السبت، 13 سبتمبر 2014


 في ذكرى هزيمة الثورة العرابية

ثورات لم تكتمل في تاريخ المصريين

عماد أبو غازي

 كثيرًا ما يتردد أن الشعب المصري شعب مسالم راضٍ بقليلة لا يحتج أبدًا، يتقبل سيطرة الغازي الأجنبي ولا يقاومه، يمجد من يحكمه ولا يثور عليه، أو كما قيل "وهي لمن حكم"، مقولة رددها كثيرون ممن جاءوا إلى مصر رحالة ومؤرخين وغزاة: من هيردوت إلى كرومر مرورًا بعمرو بن العاص والمقريزي، لكن هل هذه حقيقة المصريين؟ وهل تاريخنا الطويل يعزز هذه المقولات أم ينفيها ويدحضها؟

 الحقيقة أن تاريخ مصر الطويل وتاريخ المصريين ليس إلا تاريخ من المقاومة والثورة والاحتجاج، فالفلاح المصري الذي بنى حضارة من أعرق الحضارات في التاريخ، هو نفسه الفلاح المقاوم، الفلاح المقاتل، الفلاح الثائر، الفلاح المحتج، لكن مشكلة ثورات المصريين عبر العصور أن كثير منها ثورات ناقصة، ثورات لم تكتمل، وهذه هي المعضلة الأساسية للتاريخ المصري.
 ولو نظرنا إلى تاريخنا القريب في القرنين الأخيرين نكتشف أنه تاريخ من الثورة وحركات الاحتجاج والتمرد، إلا قليل، لكنها غالبًا كانت ثورات غير مكتملة، ثورات مخطوفة، منذ "ثورة" يوليو ١٧٩٥ إلى ثورة يناير ٢٠١١. 

 أول حركة احتجاج كبرى للمصريين في العصر الحديث، كانت في يوليو ١٧٩٥؛ انتفاضة شعبية دعمها وساندها، أو ربما حركها، عدد من كبار مشايخ الأزهر في مقدمتهم الشيخ الشرقاوي، خرج فيها المصريون يتظاهرون في الشوارع ضد طغيان الأمير إبراهيم بك شيخ البلد وحليفه الأمير مراد بك، كبيرا أمراء المماليك اللذان كانا يعدان الحاكمين الفعليين للبلاد، وضد تعديهم على الجرايات والأوقاف، وضد الزيادات في الضرائب والجبايات التي فرضاها على المصريين، لقد نجحت انتفاضة المصريين سنة ١٧٩٥ في إرغام الأميرين الكبيرين على التوقيع على حجة شرعية يتعهدان فيها بالاستجابة للمطالب الشعبية وبعدم فرض ضرائب جديدة أو اتخاذ إجراءات تمس بالأوقاف وجرايات المشايخ والطلاب والصوفية دون الرجوع لكبار المشايخ باعتبارهم ممثلين للناس؛ لكن إبراهيم بك ومراد بك سرعان ما عدا إلى سيرتهما القديمة.

 
مراد بك
 
وعندما جاءت الحملة الفرنسية لمصر سنة ١٧٩٨ هب المصريون للدفاع عن بلدهم في مواجهة الغزاة الأجانب، وقضت الحملة ثلاث سنوات شهدت ثورتين كبيرتين بالقاهرة ومقاومة شعبية مستمرة منذ وطأت أقدام جنود الحملة الإسكندرية حتى غادروا البلاد سنة ١٨٠١، كانت المقاومة الشعبية ضارية في الدلتا كما شارك المصريون المماليك في المقاومة في الصعيد، وذلك من أجل تحرير بلدهم.

ثورة القاهرة الأولى 
 سقط آلاف الشهداء خلال الثورات وحركات المقاومة وخرج الفرنسيون لكن المصريين لم يستردوا بلدهم بل عادت إلى أيدي السلطان العثماني الذي لم يلعب جيشه دورًا يذكر في محاربة الحملة قياسًا على ما قام به المصريون، وأكثر من ذلك تعاملت الدولة العثمانية مع مصر باعتبارها بلدًا تم فتحها من جديد.
 شهدت السنوات الأربع التي تلت خروج الحملة حالة من الانتفاضة الشعبية المستمرة ضد الباشوات العثمانيين وضد بكوات المماليك، لم يترك المصريون هؤلاء أو أولئك يهنئون بحكم مصر، تبدل على مصر خمس باشاوات في أربع سنوات.
 
 وانتهت هذه السنوات بالثورة الشعبية الكبرى التي قامت في مايو ١٨٠٥ بقيادة السيد عمر مكرم، لتسقط الباشا العثماني وترغمه على الرحيل وترغم السلطان في إسطنبول على إصدار فرمانًا بعزله، لكن الثوار المصريون لم يسلموا حكم بلدهم لواحد من قادتهم، بل أتوا بمحمد علي أحد قادة العسكر حاكمًا على مصر، واشترطوا عليه شروطًا سرعان ما نقضها شرطًا شرطًا، وتخلص من قادة الثورة واحدًا واحدًا بالنفي أو القتل أو  تشويه السمعة، وساعده على ذلك الانقسامات بين قادة الثورة، والأطماع الشخصية لبعضهم، وما حملوه من ضغينة لقائد الثورة الحقيقي وزعيمها الأكثر شعبية السيد عمر مكرم.


السادات وعمر مكرم والشرقاوي
 لقد أتت الثورة بقائد العسكر محمد علي ليستقر في حكم مصر لفترة هي الأطول لأي من حكام مصر في العصرين الحديث والوسيط، بل لم يتفوق عليه في امتداد سنوات الحكم إلا قليل من حكام مصر القديمة مثل بيبي الثاني ورمسيس الثاني، استمر محمد علي حاكمًا لمصر لأكثر من أربعين عامًا غير فيها وجه مصر وبنى مشروعًا للتحديث، لكنه تحديث على حساب المصريين، فوق جثث عشرات الآلاف منهم، فضلًا عن أنه تحديث منقوص وشائه. 
 
