الثلاثاء، 9 سبتمبر 2014


حكاية الثورة التي هزمتها الخيانة
الثورة العرابية
عماد أبو غازي
 الثورة العرابية، أم الثورات المصرية في العصر الحديث، وأحد مشروعات النهضة الوطنية التي أنتكست تحت وطأة العدوان الخارجي. وفي وجدان الشعب المصري تعتبر الصورة الشهيرة للزعيم أحمد عرابي راكبًا على حصانه الأبيض ووراءه جنوده والشعب المصري في مواجهة الخديوي ووراءه ممثلي إنجلترا وفرنسا ورجال حاشيته التلخيص الموجز للثورة العرابية.  الثورة الوحيدة في تاريخ مصر الحديث التي نسبت لقائدها، وهذه الصورة صور فيها الفنان مظاهرة عابدين، ذروة الحدث الثوري.
 كانت مظاهرة عابدين الشهيرة في يوم 9 سبتمبر سنة 1881 نتاجا لنضال خاضه المصريون لسنوات طويلة سبقت ذلك الحدث، وكانت هناك ثلاثة أهداف أساسية لحركة الشعب المصري أخذت تتبلور تدريجيا خلال ما يقارب قرنا من الزمان؛ وهذه الأهداف الثلاثة هى: حق المصريين في المشاركة في حكم بلادهم، والتصدي للأطماع الأوروبية في مصر، وإنهاء التبعية للدولة العثمانية، هذه المحاور الثلاثة تكونت حولها الحركة الشعبية في مصر ونمت خلال القرن التاسع عشر، وشكلت مشروع النهضة المصرية الحديثة، وجاءت الثورة العرابية تتويجًا لمرحلة من مراحل هذا المشروع، مثلما كانت هزيمة الثورة أمام الجيوش البريطانية في موقعة التل الكبير نهاية لمرحلة من مراحل النضال الوطني في مصر وهزيمة للمشروع الأول للنهضة الحديثة.
فمتى بدأ هذا المشروع؟ وكيف تطور؟
 لقد بدأت البوادر الأولى لهذا المشروع في أواخر القرن الثامن عشر عندما تنامى شعور المصريين بضرورة مشاركتهم في حكم بلادهم، ويمكن أن نرصد هذه البداية في واقعة محددة حدثت قبل مقدم الحملة الفرنسية بسنوات قليلة وعلى وجه التحديد في عام 1795، أعني ثورة الأهالي ضد مظالم مراد بك وإبراهيم بك زعماء المماليك وأتباعهم حيث نجح المشايخ في إرغام الأميرين على توقيع وثيقة يتعهدان فيها بعدم فرض ضرائب جديدة إلا بعد الحصول على موافقة المشايخ كممثلين للشعب.
 ومع تصدي الشعب المصري للحملة الفرنسية ومقاومته لها زادت ثقة المصريين في أنفسهم وإحساسهم بقدرتهم على حماية وطنهم والمشاركة في حكمه، وتجلى ذلك عقب انسحاب الحملة بسنوات قليلة، فكانت ثورة 1805 التي فرض فيها المصريون على السلطان العثماني تعيين محمد علي باشا حاكما على مصر، وطوال القرن التاسع عشر تصاعد الإحساس بمفهوم الوطن في مواجهة الأطماع الأوروبية من ناحية وفي مواجهة السيطرة العثمانية على البلاد من ناحية أخرى، وساعد على نمو هذا الإحساس الانتصار على الحملة الإنجليزية سنة 1807، وظهور مشروع محمد علي لبناء دولة حديثة وما صحبه من بناء جيش حديث حقق في البداية انتصارات متوالية وكان عماده الأساسي من المصريين.
 لقد سقطت الحجة التي طالما أبعد بها المصريون عن المشاركة في السلطة، فبعد قرون طويلة من الحكم الأجنبي، ما بين احتلال سافر أو عناصر أجنبية تدير أمور البلاد وتسيطر على ثرواتها بحجة تحمل أعباء الدفاع عن البلاد، حمل المصريون السلاح، ومن هنا أصبح من حقهم أن يحكموا بلادهم، فالجنود المصريون الذين التحقوا بالجيش منذ عصر محمد علي وصار منهم ضباط في عصور خلفائه هم الذين انخرطوا في صفوف الحركة الوطنية التي تأججت في عصر إسماعيل، ثم قادوا ثورة 1881 التي نسبت إلى قائدها الزعيم أحمد عرابي، الذي قص علينا كيف تطور وعيه السياسي فقال:
 "إني دخلت العسكرية نفرًا بسيطًا في 15 ربيع أول سنة 1271 هجرية، وترقيت بسرعة غريبة جزاء ما بذلت من جهد عنيف حتى نلت رتبة قائمقام الآلاي في 24 صفر الخير سنة 1277 هجرية، وكانت تلك المدة عبارة عن ستة أعوام إلا عشرين يومًا هي أيام سعودي وخلو فكري من الأفكار الدنيوية، فقد كنت فيها عزيزًا مكرمًا عند حضرة محمد سعيد باشا، وكثيرًا ما كان يشركني معه في ترتيب المناورات الحربية، وينيبني عنه في تلقينها إلى أكابر الضباط بحضرته وعلى مسمع منه رحمه الله تعالى.
