الثلاثاء، 27 يناير 2015


شهادة على هامش: المثقف الانتقالي لشيرين أبو النجا

عماد أبو غازي
(مقالي في العدد الجديد من عالم الكتاب، أول الأعداد التي يرأس تحريرها الصديق محمد شعير)

  يعد كتاب شرين أبو النجا "المثقف الانتقالي من الاستبداد إلى التمرد" بحق واحدًا من الكتب المهمة التي صدرت في سنوات ما بعد الثورة متناولة حال الثقافة في مصر، ويجمع الكتاب بين جهد نظري واضح لشرين أبو النجا الباحثة الأكاديمية المتميزة، وتجربة معاشة وشهادة لشرين أبو النجا المثقفة الفاعلة في الحياة الثقافية المصرية على مدار ربع القرن الأخير، فيضيف هذا البعد المزدوج قيمة كبيرة للكتاب.
 وسأحاول في هذه السطور أن أشتبك مع هذا العمل الذي أره قادرًا على إثارة نقاش حي في الساحة الثقافية المصرية، واخترت أن يكون اشتباكي مع الكتاب من خلال نص قصير يجمع ما بين محاولة البحث في التاريخ مهنتي التي أعمل بها، وشهادة الممارس الفاعل في العمل الثقافي الأهلي والرسمي على مدار أربعين عامًا.
 بداية أزعم أننا لو خرجنا من اللحظة التاريخية التي نحن فيها، ونظرنا إلى مصر من أعلى، سنكتشف أننا نعيش في زمن انتقالي منذ قرنين، ونشهد موجات ثورية وانتفاضات شعبية متوالية منذ نهاية القرن الثامن عشر، ما بين انتفاضات في مواجهة استبداد السلطة، وثورات في مواجهة المحتل الأجنبي؛ فمصر في حراك لم ينتهي منذ أواخر القرن الثامن عشر، حراك تتخلله فترات من الجمود الظاهري، والثقافة و"المثقف" ميدان أساسي من ميادين هذا الحراك.
 لقد عرفت مصر المؤسسات الثقافية الحديثة مثل: المطبعة والمكتبة والأرشيف والمتحف؛ ثم الأوبرا والمسارح في القرن التاسع عشر، ومنذ البداية سار العمل الثقافي في ثلاثة مسارات متوازية ومتفاعلة في آن واحد: المسار الحكومي والمسار الأهلي والمسار الخاص الربحي المرتبط بالصناعات الثقافية؛ ففي القرن التاسع عشر بدأت مصر تعرف الصناعات الثقافية الحديثة، مثلما عرفت المؤسسات الحكومية الثقافية الكبرى، وفيه أيضا ظهرت الجمعيات الأهلية العاملة في المجال الثقافي. وإلى جانب هذه القطاعات الثلاثة العاملة في المجال الثقافي: القطاع الحكومي والقطاع الخاص والقطاع الأهلي، هناك أيضا جماعات المصالح من نقابات واتحادات وغرف صناعة والتي تعبر عن العاملين في الحقل الثقافي وتدافع عن مصالحهم.
 ورغم أن العمل الثقافي ظل دومًا قائمًا على هذه القطاعات مجتمعة إلا أن المرحلة الشمولية شهدت سيطرة للدولة على كل القطاعات من خلال بنية تشريعية تخضع كل هذه المؤسسات لأشكال متعددة من رقابة الدولة وقدرتها على التدخل في عملها. فبعد نجاح حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952 وسيطرتها الكاملة في أعقاب أزمة مارس 1954 بدأت مرحلة جديدة في تاريخ مصر السياسي انعكست بشكل واضح على الساحة الثقافية، فتعاظم دور الدولة في العمل الثقافي وتراجع دور العمل الأهلي على الأقل في العقدين الأولين من هذه الحقبة، كما تأثرت الصناعات الثقافية وخضع الكثير منها لسيطرة الدولة.
 وقد عرفت مصر وزارة الثقافة تحت هذا المسمى لأول مرة عام 1958، لتكون بذلك أول وزارة للثقافة في العالم العربي والقارة الإفريقية بل ومن أوليات وزارات الثقافة على مستوى العالم. وكان النظام الجديد بعد يوليو 1952 قد أنشأ وزارة باسم وزارة الإرشاد القومي تولاها عند تأسيسها في نوفمبر 1952 السياسي المخضرم فتحي رضوان مؤسس الحزب الوطني الجديد، والذي كان قد شارك في الثلاثينات في تأسيس مصر الفتاة، ويبدو أن فكرة وزارة الإرشاد القومي جاءت باقتراح منه، والاسم الذي حملته الوزارة يحمل دلالة مهمة، فهي وزارة تتولى مسئولية التوجيه وصياغة العقل المصري، وتدريجيًا تم تأسيس مؤسسات حكومية جديدة للعمل الثقافي أضيفت لما سبق تأسيسه منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، فتأسست مصلحة الفنون ثم المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وفي أكتوبر عام 1958 أصبح مسمى الوزارة وزارة الثقافة والإرشاد القومي، وتولاها أحد ضباط يوليو الدكتور ثروت عكاشة الذي يعتبر بحق الأب المؤسس لوزارة الثقافة ومؤسساتها في مصر، وخلال مرحلة الستينيات تناوب على الوزارة شخصيتان من أصول عسكرية تبنى كل منهما سياسة مختلفة عن الآخر: الدكتور ثروت عكاشة والدكتور عبد القادر حاتم، ففي الوقت الذي تعامل فيه الأول مع الثقافة باعتبارها صناعة ثقيلة ينبغي أن توليها الدولة اهتمامًا واضحًا، كان تركيز الثاني على مجال الإعلام، وقد حرص في أغلب فترات توليه للوزارة أن يجمع بين الإعلام والثقافة تحت مظلة واحدة. وطوال تلك الفترة كانت الدولة تقوم برسم السياسة الثقافية وتشرف على تنفيذها، وتراجع النشاط الأهلي حيث خضعت الجمعيات الأهلية والمؤسسات الخاصة لقيود مشددة من الدولة، كما تراجعت الصناعات الثقافية الخاصة مع موجة التأميمات في مطلع الستينيات، حيث طال التأميم كثير من دور النشر الكبرى وشركات الإنتاج السينمائي، ودخلت الدولة بقوة في مجال الصناعات الثقافية من خلال وزارة الثقافة، لكن هذا لا يعني أن الدولة نجحت نجاحًا كاملًا في استخدام الثقافة في السيطرة على العقول، فقد كانت هذه مهمة الإعلام بالدرجة الأولى، لكن وزارة الثقافة نجحت في استيعاب أعدادًا من المثقفين والمبدعين من مختلف الاتجاهات داخل مؤسساتها، الأمر الذي لم يكن جديدًا على الدولة المصرية الحديثة منذ نشأتها.

