الأربعاء، 11 فبراير 2015


حكايات المخلوعين

عماد أبو غازي

 اليوم 11 فبراير  تمر أربعة أعوام كاملة على خلع الرئيس السابق حسني مبارك بعض أن أمضى قرابة ثلاثين عامًا في رئاسة الدولة متفوقًا على كل من حكموا مصر على مدى القرنين الماضيين في عصور الباشوية والخديوية والسلطنة والملكية والجمهورية، ما عدا محمد علي باشا الذي جاوزت فترة حكمه الأربعين سنة بسنوات قليلة.
 
 
 

 وعلى مدى تاريخ مصر الحديث الممتد منذ تولي محمد علي الحكم سنة 1805 بعد ثورة شعبية خلعت الباشا العثماني خورشيد وأرغمت السلطان على إسناد باشوية مصر إلى محمد علي، توالى على حكم مصر أربعة باشاوات، وثلاثة خديويين، وسلطانيين أصبح ثانيهما أول ملوك مصر في العصر الحديث، وثلاثة ملوك، وستة رؤساء للجمهورية ورئيسان مؤقتان؛ من بين هؤلاء الحكام تم اغتيال اثنين منهم، وخلع سبعة كان أخرهم محمد مرسي، ورحل الباقون بالوفاة بأسباب طبيعية، ونحكي اليوم حكايات المخلوعين من خورشيد باشا إلى محمد نجيب، أما حكاية مبارك ومرسي فعشناها وما زلنا نعيش فيها.

 

 حكاية خورشيد أول المخلوعين... عندما اختار المصريون حاكمهم لأول مرة

 عاشت مصر في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر لحظات تحول شكلت مسار التاريخ المصري الحديث، لقد كانت مصر في تلك السنوات مسرحًا لصراع بين ثلاث قوى تسعى كل منها إلى فرض سيطرتها على البلاد والانفراد بحكمها؛ الأتراك العثمانيون، وأمراء المماليك الجراكسة الذين اقتسموا خيرات البلاد مع العثمانيين، وأصبحوا معاونين لهم منذ سقطت دولتهم، وإنجلترا التي انتبهت إلى أهمية موقع مصر وخطورته الاستراتجية عندما احتل الفرنسيون البلاد. لكن غاب عن هذه القوى المتصارعة أن هناك عنصرًا جديدًا ظهر على الساحة مجددًا هو الشعب المصري، بدأت قوته في الظهور من جديد في السنوات السابقة على مقدم الحملة الفرنسية من خلال حركات الاحتجاج المتكررة ضد طغيان المماليك وأعوانهم، وكانت أهم تلك الحركات ثورة يوليو 1795 التي قادها مشايخ الأزهر، ونجحت في إرغام إبراهيم بك ومراد بك، قائدا المماليك على توقيع وثيقة التزاما فيها بعدم فرض ضرائب جديدة على الناس، وخلال سنوات الحملة الفرنسية على مصر انخرط المصريون في النضال من أجل تحرير بلادهم، فثارت القاهرة ثورتين كبيرتين، وحمل المصريون في الدلتا والصعيد السلاح في وجه قوات الحملة الفرنسية، واستمرت مقاومتهم لها إلى أن رحلت.

 وخلال حركة المقاومة تبلورت قيادة شعبية جديدة من بعض مشايخ الأزهر وكبار التجار وشيوخ الطوائف الحرفية، وانضم إلى هذه القيادة السيد عمر مكرم نقيب الأشراف بمصر والذي كانت له مكانة كبيرة لدى المصريين. 
 السيد عمر مكرم
 منذ رحلت الحملة الفرنسية عن مصر في سبتمبر من سنة 1801 لم يعد الاستقرار إلى البلاد مرة أخرى، ولم يتمكن العثمانيون من استعادة سطوتهم الكاملة على مصر، ففي أربع سنوات تولى باشوية مصر من قبل السلطان العثماني خمسة باشاوات انتهى حكمهم معزولين أو مقتولين، كان أولهم خسرو باشا الذي ثار المماليك والجنود عليه ففر من البلاد وعزله السلطان العثماني، ليحل محله طاهر باشا الذي قتل بعد عشرين يوما من توليه، ليحل محله أحمد باشا لفترة قصيرة انتهت بطرده، فعين السلطان علي باشا الجزائرلي في مكانه لينتهي مقتولًا بعد شهور قليلة، ليأتي خامسهم خورشيد باشا الذي خلعه الشعب المصري بعد أربعة عشر شهرًا من توليه.

