هل عبد
المصريون النيل؟
عماد أبو
غازي
كان المصريون يرددون
دائما حسبما قال المؤرخ الإغريقي هيردوت: "إن مصر هي هبة النيل"، وبقدر
ما تحمل هذه المقولة من اعتراف بفضل النيل على هذا البلد بقدر ما تحمل من إنكار
للذات من قبل المصريين؛ فإذا كان النيل مصدر الحياة على هذه الأرض فإن جهود
المصريين وإبداعاتهم هي مصدر الحضارة المصرية العظيمة، والتي لم تقم حضارة مماثلة
لها بطول النهر من منبعه حتى بلاد النوبة، كان النيل يفيض سنويا ليكون واديه
ودلتاه من الغرين الذي يحمله معه من هضبة الحبشة، وليروي الحقول ويزيد من خصوبة
التربة، وكان المصريون يعملون من أجل تحقيق أكبر استفادة من النهر العظيم ليشيدوا
حضارتهم.
وفي دراسة حديثة
للباحث حمدي أبو كيلة عن التأثير المتبادل بين النيل والمصريين، جمع الباحث بعض
أناشيد المصريين القدماء للنيل والتي تعبر عن تقديرهم لمصدر الحياة على أرض مصر أقتطع
منها:
إن الخير الذي يجلبه النهر
أجل نفعا من الذهب والفضة
وأعلى من الجواهر
إن الناس لن تأكل الذهب
وإن كان خالصا
ولن تتغذى بالجواهر
ولو كانت حرة نقية...
ومادام الناس لا يأكلون اللازورد الحر فالشعير أحسن
وعندما نتحدث عن نهر النيل فنحن نتكلم عن واحد من الأنهار
العظمى في العالم، إنه أطول أنهار الأرض، حيث يبلغ طوله ستة آلاف وخمسمائة كيلو
متر، وهو أحدث الأنهار الكبرى في العالم تكوينًا حيث يرجع إلى الزمن الجيولوجي
الرابع والأخير.
يبدأ النهر رحلته من
البحيرات العظمى فيما وراء خط الاستواء ليعبر مناطق الشلالات الاستوائية ثم يمر في
شبكة من المجاري المائية المليئة بالأعشاب والحشائش الطويلة في جنوب السودان ليشق
بعد ذلك السهول الواسعة والصحارى حتى يصل إلى مصر، وعند منطقة النوبة تبدأ رحلة
النيل مع الحضارة العظيمة التي قامت على ضفتيه من هذه النقطة جنوبًا وحتى مصبه على
شواطئ البحر المتوسط شمالً؛ تلك الحضارة التي بدأت بذورها الأولى قبل الميلاد ببضع
آلاف من السنين، وفي نهاية رحلة النيل يُكوّن النهر أرض مصر على ضفتيه وفي دلتاه،
تلك الأرض التي شيد المصريون عليها حضارتهم ، وقد لخص أحد شعراء مصر المعاصرين وهو
الشاعر حسن طلب هذا المعنى في قصيدة له يقول فيها:
يا نيل أحكمت الخطط
فرشت لك الصحراء شر حصيرة
فرصدت كل صغيرة، ولم تنس قط
ومكرت بالمستنقعات
فسرت من بحر الغزال
عبرت مرتفعات دنقلة القديمة
في محاذاة الجبال
أدرت رأسك من بحيرات الجنوب إلى الشمال
ومررت من بين الجنادل، وانتصرت على التلال
وهدرت بالشلال
فانطوت الهضاب الصفر بين يديك
والوادي انبسط
حتى إذا ألقيت نفسك في بحيرات الرمال
دعوت ربك وانطلقت
شققت دربك بين صحراوين واخترت الوسط
وجعلت تبتكر التضاريس الجديدة:
إنها مصر التي انتظرتك
تنهض في ضباب الكون واحدة وحيدة
[ اكتملت بها...،...أو اكتملت بك ]
وكان المصريون القدماء يطلقون على النيل اسم إترو،
ثم تطور النطق إلى أن أصبح إيور، وهذا اسم يطلق على أي نهر دائم الجريان، وهذه
الكلمة في صيغة الجمع كانت ترمز لأفرع النيل في الدلتا وتنطق نا إيور. ويرى بعض
علماء المصريات أن هذا النطق الأخير هو أصل كلمة نيلوس اليونانية والتي اشتق اسمه
منها في كل اللغات الحية حتى الآن.
وإذا
كانت أفرع النيل عند منطقة المصب في الدلتا قد عرفت باسم نا إيور، فإن المجرى
الجنوبي في الوادي قد ظل يعرف على ما يبدو وبالاسم القديم إترو مع إضافة كلمة عظيم
المصرية القديمة إليه فأصبح يسمى إترو عا ومنها جاءت كلمة ترعة.
