الأربعاء، 10 سبتمبر 2014


كل توت ومصر طيبة وإحنا طيبين

عماد أبو غازي
 كل سنة وأنتم طيبين الخميس 11 سبتمبر هيوافق اليوم الأول من شهر توت أول شهور السنة المصرية، واللي بنسميه عيد النيروز، كان العيد ده دايما من أهم الأعياد اللي بيحتفل بها كل المصريين عشان ارتباطه بالنيل مصدر الحياة في مصر، والمصريين ابتدوا تقويمهم سنة 4241 قبل الميلاد، يعني إحنا السنة دي هنبتدي سنة 6256 مصرية، أجددنا سموا الشهور على أسامي الآلهة، وشهر توت متاخد من تحوت إله الحكمة ورب القلم اللي اخترع الكتابة وقسم الزمن في اعتقاد جدودنا المصريين زمان، وتحور الاسم في اللغة القبطية وبقي توت.

 وبتقترن بداية السنة المصرية القديمة بشروق النجم سوبديت اللي بيسميه العرب الشعرى اليمانية في الأفق مع شروق الشمس، ولاحظ المصريين ارتباط الظاهرة الفلكية دي بوصول الفيضان لمدينة منف، فخدوا المناسبة دي وخلوها بداية لتقويمهم النجمي اللي بتتكون فيه السنة من 365 يوما وربع، زي التقويم الشمسي، المصريين القدام اكتشافوا نظام تتابع الزمن من بدري، تمام زي ما ابتكروا الزراعة في وادي النيل، علشان كده الفلاح المصري اعتمد في الزراعة على التقويم ده من أكتر من ست آلاف سنة ولسه بيعتمد عليه.
 مصر فضلت تحتفل براس السنة المصرية لآلاف السنين، لكن الاحتفال وقف لما العثمانيين احتلوا مصر، وفي سنة 1893 جمعية التوفيق القبطية رجعت تحتفل مرة تانية بالنيروز، لكن الاحتفال كان محدود، وبيختفي تدريجيا، لغاية ما مجموعات من المصريين اللي مهتمين بالتراث المصري ابتدوا يحتفلوا مرة تانية بالسنة المصرية من حوالي سبع سنيين.
 والتقويم المصري القديم كان مكون من 12 شهر كل شهر منها 30 يوم، بعدها شهر صغير من خمسة تيام اسمه شهر نسئ، وبعدين الكهنة المصريين إكتشفوا إن السنة الفعلية 365 يوم وربع، فضافوا لشهر نسئ يوم سادس مرة كل أربع سنين، المصريين كانوا بيبتدوا مع عصر كل حاكم جديد مسلسل جديد للسنين، لغاية لما الكنيسة القبطية الأرثوذكسية اعتبرت سنة 284م اللي تولى فيها الإمبراطور الروماني دقلديانوس الحكم بداية للتقويم المصري وسمته تقويم الشهداء، وده بسبب إن عصر دقلديانوس كان عصر الاضطهاد الديني اللي اتعرض له المصريين اللي اعتنقوا المسيحية.
 أما عن الاحتفال بالمناسبة دي زمان فبيقول عالم الآثار المصرية الأستاذ محرم كمال في كتابه الصغير والمهم عن آثار الحضارة المصرية القديمة في حياتنا اليومية: "كان هذا العيد أهم الأعياد التي يحتفل بها المصريون القدماء وكان يجري مهرجان بأكبر بهجة يتصورها العقل ... كان يجتمع الرجال والنساء في جماعات كبيرة ويحشرون أنفسهم حشرا في السفن والقوارب دون مراعاة للسن، فإذا استقر بهم المقام بدأ النساء في دق الطبول وأخذ الرجال يوقعون الأنغام على المزمار ويساعدهم فريق آخر بالغناء والأهازيج وثالث بالتصفيق بالأيدي كما جرت العادة في الحفلات الموسيقية في مصر، وتسجل المقابر المصرية القديمة من مظاهر الاحتفال برأس السنة المصرية كذلك تبادل الهدايا بين الناس."
