الأربعاء، 28 يناير 2015


 دي مجموعة مقالات قصيرة نشرتها مع بعض في صفحة تراث وتاريخ في جرنال الشروق في يناير 2012، بعد سنة من الثورة:

حكايات ميدان التحرير

عماد أبو غازي

 في يناير من العام الماضي أصبح ميدان التحرير اسمًا يتصدر نشرات الأخبار في العالم، ورمزًا لثورات الشعوب ضد طغيان الحكام واستبدادهم، ودخلت كلمة "تحرير" العربية لغات العالم المختلفة، وأضحت جزءًا من قاموس الشعوب الثائرة المتطلعة إلى التحرر، لم يعد ميدان التحرير مجرد ميدانًا في قلب القاهرة بل غطت ميادين التحرير مدن مصر ومدن العالم شرقًا وغربًا.

 ميدان التحرير الذي شهد ثورة الشعب المصري على مدى ثمانية عشر يوما من 25 يناير إلى 11 فبراير 2011، والذي لا يزال ساحة للتطلع إلى تحقيق الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والحرية لشعب مصر، له حكاية ممتدة ترجع بدايتها إلى عصر الخديوي إسماعيل (1863 ـ 1879) عندما أطلق مشروعه لتحديث القاهرة وتحويل الكيمان والتلال والخرائب في غرب المدينة القديمة إلى حي حديث على طراز الأحياء الجديدة في المدن الأوروبية، حي أطلق عليه القاهرة الإسماعيلية وعندما أضيفت له منطقة التوفيقية صار يعرف بالقاهرة الخديوية، تمييزًا لها عن القاهرة الفاطمية وقاهرة المماليك، حي به شوارع مستقيمة متقاطعة ومتوازية تصب في ميادين متسعة، كان من بينها هذا الميدان الذي أصبح ميدان التحرير منذ يناير 1953، ثم تغيير اسمه رسميًا إلى ميدان أنور السادات بعد اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر 1981، لكن أحدًا لم يشعر بهذا التغيير أو يعترف به.

 ميدان التحرير يذكره علي باشا مبارك في الجزء الثالث من خططه المعروفة بالخطط التوفيقية الجديدة ضمن الميادين المستجدة في عصر الخديوي إسماعيل، ويذكره باسم ميدان الكوبري ويحدده بأنه الميدان الذي يقع تجاه كوبري قصر النيل وسراي الإسماعيلية، وهي من السرايات التي بناها الخديوي إسماعيل وموضعها الآن وفقًا لما ذكره عبد الرحمن زكي في موسوعة مدينة القاهرة، مجمع التحرير.

 فكرة الميادين في المدن الحديثة ترتبط بتحولات المجتمعات في تلك الحقبة من الزمن، ولم يكن إنشاء الميادين مجرد تعبير عن رؤية جمالية، أو تلبية لاحتياجات ترتبط بالتخطيط العمراني للمدن الحديثة، بل كانت الميادين ساحات مفتوحة للتعبير أمام الشعوب.

 وفي مصر كانت الميادين الجديدة ساحات للتظاهر والاحتجاج خاصة إذا كان قصر الحاكم يطل عليها، مثل ميدان عابدين الذي ظل منذ الثورة العرابية سنة 1881، مقصدًا للمتظاهرين والمحتجين. أما ميداننا ميدان التحرير، فقد عرف أول حدث سياسي كبير بعد إنشائه بسنوات قليلة، عندما وقعت به مظاهرة قصر النيل التي قادها الضابط محمد عبيد لتحرير عرابي وزملائه الذين كانوا يحاكمون أمام مجلس عسكري.