 ولشدة إعجابه بي أهداني (تاريخ نابليون بونابرت باللغة العربية طبع بيروت) وهو بادي الغيظ على أن تمكن الفرنساويون من التغلب على البلاد المصرية، والتحريض على وجوب حفظ الوطن من طمع الأجانب. ولما طالعت ذلك الكتاب شعرت بحاجة بلادنا إلى حكومة شورية دستورية فكان ذلك سببًا لمطالعتي كثيرًا من التواريخ الغربية".
سعيد باشا
 لقد ظهرت الدعوة لإقامة نظام نيابي تكون الحكومة مسئولة فيه أمام نواب الأمة المنتخبين، وأصبح الدستور مطلبًا عامًا، وصار شعار "مصر للمصريين" هدفا للنضال الوطني، وحول هذا الشعار تحدث أحمد عرابي في مذكراته المنشورة بعنوان "كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية" مؤكدا أن شعوره بالحاجة إلى حكم نيابي يسمح بمشاركة المصريين في إدارة أمور بلادهم قد تأصل لديه عندما سمع خطبة ألقاها سعيد باشا في مأدبة أقامها بقصر النيل للعلماء والرؤساء الروحانيين وأعضاء العائلة الحاكمة قال فيها:
 "أيها الأخوان أني نظرت في أحوال هذا الشعب المصري من حيث التاريخ فوجدته مظلوما مستعبدًا لغيره من أمم الأرض فقد توالت عليه دول ظالمة له كثيرة كالعرب الرعاة والأشوريين والفرس حتى أهل ليبيا والسودان واليونان والرومان، هذا قبل الإسلام وبعده تغلب على هذه البلاد كثير من الدول الفاتحة كالأمويين والعباسيين والفاطميين من العرب، ومن الترك والأكراد والشركس، وكثيرًا ما أغارت فرنسا عليها حتى احتلتها في أوائل هذا القرن في زمن بونابرت، وحيث أني أعتبر نفسي مصريًا؛ فوجب علي أن أربي أبناء هذا الشعب وأهذبه تهذيبًا حتى أجعله صالحًا لأن يخدم بلاده خدمة صحيحة نافعة وليستغنى بنفسه عن الأجانب، وقد وطدت نفسي على إبراز هذا الرأي من الفكر إلى العمل".
 لقد تجمعت أسباب عدة لصياغة مشروع النهضة المصرية في القرن التاسع عشر، ذلك المشروع الذي وصل إلى قمته في الثورة العرابية، فقد تضافرت كتابات رواد النهضة الفكرية وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي مع طموحات محمد علي وخلفائه في الاستقلال عن الدولة العثمانية مع الاستفزاز الذي شكلته الأطماع الأوروبية في مصر، وتواكب ذلك مع ظهور قاعدة من المتعلمين في المدارس العليا التي أنشئت في عصر محمد علي، ومن الضباط الوطنيين، ومن ملاك الأراضي أو الأعيان بلغة ذلك العصر، وأصبح هناك مشروع متكامل لبناء مصر جديدة، وظهر بوضوح مفهوم الأمة الذي يقوم على أساس المواطنة والمساواة بغض النظر عن اختلاف الدين، وكانت اللائحة الوطنية هى التعبير السياسي عن تلك النهضة الجديدة التي عمت البلاد وبلغت ذروتها في أواخر أيام الخديو إسماعيل.
 ففي خلال السنوات الأخيرة من حكم إسماعيل تصاعد الوعي الوطني واستفز التدخل الأوروبي في شئون مصر المشاعر الوطنية، خاصة بعد أن أعد السير ريفرس ويلسون الوزير البريطاني في الحكومة المصرية مشروعًا لإعلان إفلاس مصر، وكان عجز الحكومة عن مواجهة الموقف دافعًا لمجموعة من الوطنيين المصريين لعقد عدة اجتماعات أسفرت عن إصدار "اللائحة الوطنية" التي تعتبر واحدة من أهم الوثائق السياسية في تاريخ مصر الحديث، قد تم تصدير اللائحة الوطنية بإعلان وقع عليه أكثر من أربعين من قادة الرأي في مصر في ذلك الوقت، كان من بينهم بعض رجال الخديو إسماعيل المقربين، الأمر الذي فسره بعض المؤرخين على أنه تأييد من إسماعيل للاتجاه الداعي إلى إرساء قواعد النظام النيابي في مصر كمحاولة أخيرة للتخلص من النفوذ الأجنبي.
 وقد سارع إسماعيل باشا بالفعل إلى قبول اللائحة الوطنية وتكليف شريف باشا بتشكيل الوزارة الوطنية في إبريل 1879، الأمر الذي لم تحتمله الدول الأوروبية خاصة بريطانيا وفرنسا فسعت لدى السلطان العثماني للإطاحة بإسماعيل وتعيين ابنه توفيق محله.

