الثلاثاء، 13 يناير 2015


 أقل من أسبوع يفصل بين رحيل محمود أمين العالم ورفيق دربه عبد العظيم أنيس، في شهر يناير من عام 2009.
 هذا ما كتبته في رثاء الدكتور عبد العظيم أنيس منذ ست سنوات، أعيد نشره في ذكرى رحيله...

مخربشات

... ولحق برفيقه

عماد أبو غازي
 كان الأسبوع الماضي أسبوعًا لوادع الراحلين، جاءت البداية بخبر مفاجئ برحيل المفكر الاشتراكي محمود أمين العالم صباح السبت، والخبر كان مفاجأة لأن العالم كان قبلها بأيام قليلة يحضر صالون عبد الرحمن بدوي ويناقش بحيويته المعهودة، ولم يكد ينتصف الأسبوع وقبل أن نجتمع في عزاء راحلنا الكبير، حتى غاب عنا روائي وقاص مبدع ينتمي إلى جيلنا، جيل السبعينيات، يوسف أبو رية الذي ظل يصارع المرض لشهور، وما كاد الأمل في إمكان إجراء جراحة زرع الكبد له يقترب إلا وكان الموت قد غدره، فرحل تاركًا لنا سبع مجموعات قصصية وخمس روايات وأربعة كتب للأطفال وذكرى طيبة لإنسان جميل لا ينسى.
 
 
 في عزاء محمود أمين العالم يوم الثلاثاء كان السؤال الملح على الجميع عن رفيق دربه عبد العظيم أنيس، ولم ينته الأسبوع الذي بدأ برحيل العالم قبل أن يرحل أنيس لاحقًا بزميله ورفيق نضاله، غريب جدًا أمر هذه الحياة، جمعت بينهما مواقف عديدة في مشوارهما الذي جاوزا فيه الثمانيين، ولد العالم عام 1922 وولد عبد العظيم أنيس بعده بعام، جمع بينهما الأصل القاهري، في الاحتفاء بأنيس منذ بضع سنوات قال العالم عنه ضمن ما قال عن علاقتهما التاريخية: "...عبر السنوات الـ 50 لصداقتنا المشتركة شعرت أنها لم تكن علاقة معايشة فقط ولكنها حقيقة موضوعية، فقد ولدنا بحي الازهر وتعلمنا في مدرسة واحدة ثم فصلنا من المدرسة، وعندما فتح باب المجانية عدنا إلى المدرسة ثانية حتي التقينا في العام 1935 في معركة ضد النحاس باشا وضد الانجليز، تلك المظاهرة التي اعتقل فيها الدكتور أنيس لأول مرة وهو مازال صغيرًا، ثم ابعدتنا الحياة والتقينا في الأربعينيات حيث كان المناخ متوترًا محملًا بروح ثورة قادمة، ثم عينا بالجامعة وفصلنا منها أيضًا وسافر كل منا في طريق..."
 جمعت بينهما النشأة، وجمع بينهما الاهتمام بالأدب وكتابة الشعر، والعمل السياسي والفصل من الجامعة في حركة التطهير، وكان تدشينهما معا في الحياة الفكرية والثقافية المصرية والعربية من خلال كتابهما المشترك "في الثقافة المصرية" الذي صدر عام 1955، وخاضا فيه وبسببه معركة ثقافية مع أعلام عصرهما وفي مقدمتهم طه حسين والعقاد، كتابهما الذي قال عنه طه حسين بسخريته اللاذعة: "يوناني فلا يقرأ"، بينما قال العقاد بحدته المعروفة: "أنا لا أناقشهما وإنما أضبطهما. إنهما شيوعيان"، ورغم موقف طه حسين والعقاد من الكتاب فقد أسس الكتاب لاتجاه جديد في الثقافة المصرية وكان بداية لها ما بعدها.
 جمع بينهما الاعتقال في حملة نظام عبد الناصر الكبرى ضد الشيوعيين مطلع عام 1959، ثم جمع بينهما العمل بعد ذلك في حقلي الصحافة والثقافة، ثم الاستمرار في الإخلاص للقيم والمبادئ التي عاشا من أجلها حتى اللحظة الأخيرة، قيم الديمقراطية والاشتراكية والدفاع عن استقلال الوطن، ثم جمع بينهما الموت في النهاية.
 ورغم أن عبد العظيم أنيس كان عالمًا للرياضيات والإحصاء، لكنه لم يقف أبدًا عند حدود تخصصه الدقيق، فهو في ذات الوقت الناقد الأدبي الذي يتبنى الاتجاه الاجتماعي في تحليله للأدب، وهو الكاتب السياسي صاحب المواقف الجذرية، وهو المفكر الممتلك للرؤية المحددة في قضايا الوطن، والأستاذ الجامعي الذي يقدم اجتهاداته في إصلاح التعليم عبر كتاباته ورئاسته للجنة القومية لتطوير تعليم الرياضيات في مصر في سنوات السبعينيات.
 ولد أنيس بحي الأزهر بقلب القاهرة الفاطمية عام 1923، وتخرج في كلية العلوم بجامعة القاهرة عام 1944، وذهب في بعثة إلى بريطانيا عام 1950 ونال دكتوراه الفلسفة في الإحصاء الرياضي من جامعة لندن عام 1952، اعتقل في العصر الملكي وفي العصر الجمهوري، وفصل من الجامعة في حركة التطهير التي أسست لانهيار الجامعات في مصر، فترك مصر للعمل بالخارج، أستاذًا للرياضيات بجامعة لندن، وعندما صدر قرار تأميم  قناة السويس قدم استقالته وعاد للوطن ليشارك في المعركة، لكن النظام الاستبدادي الذي لم يكن ليقبل بشريك مستقل سرعان ما اعتقله مع عشرات من رفاقه ليقضوا سنوات عدة بين سجون النظام ومعتقلاته.
 كتب عبد العظيم أنيس في الصحافة قبل اعتقاله وبعده، وترك مجموعة من الكتب المؤلفة والمترجمة في مجالات الرياضيات والتاريخ والأدب والتعليم والسياسة، منها: "مقدمة فى علم الرياضيات،" و"العلم والحضارة" و"التعليم في زمن الانفتاح" و"رسائل في الحب والحزن والثورة" و"قراءة نقدية في كتابات ناصرية" و"ذكريات من حياتي"، هذا بخلاف كتابه الشهير المشترك مع محمود أمين العالم، "في الثقافة المصرية"، ومن أشهر مترجماته: "بنوك وباشوات" الذي يدرس تاريخ مصر قبل الاحتلال البريطاني وبعده، فضلا عن مراجعته لعدد من الترجمات في مجال الرياضيات والإحصاء الرياضي والاقتصاد.
  رحل ليلحق برفيقه، ذلك الذي أحب الوطن وانحاز إلى كادحيه ودافع عن قضاياه، رحل وترك أعماله شاهده على دوره في الحياة المصرية لأكثر من نصف قرن، ترك ذكرى يحفظها كل من عرفه عن قرب وتعامل معه، ترك منى ووفاء وحنان حافظات لتراثه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...