 وفي السنوات التي تلت الاحتلال البريطاني تراجعت مكانة ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليًا) كساحة للمظاهرات الشعبية، كان معبرًا للمظاهرات مثلما حدث مع تلك المتجه إلى بيت الأمة وقصر عابدين في نوفمبر 1935، حتى شهد واحدة من أكبر المظاهرات في تاريخ مصر، في 21 فبراير 1946، وأعقبتها بعد خمس سنوات مليونية دعم المقاومة الشعبية في القناة، ومع صحوة الحركة الطلابية المصرية في أواخر الستينات ومطلع السبعينات كان ميدان التحرير المقصد والهدف لكل المحتجين، مثلما كان شهر يناير موعدًا لتجدد النضال من أجل حرية هذا الوطن.





 وقد خلد أمل دنقل اعتصام ميدان التحرير في يناير 1972 في قصيدته الشهيرة "الكعكة الحجرية"، مثلما خلد أحمد فؤاد نجم شهر يناير شهر الثورات بقصيدته "كل ما تهل البشاير من يناير"، ومثلما عبر عبد الرحمن الأبنودي عن ثورة 25 يناير بقصيدته "الميدان".

 


أمل دنقل
مظاهرة قصر النيل

فبراير 1881

في يناير 1881 كانت البداية الأولى للثورة العرابية التي اكتملت بمظاهرة عابدين في 9 سبتمبر من نفس العام، ففي منتصف يناير صعّد عثمان باشا رفقي ناظر الجهادية من اضطهاده للضباط المصريين في الجيش لصالح الضباط من ذوي الأصول التركية والجركسية، فأصدر في 16 يناير عدة قرارات بإبعاد عبد العال بك حلمي من قيادة آلاي طره ونقله إلى ديوان الجهادية وفصل أحمد بك عبد الغفار قائمقام آلاي الفرسان، وعين مكانهما ضباطًا جراكسة، وعندما علم أحمد عرابي بالخبر اجتمع في تلك الليلة بعدد من الضباط الوطنيين بمنزله واتفقوا على مقاومة إجراءات عثمان رفقي، واختار المجتمعون عرابي قائدًا لهم وأقسموا بحمايته على السيف والمصحف.

 وفي اليوم التالي 17 يناير 1881 توجه الأميرالاي أحمد عرابي والأميرالاي علي فهمي والأميرالاي عبد العال حلمي إلى رياض باشا في نظارة الداخلية وقدموا له عريضة يطالبون فيها بعزل رفقي باشا.

 في 31 يناير جاء الرد على العريضة في اجتماع مجلس النظار برئاسة الخديوي توفيق حيث صدر القرار بالقبض على الضباط الثلاثة ومحاكمتهم أمام مجلس عسكري، دون النظر إلى معارضة رياض باشا وتحفظه خوفًا من إثارة الفتن.

 ورغم إصرار رفقي باشا على عزل الضباط الثلاثة والقبض عليهم ومحاكمتهم، إلا أنه كان أضعف من أن يواجههم مباشرة، فأرسل لثلاثتهم استدعاء للحضور إلى الديوان بمعسكر قصر النيل بدعوى المداولة معهم في ترتيب الاحتفال بزفاف الأميرة جميلة هانم شقيقة الخديوي؛ وفي الموعد المحدد صباح الأول من فبراير توجه الضباط الثلاثة إلى قصر النيل بصحبتهم مجموعة من ضباط آلاي الحرس الذي كان مقره قشلاق عابدين لمراقبة الموقف عن بعد، والتصرف في حالة تعرض عرابي ورفيقيه لمكروه.

 وبمجرد وصول عرابي وحلمي وفهمي لقصر النيل تم تجريدهم من سيوفهم والقبض عليهم تمهيدًا لمحاكمتهم أمام المجلس العسكري برئاسة الجنرال استون باشا رئيس أركان حرب الجيش المصري. وفي طريقهم إلى السجن بقصر النيل مروا بين صفين من الضباط الجراكسة يسبونهم. وعين رفقي باشا ثلاثة من الضباط الجراكسة ليحلوا محلهم.