 خلال تلك السنوات الأربع أخذت أحوال البلاد تسير من سيئ إلى أسوأ وازدادت معاناة المصريين بسبب مظالم المماليك والأتراك وتدخل القوى الأوروبية في شئون البلاد، فارتفعت الأسعار واختفت السلع من الأسواق وزادت الضرائب وغاب الأمن ففاض الكيل بالمصريين، خصوصًا بعد أن اعتمد الباشا العثماني الذي كان يحكم مصر باسم السلطان على فرقة الجنود الدلاة المعروفين بقسوتهم وشراستهم في قمع حركات التمرد والاحتجاج بدلًا من أن يسعى لحل مشاكل الناس.

  وفي يوم الأربعاء أول مايو سنة 1805 بدأت الأحداث تتصاعد عندما اعتدى الدلاة على أهالي مصر القديمة التي كانت معقلًا من معاقل التمرد على الباشا العثماني، وأخرجوهم من بيوتهم ونهبوا مساكنهم وقتلوا البعض منهم، فكانت هذه شرارة الثورة التي أطاحت بالباشا العثماني، وفرضت إرادة المصريين على السلطان، فخرج سكان القاهرة وضواحيها إلى الشوارع في تحد واضح للجيش العثماني، مطالبين بإخلاء المدينة من الجند الدلاة ومحاسبة قادتهم على ما ارتكبوه من مذابح، وأعطى زعماء الشعب مهلة للباشا العثماني تنتهي يوم السبت 11 مايو لتنفيذ مطالبهم، لكنه لم يصدق أن الإنذار حقيقي واغتر بقوته العسكرية ولم يستجب لهم. وفي اليوم التالي لانتهاء المهلة ركب المشايخ  إلى بيت القاضي، واجتمع به الكثير من المتعممين والعامة والأطفال، حتى امتلأ المكان بالناس، وتعالت الهتافات "يا رب يا متجلي اهلك العثملي"، وطلب المجتمعون من القاضي أن يستدعي رجال الدولة لتقديم عرضحال لهم بطلبات الشعب لتقديمه للباشا، فقدموه له وأخذه ووعدوهم بالرد في اليوم التالي.

 وحاول الباشا العثماني المماطلة فأرسل إلى القاضي والعلماء يطلب حضورهم للقلعة للتشاور معهم في أحوال البلاد، وأحس زعماء الشعب بسوء النية، وبدلًا عن الصعود للقلعة يوم الاثنين، اتخذوا خطوة غير مسبوقة في تاريخ مصر، فتوجهوا وحولهم جموع المتظاهرين إلى محمد على، وعرضوا عليه حكم مصر بشروطهم، فتمنع في البداية لكنه قبل في آخر الأمر، فنصبه السيد عمر مكرم والشيخ عبد الله الشرقاوي حاكمًا لمصر ضاربين عرض الحائط بالسلطان العثماني وبنائبه في القلعة وبقوته التي كانت تحتل مصر، وكان ذلك عصر يوم الاثنين 13 مايو 1805، وأعلن الخبر في القاهرة وفي أنحاء البلاد في الليلة نفسها.

 إن ما حدث كان تحولًا مهمًا في التاريخ المصري، تحولًا توج مرحلة من النضال الشعبي امتدت لأكثر من عشر سنوات، حاول خلالها المصريون أن يستعيدوا أمر بلادهم بأيديهم، ففي ذلك اليوم نجح المصريون لأول مرة في خلع الحاكم واختيار بديل له يتولى شئونهم، كما نجحوا في وضع الشروط التي يولونه الحكم على أساسها، وقد رأى المصريون في ذلك الحين أن محمد علي هو الشخصية التي تصلح لتولي الأمر، بعد أن ظل طوال أربع سنوات يتقرب منهم ويتودد إليهم، لكن الأمور سارت في مسار آخر، فتخلص محمد علي من قادة الشعب الذين نصبوه حاكمًا بالنفي أو شراء الذمة أو القتل، وأسس نمطًا جديدًا من الاستبداد.

