الاثنين، 22 سبتمبر 2014

سيد درويش وثورة النغم


سيد درويش وثورة النغم ... 

عماد أبو غازي

 في إحدى الأمسيات أشار بعض أصدقائه إلى الشبه الغريب بين شكل رأسه وشكل رأس الموسيقي الإيطالي الكبير فيردي صاحب أوبرا عايدة، والذي يعتبر من أبرز مؤلفي الأوبرا الإيطاليين في القرن التاسع عشر، بل هو أحد أعلام الموسيقى العالمية عبر العصور.
يومها أجاب الرجل على ملاحظة صديقه قائلًا: "أنا لا أقل عن فيردي، أنا فيردي مصر".

 
 إنه سيد درويش الذي توفي في مثل هذه الأيام من شهر سبتمبر 1923، وهو في قمة مجده الفني وتوهجه الإبداعي، توفي وهو يستعد لاستقبال الزعيم سعد زغلول يوم عودته من المنفي بالنشيد الذي ألفه ولحنه خصيصًا لهذه المناسبة وقال في مطلعه:

مصرنا وطنا سعدها أملنا           كلنا جميعا للوطن ضحية
أجمعت قلوبنا هلالنا وصليبنا    أن تعيش مصر عيشة هنية

 
وختمه بقوله:

إحنا غايتنا       نرفع رايتنا
أحرار خلقنا      نأبى المذلة
يا عيشنا سعدا    يا متنا شهدا
لنحيا أمة         مستقلة
 
 
 
 لقد رحل سيد درويش وهو بعد شاب تجاوز الحادية والثلاثين من عمره بشهور قليلة، فقد ولد صاحبنا بالإسكندرية في شهر مارس عام 1892 بحي كوم الدكة، ونشأ في بيئة شعبية بسيطة، والتحق مثل غيره من أبناء جيله بكُتّاب الحي، وفي الكُتّاب، كُتّاب حسن حلاوة لمس مدرسه سامي أفندي ـ الذي كان يحفظ الأناشيد ويلقنها للصغار ـ استعداد الصبي سيد درويش البحر لاستيعاب الأغاني والألحان بسرعة، وعندما التحق بمدرسة "شمس المدارس" بحي رأس التين التقى بنجيب أفندي فهمي ضابط المدرسة الذي كان مولعًا هو الآخر بتلقين تلاميذه الأناشيد التي كانت تعرف في ذلك الوقت بالسلامات، وتفتتح بها الحفلات المدرسية. وفي عام 1905 عندما بلغ الفتى الثالثة عشرة من عمره تقدم بطلب للالتحاق بالمعهد الديني بمسجد المرسي أبو العباس، وواصل سيد درويش الدراسة بالمعهد الديني لمدة عامين، تعلم خلالهما تجويد القرآن ودرس بعض علوم الدين، وارتدى الزي التقليدي للمشايخ الأزهريين وطلبة المعاهد الدينية، لكن روح الفنان داخل سيد درويش كانت غالبة، فانصرف تدريجيًا عن الدراسة، وتردد على الموالد للإنشاد فيها، ومنها إلى الحفلات والأفراح، وأدى عدم تفرغه للدراسة وتردده الدائم على مجالس السمر في حي كوم الدكة الذي ولد ونشأ فيه إلى فصله نهائيًا من المعهد الديني في نهاية عامه الدراسي الثاني به، بعد إنذاره أكثر من مرة،  ليخسر بذلك الفتى سيد درويش البحر ابن الخمسة عشر عامًا "مستقبله" الدراسي كما كان يراه معظم أهل عصره من أبناء الطبقات الشعبية، ولتكسب مصر علمًا من أعلام نهضتها الحديثة فنان الشعب سيد درويش.