 لكن الضباط المرافقين لهم أسرعوا إلى قشلاق عابدين وأبلغوا زملاءهم من الضباط المصريين، فتصدى البكباشي محمد عبيد أفندي لقيادة الضباط والجنود، وعندما حاول قائممقام الآلاي خورشيد بك منعه أمر الجنود باعتراضه، ورفض الضباط استدعاء الخديوي لهم، وتحركوا فورًا بمظاهرة عسكرية إلى الميدان، وحاصروا ثكنات قصر النيل، واقتحموها شاهرين أسلحتهم وحرروا عرابي وزميليه، وفر من فر من الضباط الأتراك والجراكسة واعتقل من اعتقل، أما عثمان باشا رفقي ناظر الجهادية فهرب النافذة لينجوا بجلده.

 وعادت المظاهرة ميدان من قصر النيل إلى ميدان عابدين حيث قصر الخديوي، وهناك لحق بها آلاي طره بقيادة البكباشي خضر أفندي خضر. وانتهت المظاهرة العسكرية بعزل رفقي باشا وتعيين محمود سامي البارودي ناظرًا للجهادية، وكان البارودي رغم أصوله غير المصرية مناصرًا للضباط المصريين، ومشاركًا في الثورة حتى نهايتها.

 فكان هذا أول انتصار للثورة العرابية.

يوم الجلاء

الميدان في 21 فبراير 1946

 من أهم الأحداث في الميدان مظاهرة "يوم الجلاء" التي دعت إليها اللجنة الوطنية للطلبة والعمال، والتي تشكلت عقب قمع مظاهرات الجامعة يومي 9 و10 فبراير 1946، وكانت تضم عناصر من الوفديين والشيوعيين وغيرهم من القوى الوطنية والديمقراطية، وأصدرت اللجنة ميثاقًا وطنيًا حددت فيه أهداف الشعب وعلى رأسها الجلاء التام عن مصر والسودان، ودعت إلى إضراب عام في البلاد يوم 21 فبراير، وأسمته يوم الجلاء، وابتكرت الحركة أساليب جديدة في الدعاية، فصممت شارات معدنية طليت بالمينا عليها عبارات تدعو للجلاء ووحدة وادي النيل، مع بعض الرسوم المعبرة عن الكفاح الوطني، وكان المصريون رجالا ونساء يعلقون تلك الشارات الصغيرة على صدورهم، وكانت حكومة إسماعيل صدقي باشا قد قررت عدم منع المظاهرات أو التصدي لها، بل إن صدقي استقبل وفدًا من قادة اللجنة.

 لطيفة الزيات من قيادة الحركة الطلابية 1946
وفي يوم الخميس 21 فبراير 1946 أضربت مصر كلها وخرجت المظاهرات تطوف الشوارع، وفي القاهرة خرجت مظاهرة غير مسبوقة من حيث عدد المشاركين فيها ومن حيث تنظيمها، وطافت المظاهرة شوارع وسط القاهرة دون أن تتعرض لها قوات البوليس بناء على تعليمات رئيس الوزراء، لكن ما أن وصلت المظاهرة إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير) حيث ثكنات الجيش البريطاني حتى اقتحمت السيارات العسكرية البريطانية المظاهرة، فدهست من دهست وأطلق الجنود النار على من أطلقوا، فسقط في المظاهرة 23 شهيدًا و121 جريحًا.