 بالنسبة لجيلي الذي تفتح وعيه السياسي على لحظة مروعة في تاريخ مصر الحديث، أعني هزيمة يونيو 1967، كان الخروج الجماهيري إلى الشارع في مواجهة السلطة في مظاهرات فبراير 68 الطلابية العمالية لأول مرة منذ استقر الحكم الشمولي في 1954 إيذانًا ببداية مرحلة جديدة في تاريخ مصر، أو هكذا كان يبدو الأمر وقتها. كانت تلك اللحظة بداية لخروج قطاع من المثقفين من تحت سيطرة الدولة، بدأت بتكوين كيانات ثقافية مستقلة عن السلطة، وإصدارات مستقلة، وهنا كانت تجربة "جاليري 68" التي لم تعش طويلًا تجربة رائدة بحق، كذلك تشكلت جمعية كُتّاب الغد التي قام عليها مجموعة من الأدباء والكتاب اليساريين ـ معظمهم من الشباب وقتها ـ كانوا يحملون رؤية وحلم بمصر مختلفة، شكلوا نواة لتيار جديد مستقل في الثقافة المصرية يستقل عن مؤسسات الدولة ويختلف عن اليسار التقليدي الذي انخرط في تلك المؤسسات، وبدأت "كُتّاب الغد" تدخل مجال النشر بإصدارتها التي لم تستمر طويلًا لكنها كانت محاولة لكسر احتكار الدولة في النشر للمثقفين الشبان.

