه مبتسمًا:
ـ أرى هذه المعاني قد ملكت عليك نفسك، فلم يفتح الله عليك بإملاء لهذا الغلام المسكين إلا خطبة سياسية وطنية ينفتح لها المغلق من أبواب السجون.
فبادر فهمي إلى تصحيح رأي أخيه قائلًا:
ـ هي من خطبة سعد أمام سلاطين الاحتلال في جمعية الاقتصاد والتشريع.
فتسأل ياسين باهتمام ودهشة:
ـ وكيف كان ردهم عليه؟
فقال فهمي بانفعال:
ـ لم يجئ ردهم بعد، والكل يتساءل عنه في حيرة وقلق، إنها غضبة مزمجرة في وجه أسد لم يؤثر عنه الحلم والعدل.
ثم وهو يتنهد مغيظًا محنقًا:
ـ كان لابد من غضبة بعد أن منع الوفد من السفر، وبعد أن استقال رشدي باشا من الوزارة فخيب السلطان المأمول بقبول استقالته.
ثم مضى إلى حجرته مسرعًا، وعاد وهو يبسط ورقة مطوية وقدمها إلى أخيه وهو يقول:
ـ ليست الخطبة كل ما عندي، اقرأ هذا المنشور الذي يوزع سرًا متضمنًا رسالة الوفد إلى السلطان.
فتناول ياسين المنشور وراح يقرأ:
ـ "يا صاحب العظمة...
 يتشرف الموقعون على هذا أعضاء الوفد المصري أن يرفعوا إلى عظمتكم بالنيابة عن الأمة ما يلي:
 لما اتفق المحاربون على أن يجعلوا مبادئ الحرية والعدل أساسًا للصلح وأعلنوا أن الشعوب التي غيرت الحرب مركزها يؤخذ رأيها في حكم نفسها أخذنا على عاتقنا السعي في استقلال بلادنا والدفاع عن قضيتها أمام مؤتمر السلام ما دام أن الحق الأقوى قد زال من ميدان السياسة، وما دامت بلادنا قد أصبحت بزوال السيادة التركية حرة من كل حق عليها لأن الحماية التي أعلنها الإنجليز بلا اتفاق بينهم وبين الأمة المصرية باطلة، ولم تكن في الواقع إلا ضرورة حربية تزول بزوال الحرب، اعتمادًا على هذه الظروف وعلى أن مصر غرمت كل ما قدرت عليه من المغارم في صف القائلين بحق حرية الأمم الصغرى، لا يكون لدى مؤتمر السلام ما يمنع من الاعتراف بحريتنا السياسية جريًا على المبادئ التي أسس عليها. عرضنا رغبتنا في السفر على رئيس وزرائكم صاحب الدولة حسين رشدي باشا، فوعد بمساعدتنا على السفر وثوقا منه بأننا إنما نعبر عن رأي الأمة كافة؛ فلما لم يسمح لنا بالسفر وحبسنا داخل حدود بلادنا بقوة الاستبداد لا بقوة القانون، وحيل بيننا وبين الدفاع عن قضية هذه الأمة الأسيفة، ولما لم يستطع دولته أن يحتمل مسئولية البقاء في منصبه في حين أن الشعب يصادر في مشيئته، استقال هو وزميله صاحب المعالي عدلي يكن باشا استقالة نهائية قوبلت من الشعب بتكريم شخصيهما والاعتراف بصدق وطنيتهما.
ولقد كان الناس يظنون أنه كان لهما في وقفتهما الشريفة دفاعًا عن الحرية عضد قوي من نفحات عظمتكم، لذلك لم يكن ليتوقع أحد في مصر أن يكون آخر حل لمسألة سفر الوفد قبول استقالة الوزيرين، لأن في ذلك متابعة للطامعين في إذلالنا وتمكينا للعقبة التي ألقيت في سبيل الإدلاء بحجة الأمة إلى المؤتمر، وإيذانًا بالرضى بحكم الأجنبي علينا إلى الأبد.
