الجمعة، 5 سبتمبر 2014


 
إيمحوتب: الرجل الذي أبتكر البناء بالأحجار

عماد أبو غازي
 نعود اليوم إلى مدينة أونو  في الألف الثالثة قبل الميلاد لنتعرف على واحد من بناة الحضارة المصرية العريقة، في هذه المدينة نشأ البناء العظيم إيمحوتب وتعلم الحكمة في معابد مدينة الشمس، وصار رئيسًا للكهنة وكبيرًا للعرافين المستبصرين في عاصمة العلوم بالعالم القديم، ومدينة أونو أو عين شمس ـ كما نعرفها اليوم ـ واحدة من أقدم المدن المصرية التي شيدت بالقرب من موضع التقاء الوادي بالدلتا، وفي تلك المدينة العريقة نشأت أهم المعتقدات الدينية المصرية القديمة وظهرت عبادة الشمس وأساطير خلق الكون عند المصريين القدماء، حقق كهنة عين شمس نبوغًا مبكرًا في علوم الفلك والرياضيات والطب إلى جانب ما حققوه من إنجاز في مجال العقائد الدينية، وكانت أونو أو عين شمس بما حققته من سبق حضاري عاصمة للعلوم والفنون في العالم القديم، الأمر الذي جعل منها قبلة ومقصدًا لطلاب العلم والمعرفة من مختلف أرجاء الدنيا لقرون طويلة.

إيمحوتب
 كان إيمحوتب كبيرًا لكهنة عين شمس في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد، في عصر جسر ثاني ملوك الأسرة الثالثة، لقد حكمت الأسرة الثالثة مصر ما بين سنتي 2635 و2561 قبل الميلاد، ويعتبر عصر هذه الأسرة بداية للفترة التي تعرف بالدولة القديمة في التاريخ المصري، وقد انتقل الحكم من الأسرة الثانية إلى الأسرة الثالثة انتقالًا سلميًا، ويعتقد علماء المصريات أنه كانت هناك روابط عائلية تجمع ما بين ملوك الأسرتين، وكانت مدينة منف ـ بمحافظة الجيزة الحالية ـ هي مقر الحكم في عصر تلك الأسرة التي تحققت على يديها تطورات مهمة في مسيرة الحضارة المصرية، فخلال ذلك العصر تحددت حدود مصر الشرقية والجنوبية بشكل واضح، فأصبحت شبه جزيرة سيناء جزءًا لا يتجزأ من البلاد، كما صارت النوبة كذلك حدًا جنوبيًا لمصر، وخلال ذلك العصر تطور الفن الحربي في مصر بشكل واضح، كما تطورت الإدارة الحكومية وجهاز جباية الضرائب في البلاد، وعرفت البلاد انتقالًا حضاريًا مهمًا عندما حل استخدام الأحجار في البناء محل الطين والآجر والأخشاب، أو احتل مكانًا بارزًا إلى جانب تلك المواد، وقد حدث هذا التطور في عصر ثاني ملوك الأسرة الثالثة جسر المعروف لدينا باسم زوسر صاحب الهرم المدرج بسقارة؛ وقد تحقق هذا الإنجاز الحضاري على يد المعماري والوزير إيمحوتب في أواخر القرن السابع والعشرين قبل الميلاد.

الملك جسر (زوسر)
 لقد كان إيمحوتب مهندسًا معماريًا بارعًا أختاره الملك جسر للإشراف على بناء مجموعته الجنائزية الضخمة في سقارة، وتتكون هذه المجموعة من مقبرة ملكية على شكل سلسلة من الأنفاق الضخمة تحت الأرض، تضم عدة ممرات وقاعات متشابكة، يعلوها جميعا هرم من ست درجات، إنه هذا الهرم الذي كان لا يزال شامخًا إلى وقت قريب ويتعرض الآن حسب التقارير الصحفية المنشورة في الأيام القليلة الماضية لتهديدات خطيرة، ونعرفه باسم هرم سقارة المدرج أو هرم زوسر ويبلغ ارتفاعه ستين مترًا، ويحيط بالهرم والمقبرة مجموعة من المعابد يحيط بها جميعًا حرم يحده سور يبلغ محيطه 1600 متر، وتعتبر هذه المجموعة الجنائزية التي أبدعها وأشرف علي تنفيذها إيمحوتب طفرة في العمارة المصرية القديمة بكل المعايير، بل طفرة في فنون المعمار على وجه الأرض.