الخديوي إسماعيل الطموح والانكسار

 حكم إسماعيل باشا بن إبراهيم باشا بن محمد علي مصر في الفترة من يناير 1863 إلى يونيو 1879، وهو الخامس من أفراد الأسرة العلوية الذين تولوا حكم مصر، وقد تولى الحكم وقد بلغ من العمر 32 عاما، فهو من مواليد 31 ديسمبر 1830، وكان من تلاميذ البعثات التي أوفدها جده محمد علي إلى باريس، ويعد عصره من أهم عصور التحول في تاريخ مصر في القرن التاسع عشر، كان الرجل صاحب مشروع لتحديث مصر على النمط الأوروبي، ولجأ للتوسع في الاستدانة لتحقيق مشروعاته، فأوقع مصر في قبضة القوى الاستعمارية الأوروبية التي سعت إلى عزله في النهاية، كان في ذات الوقت متمسكًا بالسلطات الاستبدادية للحاكم، الأمر الذي أدى إلى تكرار الصدام بينه وبين الحركة الوطنية الصاعدة في تلك الفترة، لكن عصره شهد ظهور النظام النيابي والنظام الوزاري كما شهد ظهور الأحزاب السياسية في مصر لأول مرة.
 ويلخص المؤرخ عبد الرحمن الرافعي عصره في كلمات موجزة، فيقول: "عصر له أثره النافع كما له أثره الضار في تطور الحركة القومية، ذلك لما تفتحت فيه من آمال، وما قام فيه من حضارة وعمران، وما تخلله واقترن به من أخطاء وأرزاء أفضت إلى تدخل الدول الأجنبية في شؤون مصر، وتصدع لها بناء الاستقلال المالي ثم السياسي. بهذه الكلمة الوجيزة يمكننا أن نلخص عصر إسماعيل، فهو يمثل من ناحية عهد تقدم وعمران، ويعد من ناحية أخرى عهد القروض المشؤومة والأغلاط المتلاحقة التي عصفت بالبلاد."

 لقد سعى إسماعيل منذ توليه باشوية مصر إلى الحصول على وضع مميز للولاية، فحصل على عدة فرمانات من السلطنة العثمانية منحته سلطات أكبر في إدارة أمور البلاد، وحاز لقب خديوي له ولأبنائه الذين حول وراثة الحكم إليهم من بعده، كما جعل لمصر علمًا مختلفًا عن علم الدولة العثمانية، وفي عهده شهدت مصر نهضة ثقافية وفنية وتعليمية، ولجأ إليها كثيرين من الشوام فرارًا من عسف العثمانيين، فأسهموا في بناء النهضة المصرية، لكن عصره شهد أيضًا محاولات للتضييق على الحريات ومصادرة الصحف ونفي المعارضين، كان عصر تحول وصراع. ونجحت الحركة الوطنية في انتزاع نظام نيابي ولائحة وطنية، أو دستور لإدارة البلاد، وكانت سنوات السبعينيات من القرن التاسع عشر مرحلة صراع بين الحركة الوطنية والخديوي، كما كانت سنوات للدفاع عن البلاد في مواجهة التدخل الأوروبي في شؤون البلاد، التدخل الذي فتحت قروض الخديوي الباب أمامه، كما كانت سنوات من الضغط المستمر من القوى الاستعمارية الأوروبية على الخديوي إسماعيل.