قد نعلم أن عظمتكم ربما كنتم مضطرين لاعتبارات عائلية أن تقبلوا عرش أبيكم العظيم الذي خلا بانتقال أخيكم المغفور له السلطان حسين، ولكن الأمة من جهة أخرى كانت تعتقد أن قبولكم لهذا العرش في زمن الحماية الوقتية الباطلة رعاية لتلك الظروف العائلية ليس من شأنه أن يصرفكم عن العمل لاستقلال بلادكم، غير أن حل المسألة بقبول استقالة الوزيرين اللذين أظهرا احترامهما لإرادة الأمة لا يمكن أن يتفق مع ما جبلتم عليه حب الخير لبلادكم، والاعتداد بمشيئة شعبكم، لذلك عجب الناس من مستشاريكم كيف أنهم لم يلتفتوا إلى الأمة في هذا الظرف العصيب وهي إنما تطلب منكم – يا أرشد أبناء محررها الكبير محمد علي – أن تكونوا لها العون الأول على نيل استقلالها، مهما كلفكم ذلك، فإن همتكم أرفع من أن تحددها الظروف. كيف فات مستشاريكم أن عبارة استقالة رشدي باشا لا تسمح لرجل مصري ذي كرامة وطنية أن يخلفه في مركزه؟! كيف فاتهم أن وزارة تؤلف على برنامج مضاد لمشيئة الشعب مقضى عليها بالفشل؟!
عفوًا مولانا قد لا تكون مداخلتنا في هذا الأمر وفي غير هذا الظرف غير لائقة؛ ولكن الأمر قد جل الآن عن أن يراعى فيه أي اعتبار غير منفعة الوطن الذي أنت خادمه الأمين. إن لمولانا أكبر مقام في البلاد فعليه أكبر مسئولية عنها، وفيه أكبر رجاء لها، وإننا لا نكذبه النصيحة إذا تضرعنا إليه أن يتعرف رأي أمته قبل أن يتخذ قرارًا نهائيًا في أمر الأزمة الحالية، فإننا نؤكد لسدته العلية أنه لم يبق أحد في رعاياه من أقصى البلاد إلا وهو يطلب الاستقلال، فالحيلولة بين الأمة وبين طلبتها مسئولية لم يتحر مستشارو مولانا أمرها بالدقة الواجبة، لذلك دفعنا واجب خدمة بلادنا وإخلاصنا لمولانا أن نرفع لسدته شعور أمته التي هي الآن أشد ما تكون رجاء في استقلالها وأخوف ما تكون من أن تلعب به أيدي حزب الاستعمار، والتي تطلب إليه بحقها عليه أن يغضب لغضبها ويقف في صفها فتنال بذلك غرضها، وأنه على ذلك قدير".
رفع ياسين رأسه عن المنشور وفي عينه ذهول وفي قلبه نبض جديد من التأثير، بيد أنه هز رأسه قائلًا:
-         يا له من خطاب! لا أحسبني أستطيع أن أوجه مثله إلى ناظر مدرستي دون أن ينالني العقاب الرادع!
فرفع فهمي منكبيه استهانة وقال:
-         الأمر قد جل الآن عن أن يراعى فيه أي اعتبار غير منفعة الوطن!
ردد العبارة عن ظهر قلب كما وردت في المنشور، فلم يتمالك ياسين أن يقول ضاحكًا:
-          أحفظت المنشور! ولكني لا أعجب لهذا، كأنك كنت تترصد طول حياتك لمثل هذه الحركة كي تلقى إليها بكل قلبك، ولعلي لا أخلو من مثل شعورك وآمالك، ولكني لا أقرك على الاحتفاظ بهذا المنشور، خصوصًا بعد استقالة الوزارة وتحرش الأحكام العرفية!
فقال فهمي في فخار:
-         إني لا احتفظ بهذا فحسب ولكني أقوم بتوزيعها ما سمح الجهد."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...