السبت، 10 يناير 2015


 اليوم تمر الذكرى السادسة لرحيل محمود أمين العالم، السياسي والمفكر والناقد الذي عاش حياته حالمًا بوطن نستحقه...
 أعيد اليوم نشر ما كتبته عنه عقب رحيله في مخربشاتي بجريدة الدستور.

 


مخربشات

العالم...عطاء حتى اللحظة الأخيرة

عماد أبو غازي

  مشهد مهيب لم أره من قبل لجبل المقطم، قمة عالية مدببة تشبه أهرامات الأجداد، تعلو حنية تحتضن من يقفون في ظلالها بحنو، في موقع خاص بسفح الجبل في رحاب مقام العارف بالله عمر بن الفارض، هناك أودعنا جثمان الشيخ الجليل، أودعنا جسده الذي تحمل عذاب السنين لأنه حمل في عقله وقلبه وروحه هموم الإنسان، أودعناه في أحضان جبل المقطم الذي يحيط بالقاهرة، القاهرة التي ولد في أحد أحيائها العريقة، حي الدرب الأحمر، وعشقها، كان في وداع الرجل أفراد أسرته الصغيرة وبعض من أسرته الكبيرة، مجموعة من رفاق دربه وتلاميذه ومحبيه.
 صباح العاشر من يناير رحل الكاتب والمفكر اليساري محمود أمين العالم وقد قارب السابعة والثمانين، عمر أفناه في خدمة القيم التي آمن بها وعاش من أجلها وناضل ليحققها في الوقع، وفي المقدمة منها حرية الإنسان؛ حرية الإنسان من كل قيد يقف في طريق ارتقائه وتقدمه، حرية الإنسان التي لا تتحقق دون حرية الوطن، لا تتحقق دون تحرر الإنسان من الاستغلال، لا تتحقق دون ديمقراطية وعدالة اجتماعية، لا تتحقق دون تحرر الإنسان من الأفكار الظلامية التي تحد من انطلاق عقله ووجدانه.
 ولد محمود أمين العالم في أعقاب الثورة المصرية الكبرى، ثورة 1919، كانت سنوات طفولته سنوات المد والجذر في النضال من أجل الاستقلال والدستور، تفتح وعيه مثل أبناء جيله من مواليد السنوات الأولى من العشرينيات على ثورة الشباب التي أعادت دستور 1923.
 وفي شبابه في الأربعينيات من القرن الماضي حيث درس في جامعة فؤاد الأول، كانت حركة اليسار الماركسي تنمو في أوساط الطلاب والعمال، وسرعان ما أصبح محمود أمين العالم واحدًا من القيادات البارزة في الحركة الشيوعية المصرية، لهذا السبب كان من ضحايا التطهير الذي قام به انقلاب يوليو في الجامعات خلال الفترة من 1952 إلى 1954، أو لنقل بدقة أكثر كان واحدًا من العقول المبدعة التي فقدتها الجامعة بسبب التطهير الذي طال مجموعة من أبرز أساتذة الجامعة من الماركسيين والوفديين وممن ينتمون إلى أي فكر حر لا يقبل أن تساق الأمة كالقطيع.
 فقدت الجامعة المعيد محمود أمين العالم الذي كان قد حصل على درجة الماجستير في الفلسفة من كلية الآداب في رسالة بعنوان: " فلسفة المصادفة الموضوعية في الفيزياء الحديثة ودلالتها الفلسفية"، لكن مصر لم تفقد السياسي المدافع عن الجماهير الكادحة وعن حرية الوطن وحرية الإنسان، ولم تفقد المفكر والناقد الذي شق طريقا جديدًا "في الثقافة المصرية" واشتبك هو وزميله ورفيق دربه عبد العظيم أنيس مع عميد الأدب العربي طه حسين الذي كان يمثل جيلًا سابًقا ومدرسة مغايره في معارك فكرية ونقدية أثرت في الحياة الثقافية في منتصف الخمسينيات وأنبأت عن ميلاد جيل جديد في حياتنا الثقافية.

 

 
 عبد العظيم أنيس
مرة أخرى وبعد محنة الإبعاد عن الجامعة كانت محنة الاعتقال في واحدة من الحملات التي شنها نظام عبد الناصر ضد المختلفين معه في الرأي، كان محمود أمين العالم أحد من طالتهم الاعتقالات التي تعرض لها الشيوعيون المصريون في يناير 1959، قضى بعضا من أجمل سنوات العمر رحالًا بين سجون النظام ومعتقلاته: قراميدان، الحضرة، القلعة، أبو زعبل، طرة، الواحات، مثل أمام المحاكم العسكرية، وتعرض لحملات التعذيب الهمجية التي سقط ضحية لها بعض رفاقه في مقدمتهم شهدي عطية الشافعي، بعد قرابة ست سنوات بين السجون والمعتقلات خرج مع من خرج في إطار المصالحة بين نظام عبد الناصر والشيوعيين المصريين سنة 1964 والتي توجت بقرار إنهاء الوجود التنظيمي المستقل للشيوعيين.

 شهدي عطية الشافعي
خلال السنوات الأخيرة من الستينيات قدم محمود أمين العالم عطاء متنوعًا من خلال مؤسسات صحفية وثقافية عمل فيها وتولى رئاسة بعضها، مؤسسة أخبار اليوم ومؤسسة التأليف والنشر ومؤسسة المسرح، وفي أعقاب أزمة مراكز القوى في مايو 1971 ترك العمل في مؤسسات الدولة الثقافية والإعلامية، وترك مصر كلها متوجهًا إلى أوروبا، حيث استقر في فرنسا ودرّس في جامعاتها، وكان طوال سنوات مثالًا للمثقف والمفكر المصري الذي تفخر به ثقافة بلاده، بما يحمله من عمق فكري ووعي بقضايا وطنه وبعد إنساني يضفر قضايا الوطن بقضايا الإنسان في كل مكان.

محمود أمين العالم مع ابنته شهرت
 عاد في الثمانينيات وقد وصل الستين من عمره، لا ليستريح ولا ليستكين، بل ليواصل البناء في الثقافة المصرية والعربية، ليواصل النضال من أجل القضايا التي آمن بها ودافع عنه دون كلل، لم تثنه سنوات الاعتقال والسجن ولا سنوات الغربة، ولم تجعله يحد عن أفكاره، لقد طور هذه الأفكار في مرونة لكنه لم يتخل أبدًا عن مبادئه.
 في السنوات الأخيرة أسس اثنتين من أهم المجلات الفكرية في مصر والعالم العربي، مجلة "قضايا فكرية" التي كانت مشروعه الخاص، قدم من خلاله أجيالًا جديدة من الباحثين، وطرح مجموعة من الموضوعات المهمة والشائكة، ومجلة "الفلسفة والعصر" التي صدرت عن لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة عندما كان محمود أمين العالم مقررًا لها.
 
 
 استمر العالم في عطائه حتى اللحظة الأخيرة، عندما شعر بوطأة المرض والسن في العامين الأخيرين تخلى عن مهامه كمقرر للجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة وعن عضويته في بعض اللجان، لكنه أبدًا لم يتخل عن دوره الفكري والثقافي والنضالي حتى آخر يوم في حياته، ظل متفاعلًا مع العصر وقضاياه لم يتجمد عند لحظة من التطور كما يفعل الكثيرون، بل كان منفتحًا على كل جديد متقبلًا للاختلاف والتطور ساعيًا من أجل الإنسان هدفه الأسمى طوال حياته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...