الأربعاء، 31 ديسمبر 2014


كل سنة وانتم طيبين النهار ده رأس السنة الميلادية، يا ترى عارفين إن أصلها مصري؟

مرسوم كانوب وقصة اكتشاف التاريخ

عماد أبو غازي

 نبحر اليوم إلى عصر البطالمة، الذي يبدأ في التاريخ المصري بعد وفاة الإسكندر الأكبر، ففي سنة 332 ق.م. ضم الإسكندر مصر إلى إمبراطوريته، وقضى بذلك على الاحتلال الفارسي لمصر، الذي ذاق خلاله المصريون صنوفًا من القهر والاضطهاد، لذلك رحب المصريون بالاسكندر خاصة بعد أن سعى إليهم، وزار معابدهم التي دنسها الفرس، وأعلن نفسه ابنا للإله آمون. ووضع الاسكندر حجر الأساس لمدينة الإسكندرية قبل أن يغادر مصر في سنة 331 ق.م. ليستكمل فتوحاته في الشرق، التي وصل فيها حتى الهند، وفي عام 323 ق.م. مات الاسكندر وهو بعد شاب صغير، وترك خلفه إمبراطورية عظيمة، وبوفاة الإسكندر يبدأ العصر الذي اتفق المؤرخون على تسميته بالعصر الهلينستي، وكانت مدينة الإسكندرية مركزه الحضاري الرئيسي. وقد تميزت هذه الحقبة في عالم البحر المتوسط القديم بامتزاج عناصر الحضارة اليونانية الهلينية بعناصر الحضارات الشرقية القديمة لتشكل ما يعرف اصطلاحًا باسم الحضارة الهلينستية.