 كانت التجربتان، تجربة جاليري 68 وتجربة كُتّاب الغد، مصدر إلهام لجيلنا في تخطي قيود النشر الحكومي، أتذكر هنا تجربة طبع الديوان الأول للشاعر حلمي سالم، "حبيبتي مزروعة في دماء الأرض"، الذي صدر عام 1974، كنا وقتها طلابًا في جامعة القاهرة، وكان زميلنا حلمي سالم شاعرًا واعدًا يشارك إلى جانب شعراء من أجيال أكبر منه في الندوات التي ننظمها في الجامعة، وقرر أن يجمع قصائده في ديوان، كانت منافذ النشر الحكومي مغلقة أمامه، فاتفقنا على الاكتتاب بشراء نسخ الديوان مقدمًا، مقابل إيصالات طبعها حلمي نتسلم بها النسخ بعد صدور الديوان، وقد كان، وكانت بالنسبة لنا تجربة مهمة في شبابنا المبكر، أدركنا معها قدرتنا على أن نفعل بعيدًا عن السلطة الثقافية.

 ومما دعم هذا الاتجاه نحو الاستقلال عن المؤسسة الثقافية الرسمية، التغير الواضح الذي شهدته حقبة السبعينيات في اتجاهات العمل بوزارة الثقافة، فمن ناحية غلب الميل لاتجاه الإعلام على حساب الثقافة، ومن ناحية أخرى اتسعت الفجوة بين قطاع من النخبة المثقفة ومؤسسات الدولة الثقافية، حيث تم تدريجيًا استبعاد المبدعين والمثقفين المنتمين لليسار بمختلف اتجاهاته من مؤسسات الوزارة منذ مايو 1971، وفي نفس الوقت تراجع دور الدولة في العمل الثقافي لتنتهي تلك المرحلة بإلغاء وزارة الثقافة ليحل محلها المجلس الأعلى للثقافة مع الإبقاء على هيئة الآثار وهيئة الكتاب وتحويل تبعية قصور الثقافة للمحليات، وتحول وزير الثقافة إلى وزير دولة للثقافة والإعلام، وقد جاء ذلك في سياق سياسة جديدة للدولة لإلغاء الوزارات الخدمية وتحويلها إلى وزارات دولة، وتولي المحليات جزءًا أساسيًا من مسئولية القطاع الخدمي. وكان لهذ الاتجاه وجهه الإيجابي حيث دعم اتجاهًا متصاعدًا لظهور تيار ثقافي مستقل يعمل بعيدًا عن مؤسسات الدولة وفي مواجهتها أحيانًا، فعرفت الساحة الثقافية ظاهرة نشرات ومجلات الماستر التي استمرت حتى منتصف الثمانينيات، والتي اعتمدت على التطور في تقنيات الطباعة والتصوير، فأصبح في مقدور مجموعات المثقفين بجنيهات قليلة إصدار مجلات تحمل مسمى نشرة غير دورية أو كتاب غير دوري لتهرب من قيود قانون الصحافة، يقومون فيها بنشر رؤاهم وإبداعاتهم، واتجه كثير من العاملين في الحقل الثقافي إلى العمل الأهلي الذي أتاح مجالًا للنشاط رغم القيود القانونية، كذلك اتخذت مجموعات من المثقفين اليساريين من الأجيال الجديدة موقفًا معارضًا للانخراط في اتحاد الكُتّاب الذي يحظى برعاية الدولة ورفعوا لسنوات شعار "من أجل اتحاد ديمقراطي مستقل للكُتّاب".

 وربما كان تشكيل لجنة الدفاع عن الثقافة القومية أبرز تجليات صدام قطاع مهم من المثقفين مع السلطة السياسية في أواخر السبعينيات، فقد تشكلت اللجنة ككيان معارض للتطبيع الثقافي مع إسرائيل وتواصل عملها الثقافي والبحثي ونشاطها الجماهيري في الشارع حتى أواخر الثمانينيات، عندما بدأت تتراجع تدريجيًا بعد أن تبنت وزارة الثقافة موقفًا رسميًا ضد التطبيع الثقافي مع إسرائيل منذ أواخر عام 1987 عندما تولى فاروق حسني منصب وزير الثقافة.