 رغم أن المظاهرات لم تسفر عن إنهاء الاحتلال إلا أنها أرغمت بريطانيا على سحب قواتها من المدن المصرية ما عدا مدن منطقة القناة، وبدأ الانسحاب في 4 يوليو بالجلاء عن القلعة وتسليمها للجيش المصري، أما صدقي باشا فحظي بدعم من أحزاب الأقلية وجماعة الإخوان المسلمين من خلال اللجنة القومية التي تشكلت في مواجهة اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، وكان الرجل يمهد سرًا للمفاوضات مع بريطانيا، فشن أكبر حملة اعتقالات عرفتها مصر في الحقبة الليبرالية في يوم 10 يوليو عشية احتفال القوى الوطنية بذكرى الاحتلال البريطاني لمصر، وقد عرفت هذه الحملة بقضية الشيوعية الكبرى واعتقل فيها العشرات من الطلاب والعمال والكّتاب والصحفيين، وكان الكثيرون منهم بعيدين تمامًا عن الشيوعية، مثل سلامة موسى والكاتب الصحفي محمد زكي عبد القادر، كما أغلق عدة صحف ودور نشر وطنية، وكان واضحًا أن هدف الحملة تمرير ما يصل إليه صدقي من اتفاقات مع الإنجليز، وبالفعل توصل في أكتوبر إلى التوقيع بالأحرف الأولى على معاهدة مع وزير خارجية بريطانيا بيفن، إلا أن الشعب رفض الاتفاقية، فسقطت ومعها حكومة صدقي في ديسمبر 46.

14 نوفمبر 1954

 وقد شهد الميدان بعد خمس سنوات، في نوفمبر 1951، مليونية غير مسبوقة في تاريخ مصر، فبعد شهر من إعلان رئيس الوزراء مصطفى النحاس إلغاء معاهدة 1936 من جانب واحد، دعت القوى الوطنية على اختلاف أطيافها إلى الخروج في مظاهرة تحدد لها يوم الأربعاء الرابع عشر من نوفمبر 1951،  وكان للمظاهرة مطلب واحد، رحيل المحتل البريطاني، كما كانت المظاهرة في الوقت نفسه تسعى لتخليد ذكرى شهداء المقاومة الشعبية في القناة. وكانت مظاهرة 14 نوفمبر 1951 واحدة أكبر المظاهرات الشعبية في تاريخ مصر.

الصورتان من مجموعة الصديق أحمد كمالي (أيام مصرية)
 
يا عم حمزة رجعوا التلامذة

 مثلما شهد عام 2011 ثورات وانتفاضات شعبية وميادين تحرير غطت العالم كله، كان عام 1968 عامًا للطلاب والشباب ففي ذلك العام شهدت بلدان العالم انتفاضات طلابية كانت إيذانًا بميلاد عصر جديد، من الشرق الأقصى إلى الولايات المتحدة مرورًا بألمانيا وفرنسا وتشيكوسلوفاكيا، خرج طلاب العالم ثائرين على الأوضاع، مطالبين بالتغيير وبالإصلاحات داخل الجامعات، رافعين شعارات الديمقراطية الحقيقية والإصلاح الاجتماعي في بلدانهم، منادين بالسلام والعدل على الصعيد العالمي، كانت تلك الحركات الطلابية التي غلب عليها الطابع اليساري تنبئ بميلاد يسار جديد مختلف ومستقل وبعيد عن الأحزاب اليسارية التقليدية، وخلقت الحركة الطلابية الجديدة جسورًا من التواصل مع مجموعات من المثقفين المستقلين أثروا فيها وتأثروا بها. وبلغت تلك الحركات الذروة في شهر مايو 1968، في حركة الطلاب الفرنسيين التي أسقطت الجنرال ديجول وهو من هو عن رئاسة فرنسا قبل أن تنتهي مدته الدستورية.

 ولم تكن مصر بعيدة عن كل هذا، بل كان لطلابها السبق في مظاهرات عام 1968 على مستوى العالم، وكانت هذه هي المفاجأة التي جاءت بعد سنوات صمت طويلة للحركة الطلابية المصرية. فمع وصول الضباط الأحرار للحكم في يوليو 1952 تعرضت الجامعة مثل غيرها من مؤسسات الدولة لما سمي بالتطهير ففقدت مجموعة من خيرة أساتذتها، وأهم من ذلك فقدت استقلالها، كما جرم النظام الجديد التظاهر وصادر حق الطلاب في تكوين تنظيماتهم الطلابية المستقلة، واكتملت سيطرة النظام على الجامعات بعد انتصار عبد الناصر وجناحه في أزمة مارس 1954 على محمد نجيب وأنصاره الذين كانوا يدعون إلى عودة الحياة الديمقراطية، وحاصر النظام النشاط السياسي للطلاب إلا ما تم منه داخل الأطر السياسية لتنظيمات النظام.