 الإسكندر الأكبر
لقد تفككت إمبراطورية الاسكندر وقامت على أنقاضها عدد من الممالك التي تولى كل منها قائد من قواده، وكانت مصر من نصيب بطليموس، الذي أسس أسرة توارثت العرش قرابة ثلاثة قرون، وظلت تحكم مصر حتى سنة 31 ق.م. عندما أحتل الرومان البلاد وأنهوا حكم كليوباترا السابعة آخر البطالمة.
 ورغم أن البطالمة كانوا حكامًا من أصول أجنبية، قامت سياستهم على استنزاف المصريين واستبعادهم من المشاركة في إدارة أمور بلادهم، إلا أن ثورات المصريين المتوالية، ثم احتياج البطالمة لمشاركتهم في الجيش، أدى تدريجيًا إلى تصاعد دورهم السياسي، وفي كل الأحوال ظل الإسهام الثقافي والعلمي والفكري للمصريين قائمًا طوال عصر البطالمة، وإن كان قد امتزج ببعض عناصر الثقافة اليونانية.
 لكن لماذا نعود اليوم إلى عصر البطالمة؟
 نعود لنبحث عن أصل التقويم الذي نستخدمه في حياتنا الآن، ونقيس من خلاله الزمن.
 لقد كان المصريون من أوائل الشعوب التي اكتشفت فكرة الزمن، فأدركوا مغزى تعاقب الأيام والشهور والفصول، وقسموا الزمن إلى سنوات، ففي الوقت الذي كانت فيه جل الشعوب تستخدم التقويم القمري الذي يعتمد على الدورة الشهرية للقمر، خرج المصريون القدماء وبعدهم شعوب أمريكا الجنوبية القديمة عن هذه القاعدة منذ آلاف السنين، لقد عرف المصريون القدماء أول تقويم نجمي شمسي دقيق على وجه الأرض، وكان ذلك منذ أكثر من ستة آلاف سنة، ففي سنة 4241 قبل الميلاد أبتكر سكان وادي النيل تقويمهم الأول. وهذا التقويم هو الأساس الذي استند عليه النظام الشمسي للسنوات الميلادية الذي يستخدمه العالم كله الآن.
 ورغم أن التقويم المصري القديم عمره أكثر من ستة آلاف عام إلا أنه لا يزال مستخدمًا إلى الآن في مصر، في تنظيم مواسم الزراعة، وفي تحديد الأعياد الدينية للأقباط الأرثوذكس.
 لكن ما هي قصة هذا التقويم؟
 لقد لاحظ المصري القديم أن نجم سبدت والذي نعرفه باسم الشعري اليمانية يشرق مرة واحده في العام قبل شروق الشمس، كما لاحظ أن هذا الشروق يقع يوم وصول الفيضان إلى مدينة منف، فقسم المصريون الفترة الممتدة بين كل شروقين للنجم سبدت إلى أثنى عشر شهرًا متساوية، وأضافوا لها خمسة أيام لتكتمل السنة 365 يومًا، وقسم المصريون سنتهم إلى ثلاثة فصول: فصل للفيضان وفصل للزراعة وفصل للحصاد، وجعلوا رأس سنتهم أول شهر توت مع وفاء النيل.
 لكن إذا كان المصري القديم قد توصل إلى تقويمه وابتكار سنته النجمية في الألف الخامسة قبل الميلاد، فما علاقة عصر البطالمة بذلك؟
 مع مرور الزمن تبين للمصريين أن هناك خلالًا ما في تقويمهم، فقد لاحظوا أن طول السنة عندهم أقصر من طول السنة الطبيعية، وقد اشتكى الكاتب المصري إلى الإله آمون أيام الرعامسة في الأسرة التاسعة عشر من أن أيام الأعياد الدينية والمدنية تسير القهقري، واكتشف المصريون أن شروق النجم سبدت يتقدم باستمرار مما يؤدي إلى اختلال المواعيد، وأنه يعود إلى موعده الطبيعي بعد دوره مدتها 1461 سنة، وتم إضافة شهر نسيء الصغير المكون من خمسة أيام في نهاية العام، لكن الخلل استمر بعد ذلك، ولإصلاح هذا الخلل اجتمع الكهنة المصريون من كل أنحاء البلاد في صورة مجمع كهنوتي مقدس بمعبد مدينة كانوب بالقرب من الاسكندرية، وموضعه الآن مدينة أبو قير، وكان ذلك في أيام حكم بطليموس الثالث الذي حكم مصر بين سنتي 247 و222 قبل الميلاد، وتدارس الكهنة الارتباك الذي يحدث في التقويم المصري، وكان الكهنة هم علماء مصر في ذلك العصر وكانت لهم معرفه واسعة بعلوم الفلك والرياضيات، وانتهى الكهنة المصريون إلى أن السنة الطبيعية تتكون من 365 يوما وربع اليوم، وإن هذا هو سبب الخلل الذي يحدث، ومن هنا كان عليهم أن يجدوا حلا لهذه المشكلة.
 ومثلما ابتكر أسلافهم التقويم المصري قبل هذا الاجتماع بأربعة آلاف سنه، ابتكر الكهنة المجتمعون في كانوب نظام السنة الكبيسة التي تأتي مره كل أربع سنوات، وقد أسفر هذا الاجتماع عن صدور الوثيقة الملكية المعروفة باسم مرسوم كانوب، والتي وضع صياغتها الكهنة المصريون، وصدرت في عام 238 قبل الميلاد، وجاء في افتتاح المرسوم:
"السنة التاسعة اليوم السابع من شهر أباليوس في اليوم السابع عشر الشهر الأول من فصل الشتاء. كان سكان مصر تحت حكم جلالة ملك الوجه القبلي والوجه البحري ـ بطليموس محبوب بتاح عاش أبديا ـ ابن الملك بطليموس وأرسنوي الأخوين الإلهين، حينما كان كاهن الاسكندر المرحوم وكاهن الأخوين الإلهين والإلهين المحسنين هو أبولانيدس بن موسكيان، كما كانت مناكراوا ابنة بيلامنا حاملة السلة أمام أرسنوي محبة أخيها.

 في هذا اليوم قرر المشرفون على المعابد والكهنة خدمة الآلهة والكهنة السريون والكهنة مطهرو الإله الذين يلبسون الآلهة ملابسهم وكتبة كتاب الإله، والعلماء والكهنة أباء الآلهة، والكهنة جميعا الذين أتوا من شطري الوادي؛ أي الوجه القبلي والوجه البحري، وقد تجمعوا في بيت الإله الخاص بالإلهين المحسنين في بر- جوتي كانوب......"
 وتتوالى مقررات المجمع المقدس إلى أن يصل لإصلاح التقويم فيقول المرسوم:
 "ولأجل أن تتوالى الفصول بنظام مطلق على حسب نظام العالم الفعلي وألا يحدث أن بعض الأعياد الدينية التي يحتفل بها في الشتاء لا تقع أبدًا في الصيف ـ وذلك بسبب أن النجم يتقدم يوما كل أربعة أعوام ـ وحتى لا يحدث أن بعض الأعياد من بين الأعياد الأخرى التي تقام الآن في الصيف تقام في الشتاء في الأزمان التي ستأتي بعد، كما حدث ذلك فيما مضى، ويحدث الآن كذلك إذا بقيت السنة مؤلفة من ثلاثمائة وستين يومًا والخمسة أيام التي زيدت باسم أيام نسيء الخمسة، فإنه منذ الآن سنضيف يوما مخصصًا لعيد الإلهين المحسنين كل أربع سنوات لخمسة أيام النسئ قبل السنة الجديدة حتى يعلم الكل أن ما كان ناقصًا من قبل في نظام الفصول والسنة، وفي القواعد الموضوعة بخصوص النظام العام للعالم قد أصلحه وتممه الإلهان المحسنان"
 
 
 
بطليموس الثالث
لكن كيف وصلنا نص هذا المرسوم؟
 لقد نقش هذا المرسوم على الحجر الجيري باللغة المصرية القديمة بالخطين الهيروغليفي والديموطيقي وكذلك باللغة اليونانية، ووصلتنا منه أربع نسخ، ثلاثة منها بالمتحف المصري بالقاهرة، والرابعة بمتحف اللوفر بباريس، والنسخ التي وصلتنا من المرسوم تكمل بعضها البعض وهى جميعها متفقة في المعنى، وإن جاءت بها اختلافات طفيفة في النصوص، وقد نشر الترجمة العربية الكاملة لهذا المرسوم عالم الآثار المصرية سليم حسن في كتابه "مصر القديمة"...
 لكن هل يقتصر المرسوم على موضوع إصلاح التقويم؟
 إن مرسوم كانوب نص طويل يتناول عدة موضوعات تدور حول الإشادة ببطليموس الثالث وزوجته، وتعدد أعمالهما، وتتحدث عن وفاة ابنتهما الصغيرة، وعن قرار المجلس بتقديسها، وتحديد يوم للاحتفال بعيدها، لكن يبدو أن الهدف الحقيقي من إصدار المرسوم هى تلك الفقرة التي تنص على إصلاح التقويم المصري القديم.
 إذا ما علاقة التقويم المصري القديم الذي مازلنا إلى الآن نستخدمه في مصر بالتقويم الشمسي الميلادي المستخدم في العالم كله الآن؟

 في سنة 46 قبل الميلاد أراد يوليوس قيصر أن يصلح التقويم الروماني، الذي كان حتى ذلك الوقت تقويمًا قمريًا، فاستدعى الفلكي السكندري سوسيجينس ليقوم بهذه المهمة، فأعاد صياغة التقويم الروماني على نفس النمط الذي كان عليه التقويم المصري القديم بعد إصلاحه في عصر البطالمة، مع اختلاف طفيف وهو توزيع أيام النسئ الخمسة في التقويم المصري على شهور السنة ليصبح شهرًا منها 31 يومصا والشهر التالي 30 يومًا، بينما يكون الشهر الأخير منها وهو شهر فبراير ـ حيث كانت السنة تبدأ في مارس ـ مكونا من 29 يومًا فقط، تصبح ثلاثين يومًا في السنوات الكبيسة التي تأتي مره كل أربع سنوات، وفي عصر الإمبراطور أغسطس أوكتافيوس وبعد إطلاق أسمه على الشهر السادس من شهور السنة أضيف لشهر أغسطس يومًا ليصبح 31 يومًا وخصم هذا اليوم من شهر فبراير.

 أوغسطس أوكتافيوس
وبعد ذلك تحولت بداية التقويم إلى شهر يناير بدلًا من مارس مع احتفاظ الشهور التي تعبر أسمائها عن ترتيبها في السنة القديمة بنفس مسمياتها دون تغيير، وهى شهور سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر وديسمبر، الشهر السابع والثامن والتاسع والعاشر على التوالي.
 وهكذا كان إصلاح التقويم الروماني على يد الفلكي المصري السكندري سوسيجينس، وعلى نفس نمط التقويم المصري القديم، وهو الأساس الذي يقوم عليه تقويمنا العالمي الآن مع التعديلات الطفيفة التي أدخلت عليه في القرن السادس عشر الميلادي على يد البابا جريجوري فيما يعرف باسم الإصلاح الجريجوري للتقويم، والذي أدى إلى الاختلاف بين الأعياد الدينية المسيحية بين الكنيستين الغربية والشرقية، حيث استمرت الأخيرة تحتفل بعيد الميلاد وفقًا للتقويم المصري.
البابا جريجوري الثالث عشر
 فالتقويم المصري هو الأب الحقيقي للتقويم المعاصر...

هناك تعليق واحد:

  1. كل سنة وحضرتك طيب وسنة سعيدة عليك يا رب ونفعنا الله دائماص بعلمك

    ردحذف

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...