 ومع السنوات الأولى للثمانينيات وعقب اغتيال الرئيس أنور السادات بدأت سياسة ثقافية جديدة للدولة، قامت على استخدام الثقافة كمدخل لاستعادة وجود مصر في العالم العربي بعد المقاطعة التي بدأت مع كامب ديفيد، وعلى مستوى الداخل السعي نحو "التصالح" مع المثقفين بمختلف اتجاهاتهم والعمل على استعادتهم لمؤسسات الدولة الثقافية، وقد تصاعد هذا الاتجاه بشكل واضح منذ أواخر الثمانينيات، ودفع هذا بكثير من المثقفين إلى العودة لأحضان وزارة الثقافة والسعي للعمل من خلال مؤسساتها، فهدأت وتيرة العمل الثقافي خارج مؤسسات الدولة، وتراجعت الإصدارات المستقلة، فمجلات الدولة الثقافية تفتح أبوابها للجميع، ومؤسساتها ترحب بالاختلاف، والخلاف حول الموقف من التطبيع زال، وتواكب هذا مع تصاعد موجة أعمال العنف والإرهاب، والترويج لمقولة المواجهة الثقافية للفكر الذي يقف وراء الإرهاب.

 وبدأت مجموعات من النخبة الثقافية تقنع نفسها بإمكانيات متاحة لمحاولة الإصلاح من الداخل، فبدأنا نجد أسماء من الجماعة الثقافية من أجيال مختلفة ظلت لسنوات تُحسب على الثقافة المستقلة أو المعارضة الثقافية تندمج في عمل المؤسسات الثقافية الرسمية، بل وتتولى مناصب قيادية فيها، وكنت منهم.

 ومن اللافت للنظر أنه منذ تسعينيات والقرن الماضي صعدت إلى السطح من جديد الجماعات المستقلة في مجال الثقافة، كما ظهرت أشكال جديدة من التجمعات الثقافية في شكل منظمات مجتمع مدني وشركات ومؤسسات خاصة لعبت دورًا مؤثرًا في الواقع الثقافي، وشهدت السنوات السابقة على الثورة عودة الانقسام إلى الساحة الثقافية ونمو تيار الثقافة المستقلة.

لقد شهدت السنوات التي سبقت ثورة 25 يناير 2011 ظواهر ثقافية كانت بمثابة التمهيد للثورة وشق الطريق أمامها؛ فمنذ عام 2005 عرفت مصر تغيرًا واضحًا في ثقافة المجتمع السياسية، ومهد الطريق للثورة السلوك الاحتجاجي في الشارع وظهور حركات معارضة لمشروع التوريث والتمديد ومواجهة الفساد والدعوة للتغيير، وقد شارك في هذه الحركات وأنشطتها المختلفة رموز ثقافية وإبداعية بارزة، وكان جزء من حركتهم موجها ضد السياسة الثقافية للدولة.

 كما اتسع نشاط الجماعات الثقافية المستقلة وأضحت ظاهرة من ظواهر الحراك العام في المجتمع، وسعت لتقديم ثقافة بديلة للثقافة الرسمية، وظهرت ساحات جديدة للنشاط الثقافي نجحت في جذب قطاعات متزايدة من الجمهور رغم الحصار الأمني.

 وعلى مستوى الإبداع ظهرت في السنوات السابقة على الثورة أعمال عديدة فضحت فساد النظام وحرضت على الثورة عليه، سواء في مجال السينما أو المسرح أو الغناء والموسيقى أو الأنواع الأدبية المختلفة، لقد كان هناك تغيير في الحالة الإبداعية قبل الثورة. كما أخذ التدوين كظاهرة ونوع إبداعي جديد يحتل مكانًا ومساحة، ويكتسب قدرة متزايدة على التأثير.