 ثم كانت هزيمة يونيو 1967 لطمة أفاقت قوى المجتمع الحية، لقد ارتبطت الحركة الطلابية منذ ميلادها بالنضال من أجل الاستقلال، فكانت القضية الوطنية دوما عصب النضال الطلابي في مصر، من هنا فقد كان من الطبيعي أن تعود الروح للحركة الطلابية بعد الهزيمة واحتلال الأرض، وجاءت البداية مع عام 1968، فكانت مظاهرات طلاب وعمال مصر في القاهرة والجيزة والإسكندرية في فبراير 1968.

 لقد بدأت الأحداث بمظاهرات عمال حلوان احتجاجًا على الأحكام التي صدرت ضد قادة الطيران الذين اتهموا بالمسئولية عن النكسة واعتبرها العمال أحكامًا هينة، وأدى التصدي العنيف للمظاهرات من جانب قوات الشرطة إلى انتقال الاحتجاج إلى الجامعة، وكان اليوم يوافق 21 فبراير، الذي يحيه العالم كله في ذكرى طلاب مصر الذين استشهدوا في عام 1946، وإذا كانت المظاهرات العمالية وشعاراتها قد تمحورت حول ضرورة محاسبة المسئولين عن النكسة، فإن الحركة الطلابية رفعت شعارات تتعلق بالديمقراطية. وبقدر ما كانت هزيمة يونيو صدمة لمصر كلها كانت مظاهرات الطلاب والعمال في فبراير 1968 صدمة للنظام الذي كان يتصور أنه نجح في تدجين الشعب.

كان الزمن في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات زمن رجوع التلامذة إلى صادرة المواجهة مع النظام من أجل الديمقراطية وإزالة آثار الهزيمة، رجع التلامذة في فبراير 1968، واستمروا في الساحة لقرابة عشر سنوات.

 وكان عام 71/1972 بداية لموجة جديدة في الحركة الطلابية المصرية استمرت على مدار عامين دراسيين، وامتدت آثارها حتى عام 1977،  وتركزت مطالب تلك الحركة على قضيتين: الديمقراطية وإنهاء حالة اللا سلم واللا حرب التي عاشتها مصر منذ قبِل عبد الناصر مبادرة روجرز، واستقطبت الحركة الطلابية كل القوى الحية في المجتمع، كذلك عرفت تلك السنوات تصاعدًا للحركة العمالية أعاد إلى الأذهان السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية والتي تشكلت فيها اللجنة الوطنية للعمال والطلبة.

  كان العام الدراسي قد بدأ باعتصام طلاب كلية الطب البيطري بجامعة القاهرة، للمطالبة ببدل العدوى للأطباء البيطريين. وبدأت الحركة من خلال مجلات الحائط التي ابتكرتها الحركة الطلابية في تلك المرحلة، وحلقات النقاش والاجتماعات، ومن خلال نشاط الأسر والجماعات الطلابية التي أصبحت ظاهرة في تلك المرحلة.

أحمد عبد الله رئيس اللجنة الوطنية
 أما الانتفاضة السياسية الواسعة فقد بدأت في يناير 1972، وكان السبب الذي فجرها خطاب الضباب الشهير للرئيس السادات، الذي أعلن فيه تأجيل عام الحسم بسبب "الضباب السياسي" الذي تسببت فيه الحرب الهندية الباكستانية؛ فشكل الطلاب لجان وطنية على مستوى الكليات والجامعات ثم لجنة وطنية عليا لقيادة عملهم، ورفع الطلاب شعارًا سياسيًا واضحًا لحركتهم، "كل الديمقراطية للشعب... كل التفاني للوطن".