 لقد عاشت مصر في السنوات الأولى من القرن العشرين لحظات مخاض لدور جديد من أدوار النهضة الثقافية والبعث الوطني في العصر الحديث، فبعد كبوة الاحتلال البريطاني لمصر في عام 1882 بسنوات بدأت مصر تستعيد عافيتها مرة أخرى وعادت بذور النهضة الثقافية والفكرية لتنبت نبتًا جديدًا، وإذا كانت تلك البدايات قد جاءت على أيدي رجالًا ينتمون إلى الجيل الذي شهد أحداث الاحتلال من أمثال الشيخ محمد عبده وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين ومصطفى كامل ومحمد فريد وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وسلامة حجازي، وقبلهم عبد الله نديم الذي رحل قبل بداية القرن بسنوات قليلة، فسرعان ما التحق بهم جيل جديد من الشبان الذين ولدوا بعد الاحتلال بسنوات، لقد كان سيد درويش أحد أبناء ذلك الجيل الذي حمل على كاهله عبء حلقة من حلقات نهضة مصر الحديثة، إنه الجيل الذي ولد أبناؤه في آواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن التاسع عشر، وبدأت مواهبهم تتفتح في العقدين الأولين من القرن العشرين، لكن انطلاقهم الحقيقي كان مع الثورة الشعبية الكبرى ثورة 1919، إنه الجيل الذي ضم طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل وسلامة موسى وأحمد أمين ثم توفيق الحكيم في الأدب والفكر، وبيرم التونسي وبديع خيري في الزجل وشعر العامية، ومختار وناجي وراغب عياد ويوسف كامل وأحمد صبري ومحمد حسن ومحمود سعيد في الفنون الجميلة، وكان سيد درويش هو علامة ذلك الجيل في الموسيقى والغناء.

 وقد تميز أبناء ذلك الجيل بأنهم نبغوا في مرحلة الشباب المبكر، فأغلبهم قدم إنجازًا مهمًا وهو بعد في العقد الثالث من عمره، كما أنهم عرفوا كيف يتمردون على الثوابت ويتجاوزوا الواقع متطلعين إلى المستقبل، فكانوا بذلك بناة نهضة حقيقية، ثم جاءت ثورة 1919 لتطلق أقصى طاقاتهم الإبداعية، حيث ارتبطوا بالثورة وبالحركة الوطنية المصرية وأصبحوا لسان حالها في الفن والأدب والثقافة، لقد حولتهم الثورة التي اندمجوا بمسيرتها إلى شموس في سماء الوطن، ومن بين هؤلاء كان سيد درويش أو فيردي مصر كما قال على نفسه، الذي كان صوت الثورة وأغنيتها وكان في ذات الوقت ثورة في النغم والغناء.

 
 "عندما ولد سيد درويش كانت الموسيقى المصرية والغناء فنًا للخاصة، وعندما مات كانت موسيقاه وألحانه تتردد في أنحاء البلاد ملكًا للعامة من أبناء الشعب كله... وعندما بدأ سيد درويش حياته الفنية كانت الموسيقى المصرية الغنائية لا تعرف غير الشجن والوجد والهيام، وعندما انتهت حياته كانت الموسيقى تغني للوطنية، وتعبر عن طوائف العمال، وتوحي بجو الريف وتسخر من الحكام الطغاة..."
 بهذه الكلمات البليغة لخصت أستاذة الموسيقى الراحلة الدكتورة سمحة الخولي إنجاز سيد درويش ومسيرته الإبداعية في مقال لها بعنوان: "وقفة تأمل في ذكرى سيد درويش" نشرته جريدة الجمهورية في مارس 1968 بمناسبة الذكرى السادسة والسبعين لميلاده، وبعد أقل من عام على هزيمة يونيو 1967، التي كان من بين آثارها الجانبية دفع المصريين للنظر مجددًا في الإنجاز الثقافي المهم لجيل الثورة المصرية، ثورة 1919، ذلك الإنجاز الذي جرى تهميشه بدرجات متفاوتة منذ سيطر نظام يوليو على مقدرات الحياة المصرية.