 لقد انتهت المرحلة السابقة على الثورة وهناك مجموعة من المشكلات الخطيرة على الساحة الثقافية: انتهت بحالة من الانقسام في الجماعة الثقافية المصرية حول السياسات الثقافية للدولة، وبوضع يشوبه قدر كبير من عدم الثقة بين وزارة الثقافة وقطاع مهم من المثقفين والمبدعين؛ انتهت بوزارة تدعم الأنشطة الثقافية المستقلة، لكن دون رؤية واضحة أو منهج محدد أو سياسة ثابتة مستقرة؛ انتهت بموازنة ضعيفة للثقافة، أغلبها موجه للأجور، وأقلها للأنشطة الثقافية، ويتم توزيع هذا القسم المخصص للأنشطة الثقافية بشكل غير عادل على مستوى الوطن، حيث تبتلع أنشطة العاصمة الجزء الأكبر منها؛ انتهت بوزارة متضخمة بجهاز بيروقراطي يضم عشرات الآلاف من العاملين، الكثير منهم غير مؤهلين للعمل بالأجهزة الثقافية؛ انتهت ببنية أساسية تشمل مئات المواقع الثقافية على مستوى مصر، لكن ما يقرب من نصفها متوقف عن العمل، والبعض منها يقوم على إدارته عناصر غير مؤهلة، أو معادية للثقافة والإبداع، وبمشروعات للتوسع في هذه البنية الأساسية لكنها مشروعات أكبر من الموازنات المعتمدة مما أدى إلى استمرار العمل فيها لسنوات دون انجاز.

 ومع أول حكومة تشكلت بعد نجاح الثورة في إسقاط رأس النظام تم تكليفي بحقيبة وزارة الثقافة، هل كنت أصلح لهذا المنصب بعد أن عملت في مناصب قيادية داخل وزارة الثقافة لمدة اثنتي عشر عامًا في ظل النظام القديم؟ لا أملك إجابة قاطعة، ربما جاء اختياري لأني محل قبول من قطاع من الدولة وقطاع من الشارع الثقافي وقطاع من الثوار، بمعنى ما، وزير توافقي، عمومًا كان قراري منذ قامت الثورة أن علاقتي بالعمل الثقافي الرسمي لابد أن تنتهي مع نهاية المرحلة الانتقالية، إن لم يكن قبل ذلك، لأن الأوان قد آن ليتولى جيل جديد مختلف دفة الأمور، وما حاولت أن أفعله خلال الشهور الثمانية التي أمضيتها حتى استقالتي أن أمهد لهذا التغيير.

هل يمكن أن يحدث التغيير بضربة واحدة؟ هذا ما يراه البعض، لكن محاولاتي كانت تتسم بالإصلاحية، ربما كان هذا خطأ، لكن هذه كانت حدود طاقتي، لذلك وصفت نفسي في حديث صحفي أثناء الوزارة، بأني إصلاحي في زمن ثوري.

كان المنطلق الأول أن وزارة الثقافة ليست وزارة للمثقفين، وأن هذا المفهوم لابد أن يتغير، فوزارة الثقافة وزارة لكل المواطنين، وأن الوظيفة الأساسية للدولة في مجال الثقافة في النظم الديمقراطية تتلخص في ثلاثة أهداف أساسية:

الأول: حماية التراث الثقافي المادي واللامادي بما فيه من آثار ومخطوطات ووثائق وموروث ثقافي شعبي تراكم عبر الزمن، بالإضافة إلى التراث الفني الحديث بتنويعاته المختلفة، وتشمل وسائل الحماية إقامة مؤسسة لجمع هذا التراث وحفظه، كما تشمل أعمال الصيانة والترميم، والتشريعات القانونية التي تحقق هذه الحماية.

 الثاني: حماية حقوق الملكية الفكرية للمبدعين، وتشجيع الصناعات الثقافية الحديثة والحرف التراثية والإنتاج الثقافي والإبداعي بمختلف أنواعه الأدبية والفنية، بما في ذلك الحماية ضد المصادرة.

 الثالث: توفير الخدمات الثقافية للمواطنين، وتوفير البنية الأساسية لممارسة الأنشطة الثقافية والاستمتاع بها.