 وتوالت المؤتمرات السياسية داخل الجامعات طوال شهر يناير 1972 انتهت باعتصامات طلابية، وتوجه وفد من الطلاب إلى مجلس الشعب، وبعد أن تم الاتفاق على نشر بيان الطلاب في الصحف بعد إدخال بعض التعديلات عليه، تراجع النظام ولم يطق صبرًا على الطلاب، فاقتحمت قوات الأمن الجامعات واعتقلت الطلاب المعتصمين، فخرجت المظاهرات إلى الشوارع واحتل الطلاب ميدان التحرير في مشهد لم تعرفه مصر لسنوات طويلة سابقة، إنه المشهد الذي خلده الشاعر الكبير أمل دنقل بقصيدته الكعكة الحجرية إشارة إلى قاعدة التمثال الجرانيتية الخالية التي ظلت تميز الميدان، وأزيلت أثناء أعمال الحفر لمشروع الخط الأول لمترو الأنفاق، ولم تعد إلى الآن.

 في العام الدراسي التالي بدء النشاط الطلابي من خلال مجلات الحائط وحلقات النقاش، وبدأت الأزمة الأولى مع إحالة إدارة كلية طب القاهرة عدد من الطلاب للتحقيق بسبب مجلات الحائط، فتصاعدت الاحتجاجات بين طلاب الجامعة تضامنًا مع زملائهم، وشكل الطلاب لجان الدفاع عن الديمقراطية، وتصاعدت أنشطتهم السياسية داخل أسوار الجامعات وانضم إليهم عددًا من الفنانين والكتاب والمثقفين من خلال الأنشطة الثقافية والفنية والسياسية التي نظمتها الأسر الطلابية ذات التوجه اليساري في مختلف كليات الجامعة وتحولت المؤتمرات السياسية إلى اعتصام متصاعد.

 وكان للحركة الطلابية أصداء واسعة في المجتمع، كانت أملًا يتفتح في بناء مجتمع حر جديد، بعد أن عاشت مصر عشرين عامًا في ظل حكم صادر حريات المواطنين ومبادرتهم الشعبية، كانت مظاهرات الطلاب تعيد حنينًا إلى ماض صار بعيدًا، لقد فقد المجتمع المصري تنظيماته المستقلة ومبادرته الشعبية لسنوات طويلة، فكانت الحركة الطلابية الجديدة بمثابة "عودة الروح" و"عودة الوعي" لمصر، فأيدها أبرز مثقفي مصر ومبدعيها وفي مقدمتهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ من خلال بيان ساندوا فيه مطالب الحركة الطلابية.

 وفي الأيام الأخيرة من عام 1972 فقد النظام صبره بعد امتداد الحركة إلى كل الجامعات المصرية، فشن حملة اعتقالات واسعة على القيادات الطلابية بعد خطاب للرئيس السادات، أكد فيه تمسكه بالحرية والممارسة الديمقراطية، مع تحذير "اليسار المغامر" و"اليمين الرجعي" و"القلة المندسة"، تلك المصطلحات التي احترف النظام ترديدها لتبرير اعتداءاته المتكررة على الحريات.

 عندما اكتشف الطلاب اعتقال زملائهم خرجت المظاهرات تجوب الجامعات المصرية وتهتف: "يوم الخميس قال لنا حرية ... وأخد اخواتنا في الفجرية"، "قال هنمارس قال هنمارس... حط في بيتنا مخبر حارس"، وتحولت المؤتمرات والمظاهرات إلى اعتصام مفتوح، وفي جامعة القاهرة احتل الطلاب قاعة الاحتفالات الكبرى، واستمرت حالة الغضب تتصاعد إلى أن خرج آلاف الطلاب صباح يوم الأربعاء  3 يناير 1973 في مظاهرات كان ميدان التحرير هدفها لكن قوات الأمن حاصرتها، فغابت عن ميدان التحرير أربعين عامًا إلا قليل.
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...