 

 خلال عصر محمد علي قامت عدة هبات شعبية كانت أخطرها ثورة الشيخ رضوان في عشرينيات القرن التاسع عشر، لكن محمد علي واجهها كلها بعنف وقوة وقضى عليها.

 الثورة الكبرى التالية في تاريخ مصر الحديث بعد ثورة ١٨٠٥ كانت الثورة العرابية عام ١٨٨١ وهي نتاج حراك سياسي واجتماعي استمر لأكثر من عشر سنوات في عهد الخديوي إسماعيل ثم ابنه توفيق، نجحت الحركة الوطنية المصرية خلال هذا الحراك في أن تنتزع برلمانًا ولائحة أقرب ما تكون إلى الدستور ومشاركة حقيقية في حكم البلاد، وجاءت الثورة العربية تتويجًا لهذا النضال وتعبيرًا عن التحام المجموعات السياسية الوطنية بالوطنيين من رجال الجيش، لكن الثورة العرابية رغم ما حققته من نجاحات في الأشهر الأولى من قيامها لم تكمل أهدافها، بل انتهت إلى هزيمة هي الأسوأ في تاريخ الثورات المصرية الحديثة، انتهت بعد عام وخمسة أيام من قيامها والقوات البريطانية تحتل مصر وتدخل إلى القاهرة، وقادة الثورة يحاكمون وينفون خارج البلاد وتصادر أملاكهم، لقد تردد العرابيون في عزل الخديوي وإعلان الجمهورية فضاعت الثورة، وتعرضوا لمؤامرات تشويههم بين المصريين وفي الخارج، وخانهم البعض، وفشلوا في معركتهم العسكرية، لينتهي الأمر بمصر تحت الاحتلال لأكثر من سبعين سنة وبزعمائها مشتتين في المنافي.



 رغم الهزيمة القاسية للثورة العرابية لكن  مواجهة الاحتلال بدأت فورًا في شكل مجموعات سرية صغيرة تعرضت للملاحقة المستمرة، استمرت جذوة المقاومة تحت الرماد لتعود نار الاحتجاج لتتصاعد تدريجيًا مع تسعينيات القرن التاسع عشر وتتحول إلى حركة وطنية جارفة مع العقد الأول من القرن العشرين حركة تطالب بالجلاء التام والدستور، كانت هذه الحركة التي استمرت حتى قيام الحرب العالمية الأولى هي التي مهدت لثورة ١٩١٩ أكبر الثورات الشعبية المصرية في القرن العشرين.

 ثورة ١٩١٩ أيضاً نموذج للثورة غير المكتملة، بسبب الانقسام السريع لقوى الثورة، حقاً لقد نجحت ثورة ١٩١٩ في تحقيق هدفها المباشر الذي تفجرت من أجله، أعني الإفراج عن سعد وزملائه وعودتهم من المنفى والسماح لهم بالسفر إلى مؤتمر الصلح، وللمصريين عمومًا بالتنقل والسفر، لكن الهدف البعيد للحركة الوطنية: الاستقلال والدستور، لم يتحقق بالكامل، حصلت مصر على استقلال منقوص بتصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢ وعلى دستور رغم ما فيه من جوانب إيجابية لا يعبر عن كل طموحات الأمة؛ لتبدأ مرحلة جديدة من النضال البرلماني تتخلله انتفاضات شعبية عارمة كلما تعدى الملك على الدستور أو تعنتت إنجلترا في مفاوضات الجلاء، وأهم الانتفاضات التي شهدتها مصر في هذه المرحلة كانت ثورة الشباب في سنة ١٩٣٥، والحركة العمالية الطلابية في ١٩٤٦ و١٩٤٧.
 
 الحركة الأولى أعادت دستور ٢٣ ودفعت الأحزاب السياسية إلى التآلف في جبهة وطنية نجحت في توقيع معاهدة٣٦ مع انجلترا وإنهاء الامتيازات الأجنبية في مصر، وربما كانت ثورة الشباب في سنة٣٥ من أنجح الثورات من حيث تحقيق أهدافها المباشرة، والحركة الثانية في الأربعينيات نجحت في منع إسماعيل صدقي من توقيع اتفاقية جديدة مع إنجلترا لا تحقق طموحات المصريين، ودفعت حكومة النقراشي الأخيرة لتدويل القضية المصرية وعرضها على مجلس الأمن، لقد قادت حركات الاحتجاج في هذه الحقبة إلى قيام الزعيم مصطفى النحاس بإلغاء معاهدة ٣٦ في أكتوبر ١٩٥١ ليبدأ الكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني في القناة، ولتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ ثورات المصريين قضى عليها حريق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢ دون أن تحقق أهدافها.
 
 وبعد انتصار الدولة الاستبدادية في ١٩٥٤ تراجعت حركات الاحتجاج الكبرى حتى عادت لتتفجر من جديد في أعقاب هزيمة ٦٧ واستمرت لعشر سنوات كاملة بداية بالاحتجاجات العمالية والطلابية في فبراير ٦٨ وانتهاء بانتفاضة ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧ الشعبية، التي ختمت حقبة من التحركات الجماهيرية الكبرى انتهت هي الأخرى دون أن تكمل أهدافها.
 
 فهل نحن شعب قدره أن يثور ويضحي دون أن يكمل ثورته؟ هل نحن شعب الثورات الناقصة؟

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...