أما اسم
حابي أو حعبي فيدل على الروح الكامنة في النيل، وكان حابي من ضمن آلهة المصريين
المقدسة، ومن الأناشيد الموجهة إليه:
"حعبي أبو الآلهة
الذي
يغذي ويطعم ويجلب المئونة لمصر كلها
الذي
يهب كل فرد الحياة في أسم قرينه
ويأتي
الخير في طريقه
والغذاء
عند بنانه
ويجلب مجيئه البهجة لكل انسان...
حعبي أنت الذي خلقت نفسك من نفسك دون أن يعرف أي
فرد جوهرك
غير أن
كل إنسان يبتهج في اليوم الذي تخرج فيه من كهفك
إنك سيد الأسماك وإنك غني بحقول القمح..."
لكن هل
يعني ذلك أن المصريين القدماء قد عبدوا النيل، موضوع عبادة النيل في مصر القديمة من
الموضوعات الملتبسة التي أثارت الكثير من الجدل بين علماء المصريات، والاتجاه
السائد الآن في دراسات التاريخ والحضارة المصرية القديمة هو أن النيل لم يقم بدور
أساسي في نطاق الديانة الرسمية، والأناشيد التي كانت توجه للنيل هي أناشيد تعبر عن
الاهتمام بالنهر والامتنان له ولفضله والحفاظ عليه كنوع من أنواع إظهار التدين
والورع وليس عبادة النهر في ذاته، كذلك يذهب الكثيرون من علماء المصريات إلى أن
الديانة الحقيقية المتعلقة بعبادة النيل لم تتبلور بشكل واضح إلا في العصر
اليوناني الروماني في مصر...
كذلك
فإن الأفكار السائدة حول علاقة الفرعون بفيضان النهر يبدو إنها غير دقيقة؛ فالفرعون
لا يعد ساحرًا يتحكم في عملية الفيضان كما يجلب بعض السحرة سقوط الأمطار في بعض
المعتقدات البدائية، وهو ليس وسيطًا مباشرًا بين الفلاحين والنيل، وتعد سنوات
الجفاف مظهرًا من مظاهر الفوضى التي تنجم عن التدمير والجهل والإهمال، ويقتصر دور
الفرعون أو الملك على تقديم القرابين للإله حعبي عند أسوان وعين شمس، كما يقوم
باتخاذ الإجراءات النافعة من خلال حكومته أو رجال إدارته، وعليه أن يتقدم بالشكر
للإله آمون عندما يفيض النيل بالشكل المرغوب، ولم تضمن القرابين المقدمة للنيل في
أي عصر من عصور الحضارة المصرية قرابين بشرية أو عرائس للنيل مثلما هو شائع في
الأسطورة الخرافية التي رددها المؤرخ العربي ابن عبد الحكم، إذا لم يقدس المصريون
القدماء مجرى النهر في حد ذاته وإن كانوا قد أضفوا القدسية على الكائن الغامض
المستتر تحت الأرض والذي تظهر قوته وفاعليته مرة كل عام عندما يرتفع منسوب المياه.
والإله
حابي أو حعبي هو روح النيل وجوهره الحركي، هو فيضان المياه النابعة من
"نون" التي تجسد رقعة المياه الأزلية مترامية الأطراف التي أقصيت عند
بداية الخليقة إلى حافة العالم وفقا للمعتقدات المصرية القديمة. وكان الفيضان هو مجئ حعبي، ومن هنا كان حعبي
يشترك في الجوهر مع نون التي كانت المظهر العام لتجسيد الخصوبة، ويلتبس في بعض
الأساطير مع أوزير الجسم الكوني الذي تسبب رطوبته ارتفاع المياه.
ويصور حعبي في شكل إنسان بدين مترهل الصدر طويل
الشعر يرتدي ملابس صيادي الأسماك في المستنقعات، ويكون باللونين الأزرق والأخضر، واعتقد
المصريون أن للإله حعبي كهف يسكن فيه عند أسوان وآخر عند رأس الدلتا بالقرب من
موضع القاهرة حاليًا، وفي بعض المعتقدات المصرية المتأخرة كان الفيضان يأتي من
هذين المسكنين، وعندهما كانت تقام طقوس عبادة حعبي الذي كان من الآلهة الثانوية في
مصر، لذلك أقيمت مقاييس للنيل عند مساكنه في جزيرة إلفننين بأسوان وإلى الشمال من
منف القديمة، ومن الطريف أن هذين الموضعين ظلا من مواضع مقاييس النيل الرئيسية عبر
العصور، وعند مقياس الروضة الذي لا يزال قائمًا حتى الآن كانت تنطلق احتفالات وفاء
النيل حتى عقود قليلة مضت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق