الجمعة، 2 يناير 2015


المولد النبوي الشريف... احتفالية مصرية

عماد أبو غازي

 بكرة 3 يناير يوافق يوم 12 ربيع الأول، وفي اليوم ده من كل عام بنحتفل بالمولد النبوي الشريف، وبتتنوع أشكال الاحتفال ومستوياته ما بين الاحتفال الرسمي اللي بتقيمه مؤسسات الدولة المختلفة، والاحتفالات الأهلية اللي بتنظمها الطرق الصوفية.
 والشعب المصري ابتكر أشكاله الخاصة للاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وهي أشكال بتعبر عن روح الشعب المصري وحضارته، وبتتميز وتختلف عن أشكال الاحتفال في بلدان العالم الإسلامي التانية. وممكن نقدر نقول إن حلاوة المولد وعرايسه هي أشهر طقوس الاحتفالات الشعبية في مصر، فالعروسة الحلاوة تقليد مصري صرف مرتبط عادة بمناسبة سعيدة هي المولد النبوي الشريف.

*****


 لكن هل عرف المسلمون الأوائل احتفالات المولد النبوي الشريف؟

 نترك الإجابة للشيخ مصطفى عبد الرازق، في خطبة ألقاها عندما كان شيخا للجامع الأزهر، أثناء الاحتفال الرسمي بالمولد النبوي الشريف عام 1946، يومها قال الشيخ:

 "لم يكن من سنة العرب أن يحتفلوا بتاريخ ميلاد لأحد منهم، ولم تجر بذلك سنة المسلمين فيما سلف، ويظهر أن عادة الاحتفال بميلاد النبي عليه السلام من العادات المحدثة، اللهم إلا أن أهل مكة ـ فيما رواه بعض المؤرخين ـ كانوا يتبركون بزيارة الموضع الذي ولد فيه عليه السلام، في يوم ميلاده.

 وما هي بالبدعة السيئة أن يجعل الناس يومًا من أيام العام خاصًا بتذكار محمد رسول الله، أكبر أبناء آدم بركة على الإنسانية، وأبقاهم في صحائف التاريخ أثرًا."

 ويستطرد الشيخ مصطفى عبد الرازق قائلًا:

 "لم تشعر الأمة العربية بذلك اليوم العظيم الذي وضعت فيه حملها الأيم الفقيرة آمنة بنت وهب، أرملة عبد الله بن عبد المطلب. حتى لقد خفي على العرب عام ميلاد النبي، وخفي عليهم موضع الدار التي جاء لآمنة فيها المخاض، واختلفوا في ذلك اختلافًا كثيرًا. وقد يتبين من هذا أن ما ذكره بعض أرباب السير من أن إرهاصات وحوادث سماوية وأرضية وقعت في يوم مولده الشريف فيه من الغلو ما لا يقوم عند التمحيص، ولا يحققه التاريخ.

 وليست سيرة النبي العظيم محمد بن عبد الله محتاجة إلى نافلة من خيال المؤرخين. إن محمدًا لعظيم في طفولته بين ذلي اليتم والفقر، وعظيم في كهولته بين جلال الإسلام ومجد العرب.

 وهل حفظ التاريخ مجدًا أكبر من مجد النبي العربي صاحب الدين الخالد والهدي الراشد؟"
 

الشيخ مصطفى عبد الرازق
 لكن متى بدأت احتفالات المولد النبوي بأشكالها المختلفة؟ وأين كان ذلك؟
  تكاد تكون هناك درجة عالية من الإجماع بين الباحثين والمؤرخين على أن الاحتفال المنتظم بالمولد النبوي الشريف قد بدأ في مصر، وإن ذلك كان في زمن الخلافة الفاطمية، وقد وضع الأستاذ حسن السندوبي الذي كان أمينًا لمكتبة وزارة الأوقاف بقبة الغوري كتابًا مهمًا عن تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، صدرت طبعته الأولى عام 1948، وقد تتبع فيه هذا الاحتفال منذ بداياته الأولى في مصر في القرن العاشر الميلادي حتى الأربعينيات من القرن الماضي، أي زمن تأليف كتابه.
 وقد تميزت الدولة الفاطمية في مرحلتها المصرية بإدراك لروح الشعب المصري المحبة للبهجة والمرح، فحاول رجال هذه الدولة أن يجعلوا حياة المصريين احتفالات متوالية، فكانت الدولة تنظم العديد من الاحتفالات الدينية وفي مقدمتها المولد النبوي الشريف، وموالد آل البيت ورأس السنة الهجرية، إلى جانب الاحتفال الرسمي بالأعياد الدينية المسيحية، كعيد الميلاد المجيد وعيد الغطاس وعيد القيامة، فضلًا عن رأس السنة المصرية المعروفة بالنيروز، وبعض الاحتفالات المصرية الأخرى وأهمها عيد وفاء النيل.