 وعندما اتجه الخديوي إسماعيل إلى استخدام الحركة الوطنية الصاعدة في مواجهة التدخل في شؤون مصر المالية والسياسية، قررت الدول الأوروبية عزله عن خديوية مصر. كانت الدول الأوروبية قد فرضت على إسماعيل نظامًا للرقابة الثنائية الأنجلو ـ فرنسية على اقتصاد البلاد، ثم حل محل هذا النظام تعيين وزيرين أوروبيين في الحكومة المصرية لمراقبة الموارد والمصروفات والسيطرة عليها.
 وعندما استجاب الخديوي إسماعيل في إبريل سنة 1879 إلى اللائحة الوطنية التي وضعها ممثلو الأمة، فيما يتعلق بتسوية الديون وتشكيل حكومة وطنية مسئولة أمام المجلس النيابي، وأصدر الخديوي مرسوما بتسوية الدين معلنا في ديباجته أنه أصدره بناء على ما عرضته الأمة، وكلف شريف باشا بتشكيل حكومة وطنية استبعد منها الوزيرين الأوروبيين، عندها أحست القوى الاستعمارية الأوروبية بخطورة النهضة الوطنية، ومخاطر تحالف الخديوي مع الحركة الوطنية أو رضوخه لها، قررت الدول الأوروبية أن تتحالف من أجل خلع الخديوي إسماعيل.


 شريف باشا
وخلال شهري مايو ويونيو توالى تقديم قناصل الدول الأوروبية في مصر لاحتجاجهم الرسمي على قرارات إسماعيل والحكومة الوطنية، وفي نفس الوقت سعت إنجلترا وفرنسا لدى الأستانة لعزل إسماعيل عن حكم مصر، الأمر الذي لقي هوى لدى السلطان العثماني ظنًا منه أن في ذلك استعادة لسلطته المفقودة على مصر.
 وفي 24 يونيو وردت الأخبار من اسطنبول باتجاه السلطان لعزل إسماعيل فذهب إليه بعد منتصف الليل قناصل فرنسا وإنجلترا وألمانيا يناشدونه التنازل عن العرش لكنه رفض، وبعد يومين، في 26 يونيو 1879، صدر قرار عزل إسماعيل وتعيين ابنه توفيق خديوي لمصر، وقد حمل شريف باشا البرقية التي جاءت من اسطنبول إلى الخديوي إسماعيل، فطلب منه استدعاء ابنه توفيق، وبمجرد دخوله عليه خاطبه بلقب أفندينا، وأبلغه بالقرار، وفي مساء نفس اليوم أقيمت حفلة تنصيب توفيق ثاني خديوي لمصر، وسادس حاكم من أسرة محمد علي.

 أما إسماعيل فقد اختار إيطاليا منفى يقضي فيه بقية عمره، وغادر الخديوي المخلوع سراي عابدين في موكب رسمي إلى محطة مصر يصحبه ابنه الخديوي الجديد، وهناك استقل القطار إلى الإسكندرية، حيث غادرها إلى نابولي في اليخت المحروسة، الذي استقله حفيده فاروق بعد خلعه في 26 يوليو 1952 متوجهًا إلى إيطاليا كذلك.
  وظل إسماعيل يسعى للعودة إلى عرش مصر مرة أخرى دون جدوى وتنقل بين مدن أوروبا إلى أن استقر في اسطنبول عام 1888، وتوفي يوم 2 مارس سنة 1895، ونقل جثمانه إلى مصر ليدفن بمسجد الرفاعي بالقاهرة.

عباس حلمي الثاني الرهان الخاسر

  عباس حلمي الثاني السابع من حكام مصر من أسرة محمد علي، تولى منصب الخديوية عقب وفاة والده توفيق وهو في الأربعين من عمره، بعد إصابته بالأنفلونزا في يناير من عام 1892، ولم يكن عباس حلمي قد أكمل عامه الثامن عشر بالتقويم الميلادي فتم تنصيبه وفقا للتقويم الهجري، وكان الخديوي الشاب يدرس في فيينا فقطع دراسته وعاد للبلاد ليتولى مهام منصبه، وقد اعتبرت الصحف البريطانية في ذلك الوقت أن الاحتلال البريطاني لمصر أصبح أكثر ضرورة بوفاة توفيق، فالخديوي الجديد شاب صغير عديم الخبرة، وإنه لا يجوز منذ الآن الحديث عن الجلاء.