 وتشرح الدكتورة سمحة الخولي بالتفصيل دور سيد درويش في الموسيقى والغناء في مصر فتقول: "ولد سيد درويش في عصر لا يعرف في الموسيقى غير المغني الفرد، فيمجده ويقدسه ويخضع له الموسيقى، كما يخضع له البطانة الصغيرة التابعة له، وعندما مات كان قد أصّل غناء الثنائيات بأسلوب الحوار الغنائي، بل وطرق مجالًا أكثر صعوبة هو مجال الغناء الكورالي المتعدد الألحان... وقد توصل إلى هذا الغناء الكورالي بفطرته دون تعليم خاص في هذا المجال بالذات... إن سيد درويش ولد في عصر كان فيه الغناء فنًا أرستقراطيًا منعزلًا عن الغناء الشعبي، يستعلي عليه ويرفضه، ومات سيد درويش بعد أن حقق امتزاجًا خصبًا بين الموسيقا الفنية والشعبية، قرب بين فن الخاصة والعامة، ورفع صوت طوائف الشعب في الموسيقا..."
 ولا يقتصر التقييم الإيجابي لدور سيد درويش في الموسيقى والغناء في مصر على ما نردده نحن المصريين فقط، فها هو المستشرق إدوارد لويس في دراسة له عن سيد درويش يضمها كتاب "سيد درويش حياة نغم" من إعداد محمد علي حماد، والذي صدر في عام 1970، يقول لويس: "إن الشيخ سيد درويش بنبوغه وثقته بنفسه يعتبر مرحلة في هذا الانقلاب الهائل الشاق الذي يتمثل في النهضة العلمية للشعب المصري، فقد نفخ في موسيقى بلاده روحًا جديدة كل الجدة، واستطاع أن يرتفع بها إلى مستوى يتمكن المرء معه أن يعبر عن عواطفه ونزعاته بواسطتها..."

 لقد امتلك سيد درويش إحساسًا واعيًا بروح الشعب المصري، وعبر عن هموم البسطاء ومشاعرهم، وتوج حياته بالالتحام بثورة سنة 1919 وأصبح المعبر عنها وعن قيمها بالكلمة واللحن والأغنية، وربما كان سيد درويش ومختار من بين أبناء جيلهما، كما قال الناقد الراحل بدر الدين أبو غازي  في محاضرة له عن سيد درويش ومختار ألقاها في أتيله القاهرة بمناسبة الذكرى التسعين لميلاد سيد درويش سنة 1982، "هما الأكثر تعبيرًا في مجال الفنون عن الثورة المصرية وقيمها، والأبلغ في التعبير عن أبناء الشعب البسطاء صانعي الحضارة من فلاحين وحرفيين وعمال، والأقدر على استلهام أعمالهما من روح هذا الشعب وتراثه، وعلى حل إشكالية الأصالة والمعاصرة."
 لقد نجح سيد درويش في حياته القصيرة وحياته الفنية الأقصر أن يجسد الشعب المصري من خلال أغانيه، ونجح في أن يعبر عن المبادئ التي تكونت خلال نضال المصريين منذ أواخر القرن الثامن عشر وتبلورت في أجلى صورها مع ثورة 19، مبادئ الاستقلال الوطني والديمقراطية وبناء الدولة المدنية التي تقوم على أسس المواطنة، وحول هذه المبادئ إلى كلمات يتغنى بها الناس، ففي نشيد فليعش وطنا القريب جدًا في كلماته ولحنه من نشيد مصر القومي الذي أعده لاستقبال سعد، وكان قد كتبه ولحنه ليكون ضمن ألحان رواية كليوباترا ومارك أنطونيو إلا أن منيرة المهدية حذفته، يقول في مطلعه:
فليعش وطننا    وحدته أملنا              كلنا جميعا    للوطن ضحية
نجمع صليبنا    ويا هلالنا                  في حبك أنت  يا حرية
وفي لحن الكشافة المعروف بقوم يا مصري، ينشد:
حب جارك      قبل ما تحب الوجود
إيه نصارى     ومسلمين قال إية ويهود
دي العبارة      نسل واحد م الجدود


 وفي النشيد الوطني والذي أخذت عبارته الأولى من النشيد الخديوي الذي يعود إلى عصر إسماعيل تقول كلمات المقطع الأخير:
فلينزل غضب الشعب    على من يتصدى للوطنية
وتحيا مصر الاستقلال    وتحيا فيها القومية
 
لقد ظلت ذكرى سيد درويش خالدة بما قدمه لوطنه ولنهضة بلاده رغم رحيله المبكر والمفاجئ والذي عبر عنه صديق عمره ورفيق كفاحه بديع خيري في الذكرى الخامسة عشر لرحيله سنة 1938 بقصيدة مطلعها:
اللي زيك مش غريب كونه يموت      في بلد مالهاش من النابغ نصيب
ختها ما اعرفش ليه بين البخوت       لم نصفها يوم ملهم أو أديب
لو مثيلك من أيادي الموت يفوت        هو ده اللي كان بقى حادث عجيب
الحياة أشبه بخيط العنكبوت              والتراب يا ما كنوز جواه تغيب

 صحيح يا عم بديع "التراب يا ما كنوز جواه تغيب".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...