 ووصولًا لتحقيق هذه وعلى الصعيد الرسمي بدأت وزارة الثقافة مشروعًا للمقرطة، من خلال تغيير أساليب الإدارة، ومشاركة المجتمع المدني فيها، وإعادة توزيع الموازنات بشكل يحقق تلبية أكثر لاحتياجات المناطق المحرومة من الخدمة الثقافية، وتعديل برامج الأنشطة وتحديد الأولويات. جاء التغيير في أسلوب الإدارة من خلال تشكيل مجالس إدارات لهيئات الوزارة ومراكزها المتخصصة من خارج قيادات المؤسسة الرسمية، كما بدأت تجربة انتخاب المكاتب الفنية للفرق وانتخاب مديرين تلك الفرق من الفنانين والفنيين العاملين بها، وقد اكتملت التجربة في البيت الفني للمسرح، وجزئيًا في دار الأوبرا، وكانت تقابل بمحاولات لإعاقتها وإصرار من بعض المسئولين على عدم إنجاحها في البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية.

 كما بدأت الوزارة في تطبيق سياسة جديدة لتنظيم المهرجانات السينمائية الدولية من خلال المجتمع المدني بدعم جزئي من وزارة الثقافة وفقًا لقواعد وشروط شفافة ومعلنة. كما تم تحويل فائض موازنة المهرجانات إلى هيئة قصور الثقافة لتنظيم أنشطة في المحافظات. وفي الوقت نفسه بدأ مجلس الإدارة الجديد لصندوق التنمية الثقافية في وضع قواعد واضحة لدعم الصندوق للجمعيات الأهلية والمجتمع المدني والكيانات المستقلة. وفي اتجاه لدعم الفرق الفنية المستقلة وفرق الهواة تقرر فتح المسارح الملحقة بالمتاحف والمركز الثقافية أمام هذه الفرق لتقديم عروضها.

 وحاولت الوزارة أن تنفتح على الجماعة الثقافية وعلى الكيانات الثقافية المستقلة من خلال حوار متواصل أداره أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، وكانت حصيلة الحوار أسلوب جديد في تشكيل المجلس الأعلى للثقافة كان من المفترض أن يكتمل في منتصف عام 2012، كانت الفكرة أن يستقل المجلس عن الوزارة ويتحول إلى جهاز للتخطيط ورسم السياسات والرقابة على الأداء، وكان التصور قائمًا على أن يتم هذا التغيير في دور المجلس على مراحل؛ المرحلة الأولى بإعادة تشكيل اللجان المتخصصة للمجلس مع انتهاء دورة عملها في صيف 2011، على أن يتم التشكيل بناء على ترشيحات من الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات البحثية والأكاديمية والنقابات والاتحادات وغرف الصناعة في مجال عمل كل لجنة من لجان المجلس، بحيث يتم تشكيل اللجنة من الأسماء التي تحصل على أكبر عدد من الترشيحات مع مراعاة مجموعة من القواعد، مثل تمثيل الشباب والمرأة والتخصصات المختلفة في مجال عمل اللجنة فضلًا عن التمثيل الجغرافي، وبعد ذلك تقوم كل لجنة بانتخاب مقررها، وتشكل هذه اللجان الجمعية العمومية للمجلس، على أن يشكل المجلس نفسه من مقرري اللجان، ويقومون في أول اجتماع لهم بانتخاب ستة أعضاء يكتمل بهم تشكيل المجلس، وتأتي المرحلة الأخيرة باجتماع المجلس بتشكيله الجديد لمناقشات مقترح نظامه الأساسي ولائحته التنفيذية، المتضمنة انتخاب الأعضاء للأمين العام ثم صدور قرار جمهوري بتعينه على غرار ما يحدث في مجمع اللغة العربية، كما كان التصور يقوم على أن لا يكون للأعضاء الذين يدعون بحكم مناصبهم صوت معدود عند التصويت على القرارات التي يتخذها المجلس، وقد تم التراجع عن هذا المشروع على مراحل بعد استقالة الأمين العام ثم استقالتي في نوفمبر 2011.

 وبعد... فهذه محاولة من مشارك في مرحلة من مراحل الانتقال للاشتباك مع مثقف شيرين أبو النجا الانتقالي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...