 ورغم توالي عهود الاحتلال الأجنبي على مصر حافظ المصريين على الاحتفال بالمناسبة دي عبر العصور، والمؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي بيحكي لنا مظاهر الاحتفال برأس السنة المصرية في العصور الوسطى، واللي كان واحد من الاحتفالات الكبيرة اللي بيحتفل بها المصريين كلهم، وكمان جنب الاحتفالات الشعبية كانت الدولة من العصر الفاطمي بتحتفل على المستوى الرسمي بالمناسبة دي وبتوزيع العطايا والخلع، أما الاحتفالات الشعبية، فكانت بتاخد شكل كرنفال شعبي رائع بيخرج فيه الناس لأماكن النزهة ويرشوا بعضهم بالميه، ويختاروا من بينهم شخص يعملوهه أمير للنيروز يمشي بموكبه في الشوارع والحواري ويفرض على الناس رسوم ويحصلها منهم واللي يرفض يرشه بالميه، وكل ده طبعا من باب الهزار.
 ولما نقرا اللي قاله القاضي الفاضل من كتاب الدولة الأيوبية عن الاحتفالات نلاقيه بيعتبرها من "المظاهر البائدة المرتبطة بالدولة الفاطمية" فقال عن الاحتفال:
 "يوم النيروز هو مستهل توت، وتوت أول سنتهم وقد كان بمصر في الأيام الماضية والدولة الخالية، يركب فيه أمير موسوم بأمير النيروز، ومعه جمع كثير، ويتسلط على الناس في طلب رسم رتبه على دور الأكابر بالجمل الكبار، ويكتب مناشير ويندب متمرسين، ويقنع بالميسور من الهبات، ويتراش الناس بالماء، فإن غلط مستور وخرج من داره، لقيه من يرشه ويفسد ثيابه، فإما فدى نفسه وإما فضح..."
 وفيه وصف تاني لأمير النيروز: "إن الناس كانوا يختارون شخصا قوي الطباع يسمونه أمير النيروز، ويغيرون صورته وخلقته، ويجعلون على رأسه طرطورا طويلا من الخوص ويركبونه حمارا وهو شبه عريان، ويجعلون حوله الجريد الأخضر وشماريخ البلح، وبيده شيئ يشبه الدفتر كأنه يحاسب الناس... وكان الناس يقولون عن النيروز "ليس فيه حرج ولا أحكام تقع".
 أما المقريزي فقال عن الاحتفال الرسمي بعيد النيروز في عصر الدولة الفاطمية: "النوروز القبطي من جملة المواسم، فتتعطل فيه الأسواق ويقل فيه سعي الناس في الطرقات، وتفرق فيه الكسوة لرجال أهل الدولة وأولادهم ونسائهم، وتفرق الرسوم من المال وحوائج النوروز..."
 أما في زمن المماليك فكان الاحتفال الشعبي بالنيروز مظهر أساسي من مظاهر الحياة المصرية، والمصادر بتاعة العصر ده مليانة بوصف الاحتفال ومظاهره. ويظهر إن الحاجة الأساسية في احتفالات النيروز كانت التحرر من كل القيود، الناس كانت بتخرج في الشوارع رجالة وستات وعيال صغيرة يلعبوا ويفرحوا، ويحدفوا بعض بالبيض والميه، ويعوموا في البرك والخلجان اللي اتملت بمية الفيضان.
 وفي اليوم ده تتوقف الدراسة في الكتاتيب والمدارس ويتفرغ التلامذة للعب والمرح، وتتعطل الأسواق والأعمال، ويتبادل الناس الهدايا من الفواكه وأنواع الحلويات، وكانت الزلابيا هريسة اللحمة والبطيخ والبلح من الأكلات اللي ارتبطت باحتفال رأس السنة المصرية، أو عيد النيروز.
  وكان الاحتفال الشعبي بيوقف في الفترات اللي تظهر فيها موجات التطرف الديني في العصور الوسطى لغاية ما وقف تمام في العصر العثماني، لكن الجانب الرسمي للمناسبة استمر علشان ارتباط المناسبة بالفيضان وجباية الضرائب، لدرجة إن السنة المالية في العصر العثماني والقرن التسعتشر كانت بتتسمى السنة التوتية نسبة لشهر توت.

وكل توت وأنتم طيبين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...