توفيق                        إسماعيل
 لقد كانت مصر في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن التاسع عشر من 1876 إلى 1882 بلدًا يموج بالحركة والفوران، الحركة الوطنية الساعية إلى تحقيق نظام نيابي دستوري وإنهاء التدخل الأجنبي تصل إلى أوجها، الحاكم الشرعي للبلاد يعزل من منصبه بضغوط أوروبية، والمؤامرات الدولية تحاك من أجل السيطرة على مصر. في هذه الظروف دفعت تطورات الصراع السياسي في مصر بالضابط أحمد عرابي الحسيني الذي كان في الأربعين من عمره إلى صدارة الأحداث ليصبح زعيمًا للثورة وزعيمًا للحزب الوطني الذي كان يناهض سيطرة الجراكسة والتدخل الأجنبي والتبعية للعثمانيين، بل ليصبح زعيمًا للأمة كلها.
 
 لقد اصطدمت الثورة العرابية بالأطماع الأوروبية التي كانت أقوى من قدرات العرابيين على مواجهتها فانتهى الأمر إلى الهزيمة المريرة في موقعه التل الكبير، لقد بدأ الصدام بين عرابي والخديوي توفيق في أوائل عام 1881 عندما تم استدعاء أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي إلى مقر ديوان الجهادية بقصر النيل بدعوى الإعداد لزفاف إحدى الأميرات، وكان السبب الحقيقي للاستدعاء هو أن رياض باشا رئيس مجلس النظار كان قد أصدر أمرًا باعتقال عرابي وزميليه وتقديمهم لمجلس عسكري عاجل تم تشكيله يوم 30 يناير سنة 1881، وكانت النية مبيته لإصدار حكم بتجريدهم من رتبهم ونياشينهم ردًا على المذكرة التي رفعها عرابي إلى رياض باشا وطالب فيها بعزل عثمان رفقي ناظر الجهادية بسبب تعصبه للجراكسة واضطهاده للضباط المصريين. والطريف في الأمر، أن زوجة رياض باشا رئيس النظار ـ وكانت مصرية ـ فضحت المؤامرة وكشفتها للعرابيين فتأهبوا لمواجهة الموقف.
 
 وعندما تأكد لضباط كتيبة الحرس الخديوي والتي كانت تسمى الآلاي الأول أن أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي رهن الاعتقال، وأن المجلس العسكري منعقد لمحاكمتهم، قام البكباشي محمد عبيد أحد ضباط الآلاي بتحريض جنوده للزحف على قصر النيل لإطلاق سراح عرابي ورفيقيه. ولم تجد جهود قائمقام الآلاي خورشيد بك ولا تهديدات الفريق راشد باشا حسني ياور الخديوي في إثناء محمد عبيد عما عقد العزم عليه، بل إن محمد عبيد رفض استدعاء الخديوي له، وخرج محمد عبيد من قشلاق عابدين على رأس جنود الآلاي الأول متوجها إلى قصر النيل، وحاصر مبنى ديوان الجهادية، ثم أقتحم الأبواب الأمر الذي أدى إلى توقف اجتماع المجلس العسكري المنعقد لمحاكمة عرابي وزميليه، وقد سجل محضر اجتماع المجلس تلك الواقعة بالصورة التالية:    
 "وانقطع انعقاد الجلسة بسبب عصيان حربي من الفرقة الأولى من المشاة وأحدثت فصيلة من الضباط والعساكر ضجة في الوزارة أوقفت كل الأعمال..."
 