 
فما قيمة هذه المجموعة الجنائزية؟
 تكتسب هذه المجموعة الجنائزية قيمتها الأساسية من إنها أول مباني معروفة لنا شيدت باستخدام الأحجار في مصر بل وربما في العالم كله، فقد كانت المواد الأساسية المستخدمة في البناء قبل ذلك هي الطوب اللبن المصنوع من طمي النيل والبوص الذي كان ينمو بشكل طبيعي على ضفاف النيل وفي مستنقعات شمال الدلتا أو جذوع النخيل وجذوع الأشجار، وكلها مباني كان من الصعب أن تعيش طويلًا، فجاء الإنجاز المعماري لإيمحوتب في هذه الفترة المبكرة ليحقق الخلود للحضارة المصرية القديمة كذلك فهذه المجموعة الجنائزية التي أختار لها إيمحوتب منطقة مرتفعة عند سقارة تطل على مدينة منف بالقرب من مدافن ملوك الأسرتين الأولى والثانية شكلت تطورًا في الشكل المعماري للمقبرة، فقد طور إيموحتب المصطبة التي كانت تعلو مقابر الملوك في الأسرتين الأولى والثانية إلى شكل المصاطب الستة المدرجة التي تأخذ الشكل الهرمي، وكانت هذه هي البداية لمرحلة جديدة في تشييد المقابر أخذت بعدها مقابر ملوك الدولة القديمة والوسطى شكل الأهرام المعروفة وأكبرها بالطبع هرم خوفو بالجيزة.

 وقد حفظت الأجيال المتعاقبة من المصريين لإيمحوتب فضل ريادته في فن المعمار وفي الطب كذلك؛ فقدسوه ورفعوه إلى مصاف الآلهة، حيث جعلوا له نسبًا إلهيًا واعتبروه ابنًا للإله بتاح رب كل الصناعات والفنون، وكان ذلك في زمن الأسرة السادسة والعشرين، أي بعد مرور ما يقرب من ألفي سنه على رحيل إيمحوتب، وقد شيدت للرجل المقاصير في أرجاء البلاد، خاصة في واست ـ الأقصر الحالية ـ وكان الناس يتبركون بزيارة تلك المقاصير ويلتمسون فيها الشفاء من أمراضهم، وتشير الدراسات إلى أن الإغريق قد اعتبروا إيمحوتب إلهًا للطب وشبهوه بأسكليبو  إله الطب عندهم.

 وتشير كثير من الدراسات حول إيمحوتب إلى أنه نبغ في الطب مثلما نبغ في الهندسة والمعمار، وهذا أمر طبيعي فقد كانت ممارسة الطب من اختصاص الكهنة في العصور القديمة، ومن الغريب أن تأثير إيمحوتب على الأجيال التالية لم يقف عند حد تقديسه والتبرك بزيارة مقاصيره، بل وصل الأمر إلى حد أن المصريين ظلوا  لعصور طويلة تالية ينسبون تصميم معابدهم وتشييدها إلى أيمحوتب بعد وفاته بقرون طويلة، فاختلطت بذلك الأسطورة بالحقيقة في سيرة إيمحوتب وفي تصورات المصريين عنه.
 وفي عصر البطالمة دونت قصة المجاعة التي اكتشفت إلى الجنوب من أسوان، والتي نسبت وقائعها إلى عصر الملك جسر، وأشير فيها إلى أيمحوتب باعتباره مصدرًا للنبؤة التي تتحدث عن نهاية القحط وجاء فيها:

 "السنة الثامنة عشر من عهد ملك الوجه القبلي والوجه البحري حور الذهبي جسر، إن هذا المرسوم الملكي لأجل أن تكون على علم بأنني كنت في حزن على عرشي العظيم، وإن أولئك الذين كانوا في قصري كانوا في أسى وقلبي كان في غم شديد، لأن الفيضان لم يأت في ميقاته مدة سبع سنوات، فكانت الغلة قليلة، إذ قد يبست الحبوب، وكل ما كان يؤكل كانت كميته قليلة، وكل إنسان كان مصابًا في دخله، وأصبح الفرد غير قادر على المشي، وكان الطفل يبكي، والشاب أصابه الوهن، وقلوب المسنين في حزن، فكانت أرجلهم مطوية قعودًا على الأرض، حتى رجال البلاط كانوا في حاجة، وكانت المعابد موصدة والمحاريب يخيم عليها التراب، وكان جميع ما هو كائن في حزن... لذلك حبب إلي أن أعود إلى الماضي، فسألت رجلًا من موظفي الإله تحوت وهو رئيس الكهنة المرتلين إيمحوتب بن بتاح، في أي مكان ولد النيل؟ وأي إله يسكن هناك ليساعدني؟ فقال: سأذهب إلى محراب الإله تحوت، وسأدخل قاعة السجلات، وسأتصفح الكتب القديمة، وسأسير على هديها، وعلى ذلك ذهب ثم عاد نحوي في لحظة، وأعلمني بفيضان النيل، وقد صرح لي بما يأتي: توجد مدينة في وسط الماء، والنيل يحيط بها واسمها إلفنتين، وهى بداية البداية، وهى مرتفع أرضي ومرتفع سماوي، إنها عرش رع عندما يقرر إرسال الحياة لكل إنسان، وحلاوة الحياة هو أسم مائها، أنها قاعة الولادة حيث يولد النيل، وإن النيل سوف يعود إلى شبابه في ميقاته ويمنح البلاد قاطبة الخصب والحياة."

هناك تعليق واحد:

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...