 لقد اهتمت المصادر التاريخية بوصف الاحتفالات الرسمية التي كانت تقيمها الدولة الفاطمية في مصر، فحفلت مصادر العصر الفاطمي والعصور التالية له بصور من الحياة الاجتماعية في تلك الحقبة من تاريخنا. ويصف تقي الدين المقريزي المؤرخ البارز الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي، أي بعد عصر الدولة الفاطمية بقرابة ثلاثة قرون، احتفالات المولد النبوي الشريف في زمن الفاطميين، نقلا عن المؤرخين الذين عاصروا تلك الاحتفالات، فيقول:
 "فإذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأول تقدم الخليفة بأن يعمل في دار الفطرة ـ وهي دار بجوار قصر الخليفة مخصصة للولائم والاحتفالات ـ بأن يعمل بها عشرون قنطارًا من السكر اليابس، لتصنع منها حلواء يابسة، وتعبئ في ثلاثمائة صينية من النحاس، وتفرق تلك الصواني على أرباب الرسوم من ذوي المراتب، وأول أرباب الرسوم قاضي القضاة ثم داعي الدعاة، ويدخل في ذلك القرأ بحضرة الخليفة، والخطباء بالجوامع بالقاهرة، والقائمون على المشاهد، ويبدأ ذلك من أول النهار إلى ظهره. فإذا صلى الخليفة الظهر، ركب قاضي القضاة ومن معه إلى الجامع الأزهر، فيجلسون مقدار قراءة الختمة الكريمة، ثم يستدعى قاضي القضاة ومن معه، فيركبون ويسيرون إلى أن يصلوا إلى بين القصرين، فيقتربون من المنظرة التي يجلس فيها الخليفة ويترجلون من فوق الدواب قبل الوصول إليها بخطوات، ويجتمعون تحت المنظرة لانتظار الخليفة، فتفتح إحدى الطاقات، فيظهر منها وجهه وعليه منديل، ثم يخرج أحد معاوني الخليفة رأسه ويده اليمنى من الطاقة قائلا: أمير المؤمنين يرد عليكم السلام، ثم يستفتح قراء الحضرة بالقراءة، ثم يخطب الخطباء، فإذا انتهت خطابة الخطباء أخرج الرجل رأسه ويده من الطاقة ورد على الجماعة السلام، فينفض الناس".

 ولما كان الاحتفال بالمولد النبوي قد بدأ في مصر منذ زمن الفاطميين فقد ربط الناس دائما بين العروسة الحلاوة والعصر الفاطمي، وتتردد بين الناس أساطير حول ظهور هذا الطقس الاحتفالي وارتباطه بالمولد النبوي الشريف؛ حيث يردد البعض أن الحاكم بأمر الله الفاطمي قد فرض على الناس ضمن تشريعاته الغريبة منع احتفالات الزفاف في جميع أيام السنة ما عدا ليلة المولد النبوي. ومن هنا كان الناس يعدون كل شيء استعدادا للاحتفال بأفراحهم في ليلة المولد فيعقدون قران الراغبين في الزواج، ويعدون جهاز العرائس، ثم في الأيام القليلة السابقة على المولد يعدون الحلوى. ومن بين هذه الحلوى عرائس تصنع من السكر وتزين وتلون ابتهاجا بحفلات الزفاف التي تتم في ليلة المولد النبوي. وبعد وفاة الحاكم بأمر الله ذهب معه قراره بمنع حفلات الزفاف واستمرت العرائس الحلاوة كطقس من طقوس المولد.
 

والقصة لا تخلو من طرافة، إلا أنها بعيدة عن الحقيقة تمامًا، فعرايس الحلاوة، أو التماثيل المصنوعة من السكر عمومًا من الطقوس الاحتفالية المصرية الأصيلة، ولم يقتصر استخدامها في العصر الفاطمي على المولد النبوي فقط؛ فالمصادر القديمة تحكي لنا عن صنع تماثيل السكر أشكال العرائس والطيور والحيوانات في احتفالات وفاء النيل في ذلك العصر. وما زالت العروسة الحلاوة طقسًا احتفاليًا في عديد من المناسبات الاجتماعية في بعض مناطق الريف المصري.
 

 كذلك فإن العروسة ورسومها كشكل احتفالي موجودة منذ زمن المصريين القدماء، وقد استمرت في العصرين البطلمي والروماني، ثم في العصر القبطي، وانتقلت بعد ذلك إلى مصر في عصور حضارتها الإسلامية مع عديد من العادات والتقاليد التي ما زالت تحيا بيننا منذ آلاف السنين، ومن الطقوس المرتبطة بعروسة المولد في الأحياء الشعبية في المدن وفي قرى ريف مصر إلى الآن، قيام العريس الجديد أو من يتقدم للزواج، بتقديم عروسه حلاوة كبيرة إلى عروسه في أول مولد نبوي يمر بعد الخطبة، وتسمى تلك العروسة "عروسة النفقة".

 وبالمناسبة فلمن يريد الاستزادة حول عروسة المولد فعليه بكتاب الفنان عبد الغني الشال عن عروسة المولد والذي طبع في الستينيات من القرن الماضي، وأعيد طبعه منذ سنوات قليلة في المجلس الأعلى للثقافة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...