محمد عبيد
 وهكذا نجح محمد عبيد في تحرير عرابي ورفيقيه، فكانت هذه هي بداية وقائع الثورة العرابية، وتم عزل عثمان رفقي باشا وتعيين محمود سامي البارودي المعروف بميوله الوطنية ناظرًا للجهادية بدلًا منه، وكان هذا أول انتصار للثورة.
محمود سامي البارودي
 وفي الشهور القليلة التالية تصاعدت الأحداث بسرعة، وتبنى الضباط مطالب الأمة ولم يعد موقفهم قاصرًا على مطالبهم الفئوية داخل الجيش، ونظارة الجهادية. وفي المقابل حاول الخديوي توفيق وحكومته إرضاء الضباط بقدر الإمكان، فقدموا لهم تنازلًا تلو تنازل فيما يتعلق بتنظيم الجيش وأموره.
ويحدد عرابي باشا في مذكراته التي دونها بعد عودته من المنفى المطالب العامة التي تبناها في تلك الأشهر من عام 1881، فيقول:
 "إننا لا نريد إلا الإصلاح وإقامة العدل على قاعدة الحرية والإخاء والمساواة، وذلك لا يتم إلا بإنشاء مجلس النواب وإيجاده فعلًا..."
 وعندما أدرك الخديوي أن مطالب العرابيين تجاوزت حدود إصلاح أمور الجيش إلى المطالبة مع كل الوطنيين المصريين بإصلاح أمور الوطن، بدأ يخطط لإجهاض الحركة العرابية، فانتبه عرابي وزملاؤه إلى مؤامرات الخديوي، وعقدوا العزم على أخذ زمام المبادرة، فكانت مظاهرة عابدين يوم 9 سبتمبر سنة 1881 والتي تحرك فيه عرابي على رأس كل فرق الجيش المرابطة بالقاهرة ليرفعوا مطالب الأمة إلى الخديوي.
 
 وقد تركزت هذه المطالب في إسقاط الوزارة، وتأليف المجلس النيابي، وزيادة عدد الجيش، وعندما فشل الخديوي في منع المظاهرة أضطر مرغما إلى قبول كافة المطالب الوطنية.
 