عباس حلمي
 لكن الخديوي الشاب سار في طريق مخالف للطريق الذي سار فيه والده، كان توفيق مواليًا لسلطات الاحتلال، بل هو الذي مهد لها الطريق، أما عباس حلمي الثاني فقد سعى إلى استعادة سلطاته واصطدم باللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر والحاكم بأمره لسنوات طويلة، واتجه عباس لمؤازرة زعيم شاب بزغ نجمه في ذلك الوقت هو الزعيم مصطفى كامل الذي كان يصغر الخديوي بشهر واحد. واستمرت الصدامات بين عباس حلمي وكرومر حتى رحيل الأخير عن البلاد عقب حادثة دنشواي، فبدأت العلاقات تتحسن تدريجيا بين الخديوي وسلطات الاحتلال، وكان من الممكن أن يستمر عباس حلمي الثاني في حكم مصر حتى نهاية حياته، لكنه اختار في الحرب العالمية الأولى الولاء العثماني فكانت نهايته كحاكم لمصر وهو في الأربعين من عمره. ففي 1914 نشبت الحرب في أوروبا بين معسكرين، بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا في جانب، وألمانيا والنمسا والمجر وبلغاريا ثم تركيا في الجانب الآخر، بدأت المعارك في أغسطس بعد اعتداء ألمانيا على بلجيكا، وتصاعدت المعارك بطول أوروبا وعرضها، وامتدت إلى منطقة المشرق العربي والمستعمرات، كانت أول حرب في تاريخ الإنسانية تمتد بهذا الاتساع.

 كانت مصر بين ناريين في هذه الحرب فعلى أرضها قوات الاحتلال البريطاني منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وفي نفس الوقت هي ولاية تابعة لتركيا من الناحية الرسمية، وتنازع رجال السياسة في مصر اتجاهين: الأول يراهن على انتصار ألمانيا واهمًا أن هذا الانتصار سيقود إلى استقلال مصر، أما الاتجاه الثاني فكان يؤمن بانتصار الحلفاء ويرى في بريطانيا شرًا أهون من شر، كما كان هؤلاء يتصورون أن مساندة مصر لبريطانيا العظمى في الحرب سيؤدي إلى منح مصر استقلالها. مع بداية الحرب في أغسطس 1914 أعلن مجلس النظار منع التعامل مع ألمانيا ورعاياها، ومنع السفن المصرية من الاتصال بالموانئ الألمانية واحتجاز السفن الألمانية في الثغور المصرية، ومنح القوات البريطانية حقوق الحرب في الأراضي والمياه المصرية. وفي 2 نوفمبر 1914 أعلن الجنرال مكسويل قائد جيش الاحتلال في مصر وضع القطر المصري تحت الحكم العسكري، وفرضت الرقابة على الصحف كنتيجة لإعلان الأحكام العرفية.
 يوم 11 نوفمبر 1914 أعلن الخديوي عباس حلمي الثاني، الذي لم يعد من أجازته الصيفية في اسطنبول، منشورًا إلى الأمة بإعلان الدستور الكامل في مصر، بناء على نصيحة الزعيم محمد فريد، والحقيقة أن الإعلان كان يهدف إلى حشد الشعب المصري خلف الدولة العثمانية ومحاولة الحصول على تأييد المصريين للزحف التركي على البلاد.


السلطان حسين كامل
 وفي 18 ديسمبر 1914 أعلنت بريطانيا الحماية على مصر، وأنهت علاقتها بالدولة العثمانية، وعزلت الخديوي عباس حلمي الثاني، وحولت مصر إلى سلطنة، وعينت السلطان حسين كامل سلطانًا على البلاد تحت الحماية البريطانية.