 ورغم نجاح الثورة العرابية في تلك المرحلة إلا أن مؤامرات الخديوي وأعوانه من ناحية، ومؤامرات الدول الأوروبية من ناحية أخرى، لم تتوقف على الإطلاق للقضاء على تلك النهضة الوطنية.
 وبدأت تقارير الأمن في مصر تشير إلى نية العرابيين في عزل الخديوي وإعلان الجمهورية، ومما ورد في هذه التقارير نقتطف الفقرة التالية:
 "الإشاعات العمومية مقتضاها أن عزل الخديوي متفق عليه، وإنه في هذا الأسبوع يصدر قرار نواب الأمة المصرية بذلك، ولقد ذهب بعض الناس إلى أنه بعد عزل الخديوي ستطلب الأهالي تنصيب حكومة جمهورية ويكون رئيسها سعادة أحمد باشا عرابي، وقال بعض الناس أن مساعي الباب العالي ستكون في تنصيب عباس بك نجل الخديوي مع تعيين قايمقام لينوب عنه في الوزارة، والبعض قال أن الدول متحدة في إعادة الخديوي السابق ماعدا فرنسا، وآخر قال أن البرنس حليم هو الذي سيتعين للخديوية المصرية..."
 لقد دفعت هذه الشائعات توفيق إلى إلقاء كل أوراقه في أيدي القوى الأوروبية، فتآمر مع الإنجليز على غزو مصر لتثبيته على كرسي الحكم والقضاء على العرابيين.
 وفي صيف سنة 1882 بدأ تنفيذ الخطة البريطانية لاحتلال مصر، بعد أن زالت آخر العقبات أمامها وهى المعارضة الفرنسية، وكان ثمن سكوت فرنسا على احتلال بريطانيا لمصر تغاضي إنجلترا في المقابل عن الاحتلال الفرنسي لتونس.
 وفي يوليو 1882 ضربت السفن البريطانية الإسكندرية وتمكنت من احتلال المدينة التي كان الخديوي يقيم بها في ساعات قليلة، وكان الموقف حرجًا على كل المستويات فانسحب الجيش المصري من المدينة وأعاد بناء تحصيناته المتبقية عند كفر الدوار.
أما الموقف المالي للعرابيين فقد كان شديد الحرج ويقول عرابي في مذكراته:
 "لم يكن في خزينة الحكومة مال ما، لأن السير كلفن المراقب المالي الإنجليزي أخذ الأموال الموجودة في خزانة المالية وأنزلها بالأسطول الإنجليزي قبل إعلان الحرب بأيام، وكذلك الأموال الموجودة بصندوق الدين حملها أعضاء القومسيون إلى السفن الحربية بالإسكندرية... فكان علي أن أسعى لتدبير الأموال اللازمة لمواجهة أعباء المعركة فأصدرت قرارا بجمع مبلغ عشرة قروش عن كل فدان زراعي على أن تخصم من ضرائب الأطيان، كما دعوت القادرين إلى التبرع..."
 وقد كانت الاستجابة رائعة لدعوة عرابي فيذكر جون نينيه رئيس الجالية السويسرية في مصر في كتابه عن عرابي أنه:
 "في كل يوم كانت ترد إلى معسكر الجيش في كفر الدوار إعانات الأهلين من النقود والقمح والشعير والحبوب والسمن والخضر والفاكهة والخيول والمواشي وقد أبدى أعيان الوجه البحري والوجه القبلي أريحية كبيرة في التبرع للجيش وفي مقدمتهم أحمد بك المنشاوي زعيم طنطا الوطني...."
 ويذكر عرابي في مذكراته:
 "إن موسى بك مزار تبرع بألف وثلاثمائة ثوب بفتة وثلاثين عجل بقر...وإن بعض الأهالي تبرع بنصف ما يمتلك من الغلال والمواشي وإن منهم من خرج عن جميع ما يمتلكه ومن قدم أولاده للدفاع عن الوطن العزيز لعدم قدرته على القتال بنفسه...."
 وقد كانت الاستجابة رائعة لدعوة عرابي من كافة فئات الأمة كما تكشف مذكرات عرابي عن الدور المهم الذي لعبته نساء مصر في المعركة وفي مقدمتهم سيدات أسرة محمد علي... "فقد تبرعت الوالدة باشا أم الخديوي المعزول إسماعيل بجميع خيول عرباتها، واقتدت بها سيدات العائلة الخديوية وكثير من زوجات الباشاوات كحرم خيري باشا رئيس الديوان الخديوي وحرم رياض باشا رئيس النظار السابق، وكثير من الذوات والسيدات اللاتي قدمن الأقمصة والأربطة اللازمة للجرحى..."
 وكان تكاتف الأمة بكل طبقاتها وفئاتها باستثناء حفنة قليلة من أتباع الخديوي والمتواطئين مع الإنجليز، وراء صمود الجيش المصري في مواجهة الإنجليز في الجبهة الشمالية الغربية، ونجحت التحصينات المصرية في صد تقدم الجيش البريطاني عند كفر الدوار، فلجأ إلى الالتفاف من الشرق من قناة السويس، وكان فرديناند دليسبس رئيس شركة قناة السويس قد وعد عرابي بأنه لن يسمح للسفن البريطانية بالمرور عبر القناة، لكنه لم يفي بوعده بالطبع، فكانت موقعة التل الكبير التي انتهت بهزيمة الجيش المصري في 13 سبتمبر، وشهدت معركة التل الكبير خيانة بعض الضبط لعرابي، فنجح الجنرال ولسلي في هزيمته، وردد المصريون مقولتهم الشهيرة:
 "الولس هزم عرابي"
 والولس هو ولسلي لكنه في ذات الوقت الولس بمعنى الخيانة.
 
 وفي يوم 14 سبتمبر دخل الإنجليز القاهرة ونجحوا فيما فشلوا فيه عام 1807، ليدوم وجودهم العسكري في البلاد 74 سنة.
 
 فما المحصلة النهائية للثورة؟
 لقد اصطدمت الثورة العرابية بالأطماع الأوروبية التي كانت أقوى من قدرات عرابي على مواجهته فانتهى الأمر إلى الهزيمة المريرة، وبغض النظر عن نتيجة معركة التل الكبير وما أعقبها من احتلال أجنبي دام أكثر من سبعين عاما، فقد كان عرابي زعيمًا ساقته الأقدار لمواجهة قوى عاتية، والتفت حوله قلوب الأمة وتصدى بشجاعة لقيادتها في ظروف صعبة، وستظل له مكانته في وجدان المصريين وسيبقى له شرف المحاولة والسعي لإنجاز مشروع النهضة الوطنية في مصر في القرن التاسع عشر.    
عرابي في سنواته الأخيرة بعد عودته من المنفى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...