 وقضى عباس حلمي بقية حياته منفيًا يدبر المؤامرات من أجل استعادة عرشه دون جدوى.                                       

فاروق الأول والأخير

ترك السلطة دون مقاومة حتى لا يراق دم مصري واحد

 تولى فاروق العرش تحت إشراف مجلس الوصاية على العرش وهو فتى في السادسة عشر من عمره، فقد ولد فاروق في عام 1920، وتوفي والده الملك أحمد فؤاد في أبريل عام 1936، فقطع دراسته في إنجلترا وعاد ليتولى حكم البلاد، وقد دار صراع سياسي بعد عودته حول الموعد الذي يتسلم فيه حكم البلاد دون مجلس وصاية، حيث سعى الأمير محمد علي توفيق إلى رفع السن القانونية إلى 25 عامًا حتى يتمكن الملك الشاب من إكمال تعليمه، وفي حقيقة الأمر كان يسعى للاستمرار في إدارة البلاد كوصي على العرش، بينما ظهر اتجاه آخر يرى أن تكون سن 21 هي السن القانونية لتولي العرش، لكن الأمور حسمت في النهاية واستلم فاروق عرش أبيه عندما أكمل 18 عامًا هجرية في سنة 1937 مثل ابن عمه عباس حلمي.
 

 كانت الظروف مهيأة ليفتتح فاروق صفحة جديدة في حكم الأسرة العلوية، فقد أحبه الشعب في البداية، كما استلم العرش بعد انتهاء الأزمة الدستورية التي استمرت من عام 30 إلى نهاية عام 35، في وقت كانت الأمة متوحدة والأحزاب مؤتلفة خلف قيادة الوفد من أجل الوصول إلى معاهدة مع بريطانيا العظمى، كل ما كان مطلوبًا من الملك الشاب أن يحترم الدستور ويحترم إرادة الأمة ويبتعد عن سياسة أبيه في تدبير الانقلابات الدستورية المتوالية، ويتحول إلى ملك دستوري. لكن الملك فاروق سرعان ما سار على درب أبيه، وناصب حزب الوفد ـ حزب الأغلبية العداء ـ واصطدم بالحركة الوطنية المرة تلو المرة، وأساء إدارة أمور البلاد، وبدأت شعبيته تتراجع بقوة في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وازداد الملك في لهوه في حياته الخاصة ولهوه بدستور البلاد، مرددًا مقولته المعبرة عن يأسه من استمرار ملكه: "لن يبقى في العالم إلا خمسة ملوك، ملك إنجلترا وأربعة ملوك الكوتشينة". ووصلت الأمور في مصر إلى حالة غير مسبوقة من التردي والتأزم عقب حريق القاهرة في 26 يناير 1952، الذي ما زال الفاعل فيه مجهولًا إلى يومنا هذا بعد مرور أكثر من ستين عامًا على وقوعه، استغل فاروق الحريق ليطيح بوزارة الوفد ويعطل البرلمان، وتوالت على مصر عدة حكومات في ستة أشهر، لم يستمر بعضها سوى ساعات قليلة.


 وفي 23 يوليو 1952 قام الضباط الأحرار بانقلابهم العسكري، وبعد ثلاثة أيام  وفي يوم 26 يوليو توجه القائد العام وبصحبته البكباشي أنور السادات إلى المقر الصيفي للحكومة ببولكلي بالإسكندرية، وقابلا علي باشا ماهر رئيس الوزراء، وسلماه إنذار للملك فاروق موقع من محمد نجيب جاء فيه: "إنه نظرًا لما لاقته البلاد في الفترة الأخيرة من فوضى شاملة عمت جميع المرافق نتيجة سوء تصرفكم وعبثكم بالدستور وامتهانكم لإرادة الشعب حتى أصبح كل فرد من أفراده لا يطمئن على حياته أو ماله أو كرامته...." ويواصل الإنذار تعديد مثالب عصر فاروق لينتهي إلى: "لذلك قد فوضني الجيش الممثل لقوة الشعب أن أطلب من جلالتكم التنازل عن العرش لسمو ولي عهدكم الأمير أحمد فؤاد على أن يتم ذلك في موعد غايته الساعة الثانية عشرة من ظهر اليوم، ومغادرة البلاد قبل الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه، والجيش يحمل جلالتكم كل ما يترتب على عدم النزول على رغبة الشغب من نتائج".

 وقع فاروق وثيقة التنازل عن عرش مصر لابنه الرضيع أحمد فؤاد الثاني، غادر فاروق الأول ملك مصر والسودان البلاد منفيًا إلى إيطاليا على ظهر اليخت المحروسة مثل جده إسماعيل، مفضلًا أن يترك عرشه على أن يراق دم إنسان مصري واحد من أجل التمسك بالسلطة، وعاش هناك إلى أن توفي في مارس 1965 في ظروف غامضة.
 

أحمد فؤاد الثاني الملك المخلوع الذي لم يحكم

 يختلف المؤرخون حول تصنيف أحمد فؤاد الثاني ضمن حكام مصر، لكن واقع الحال أن الضباط الأحرار عندما طلبوا من الملك فاروق التنازل عن العرش يوم 26 يوليو 1952، طلبوا منه التنازل لابنه أحمد فؤاد الذي كان عمره لم يتجاوز الأشهر السبعة، وهذا ما حدث بالفعل لتدار البلاد من خلال مجلس قيادة الثورة والحكومة التي كان يتولاه حتى سبتمبر علي باشا ماهر، ومجلس الوصاية على العرش الذي تشكل في 30 يوليو من الأمير محمد عبد المنعم وبهي الدين بركات والقائممقام محمد رشاد مهنا.

 لكن الأمور كانت تسير في اتجاه آخر، فقبل مرور عام على نجاح الضباط الأحرار قرر مجلس قيادة الثورة في يوم 18 يونيو عام 1953 إعلان الجمهورية وإنهاء حكم أسرة محمد علي وتعيين اللواء محمد نجيب كأول رئيس للجمهورية.
 وجاء في هذا القرار: "لما كانت الثورة عند قيامها تستهدف القضاء على الاستعمار وأعوانه، فقد بادرت في 26 يوليو سنة 1952 إلى مطالبة الملك السابق فاروق بالتنازل عن العرش لأنه كان يمثل حجر الزاوية الذي يستند إليه الاستعمار، ولكن منذ هذا التاريخ، ومنذ إلغاء الأحزاب، وجدت بعض العناصر الرجعية فرصة حياتها ووجودها مستمدة من النظام الملكي الذي أجمعت الأمة على المطالبة بالقضاء عليه قضاء لا رجعة فيه."

 وبعد أن يذكر القرار مسالب أسرة محمد علي خاصة إسماعيل وتوفيق وفاروق، انتهى إلى أن يعلن باسم الشعب:
 "أولا: إلغاء النظام الملكي وإنهاء حكم أسرة محمد علي مع إلغاء الألقاب من أفراد هذه الأسرة.

ثانيا: إعلان الجمهورية ويتولى الرئيس اللواء أركان الحرب محمد نجيب قائد الثورة رياسة الجمهورية مع احتفاظه بسلطاته الحالية في ظل الدستور المؤقت.

ثالثا: يستمر هذا النظام طول فترة الانتقال ويكون للشعب الكلمة الأخيرة في نوع الجمهورية واختيار شخص الرئيس عند الإقرار بالدستور الجديد".

محمد نجيب الرئيس الأول

 كان اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية المصرية، وقد تسلم الرئاسة في 18 يونيو 1953، لكن الرئيس نجيب عزل من منصبه بقرار من مجلس قيادة الثورة في 14 نوفمبر سنة 1954، وجاء هذا في سياق ما يعرف في التاريخ المصري بأزمة مارس 54، رغم أن هذه الأزمة امتدت من فبراير إلى نوفمبر.
 
 كانت أزمة بين اتجاهين، اتجاه يرى عودة الحياة الديمقراطية وعودة الجيش إلى ثكناته، واتجاه يتمسك بإدارة الضباط الأحرار لشئون البلاد حتى النهاية.
  كان النظام الجديد قد بدأ منذ مطلع عام 1953 سلسلة من الإجراءات التي صادر فيها الحريات؛ فحل الأحزاب السياسية في يناير 1953 وصادر أموالها باستثناء جماعة الإخوان المسلمين، وتم اعتقال عدد من قادة الأحزاب وأعضائها، وأعلن عن فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات. وبعد عام بدأ الصدام بين مجلس الثورة والإخوان وصدر قرار حل الجماعة في يناير 1954.

 وفي فبراير 1954 بدأت الخلافات تدب داخل صفوف الضباط الأحرار فأعلن الرئيس محمد نجيب استقالته من مناصبه في 25 فبراير، وبدا في البيان الصادر في ذلك اليوم أن هناك صراعًا خفيًا منذ اللحظة الأولى بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر القائد الحقيقي لتنظيم الضباط الأحرار وفقا للبيان، وانتهى البيان إلى قبول استقالة نجيب وتعيين جمال عبد الناصر رئيسا للوزارة، بالإضافة إلى قيادة لمجلس قيادة الثورة. لكن الوسطاء نجحوا في تقريب وجهات النظر وعاد نجيب عن استقالته وعاد لمنصبه في 27 فبراير، وفي اليوم التالي خرجت المظاهرات الطلابية تطالب بالديمقراطية وعودة الجيش إلى ثكناته وانتهت المظاهرات باشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين في ميدان قصر النيل وما حوله، وفي اليوم التالي تم وقف الدراسة في الجامعات، وتم القبض على عدد من الطلاب من الإخوان والاشتراكيين والوفديين والشيوعيين.

 وفي محاولة لاحتواء الغضب الشعبي أعلن جمال عبد الناصر رئيس الوزراء عن قرارات اتخذها مجلس الوزراء في 5 مارس تتضمن اتخاذ إجراءات عقد جمعية تأسيسية منتخبة تجتمع في يوليو 1954 لتناقش مشروع الدستور الجديد وتقوم بعمل البرلمان لحين انتخابه، أي اختصار الفترة الانتقالية، وتقرر إلغاء الأحكام العرفية قبل الانتخابات بشهر، وإلغاء الرقابة على الصحف ابتداء من 6 مارس.

 لكن أيًا من هذه القرارات لم ينفذ، ما عدا رفع الرقابة عن الصحف، فلم تنتخب الجمعية التأسيسية ولم تجتمع إلى الآن، وعادت الأحكام العرفية، ولم تلغ طوال 60 سنة إلا لمدد متفرقة لا تتجاوز ست سنوات. وفي يوم 25 مارس قرر مجلس قيادة الثورة السماح بقيام الأحزاب، وحل مجلس قيادة الثورة يوم 24 يوليو سنة 1954 أي في يوم انتخاب الجمعية التأسيسية. كان الصراع واضحًا بين جناح يقوده محمد نجيب ومعه خالد محيي الدين وعدد من ضباط سلاح الفرسان، ينحاز إلى الديمقراطية، وجناح يقوده جمال عبد الناصر وباقي أعضاء مجلس الثورة يسعى إلى عدم تخلي الضباط الأحرار عن الحكم.

 وخلال أيام قليلة تم التراجع عن قرارات 5 و25 مارس لصالح استمرار الضباط الأحرار في الحكم، بعد تحرك الضباط في عدد من الأسلحة لمساندة جمال عبد الناصر ومجموعته، وبعد دفع بعض العناصر النقابية لتحويل المظاهرات العمالية من تأييد الديمقراطية إلى دعم الاستبداد والديكتاتورية. وفي الأسابيع التالية توالت قرارات الانقلاب على الديمقراطية، فتم حرمان الوزراء الحزبيين السابقين من الحقوق السياسية، وتم حل مجلس نقابة الصحفيين في منتصف أبريل، وقبل نهاية العام كان قد تم حل مجلس نقابة المحامين، كما اتسعت حملات الاعتقالات في صفوف الطلاب والعمال والسياسيين، وتمت إحالة عدد من ضباط الجيش للمحاكمات.

 وفي 26 أكتوبر 1954 تعرض جمال عبد الناصر لمحاولة اغتيال أثناء إلقاء خطاب في ميدان المنشية، تم في أعقابها اعتقال عدد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وتقديمهم للمحاكمة وإصدار عدد من أحكام الإعدام ضد بعضهم، وتم اتهام الرئيس نجيب بأنه كان على صلة بالإخوان وصدر قرار عزله من منصبه كرئيس للجمهورية وتم تحديد إقامته، وحذف اسمه كأول رئيس للجمهورية من المناهج الدراسية ووسائل الإعلام، إلى أن رفع الرئيس أنور السادات الإقامة الجبرية عنه بعد توليه الرئاسة.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...