السبت، 15 أكتوبر 2016

من حكايات الحياة البرلمانية في مصر

صفحة من نضال الشعب المصري ضد الاستبداد والتزوير

(1) عندما قاطع المصريون الانتخابات لأول مرة

عماد أبو غازي
 عرفت مصر النظم البرلمانية الحديثة منذ ستينيات القرن التاسع عشر، وقد شهدت السنوات المائة والخمسين من الحياة البرلمانية في مصر تجارب عدة في إجراء انتخابات نزيهة تعبر عن إرادة الشعب الحقيقية، لكنها شهدت كذلك تجارب مريرة في تزوير الإرادة الشعبية، وسرقة أصوات الناخبين لصالح أحزاب موالية للملك أو أحزاب حاكمة في السلطة، وكانت مقاطعة الانتخابات وسيلة من وسائل فضح التزوير ومواجهة اغتصاب السلطة، وإسقاط الشرعية عن المغتصبين.


سعد
 لقد استخدمت الأحزاب السياسية أسلوب المقاطعة عدة مرات، أولها في مواجهة الانقلاب الدستوري الذي قام به الملك فؤاد عام 1925، عندما حل الملك البرلمان مرتين ليتخلص من الأغلبية الوفدية، وقام رئيس الوزراء زيور باشا باستصدار مرسوم من الملك في 8 ديسمبر سنة 1925 بقانون انتخاب جديد جعل فيه الانتخاب على مرحلتين، ووضع شروطًا مالية للانضمام لهيئة المندوبين الناخبين.
 تبدأ الحكاية عندما استقالة حكومة سعد زغلول في 24 نوفمبر 1924 احتجاجًا على تدخل بريطانيا في شؤون مصر والسودان عقب حادث اغتيال السير لي ستاك سردار الجيش المصري، وفي نفس اليوم كلف الملك فؤاد أحمد زيور باشا بتأليف الحكومة، التي أذعنت للتدخل البريطاني، وحتى تتلافى معارضة البرلمان بأغلبيته الوفدية طلبت في 25 نوفمبر من الملك إصدار مرسوم بتأجيل عمل البرلمان لمدة شهر، وقبل أن ينتهي الشهر بيوم واحد أصدر الملك مرسومًا بحل مجلس النواب، وتحديد يوم 6 مارس سنة 1925 موعدًا لانعقاد المجلس الجديد بعد انتخابه، وقررت الحكومة إجراء الانتخابات بنظام الانتخاب غير المباشر عن طريق المندوبين رغم أن البرلمان كان قد أصدر قانونًا جديدًا للانتخاب على مرحلة واحدة، ولم تكتف الحكومة بذلك بل خرقت القانون الانتخابي الملغى والذي قررت إجراء الانتخابات على أساسه، فقد كان القانون ينص على انتخاب ثلاثين مندوبًا لمدة خمسة أعوام يباشرون خلالها مهمة انتخاب النواب، ولم يكن قد مضى على انتخابهم سوى عام، لكن لأنهم أتوا في المرة الأولى ببرلمان بأغلبية وفدية ساحقة، فقد قرر زيور باشا ووزير داخليته إسماعيل صدقي أن يستبدل بهم غيرهم، وأسس زيور لنفسه حزبًا سماه حزب الاتحاد ليخوض به الانتخابات، وكان شعار ذلك الحزب اللقيط "الولاء للعرش".

زيور باشا
 وحتى تضمن الحكومة نجاح مرشحيها تلاعبت في تقسيم الدوائر الانتخابية بقرار من مجلس الوزراء تم بمقتضاه تعديل حدود نصف الدوائر الانتخابية، وإمعانًا في التلاعب تم قبول ترشيحات في بعض الدوائر بعد انتهاء الموعد القانوني للترشح.
 ورغم جهود الحكومة وضغوطها فاز الوفد بأغلبية مقاعد مجلس النواب حيث فاز في 116 من 214 دائرة، وعندما فاز سعد زغلول برئاسة البرلمان أصدر الملك فؤاد مرسومًا بحل البرلمان بعد ثمان ساعات من انعقاده يوم 23 مارس 1925.
 وبعد ثلاثة أيام استصدرت الوزارة مرسومًا ملكيًا بوقف الانتخابات لحين وضع قانون جديد للانتخابات، واستغلت الحكومة غياب البرلمان وأخذت تصدر القانون تلو القانون مقيدة الحريات ومعتدية على الحقوق، فعدلت قانون العقوبات لتشدد فيه العقوبة على جرائم النشر، وأصدرت قانونًا للجمعيات والهيئات السياسية وضعت فيه القيود على نشاط الجمعيات والأحزاب السياسية، وقد رفضت الأحزاب الثلاثة الكبرى: الوفد والوطني والأحرار الدستوريين هذه التشريعات وقرروا عدم الرضوخ لها والدعوة إلى خرقها بالممارسة الفعلية، كذلك أطلقت الحكومة يد الشرطة في التنكيل بالمعارضين.
 وفي تحد للحكومة قرر البرلمان الانعقاد من تلقاء نفسه يوم السبت 21 نوفمبر 1925، فأصدرت الحكومة أوامرها للجيش بحصار البرلمان وإغلاق كل الطرق المؤدية إليه لمنع وصول النواب، فنقل النواب اجتماعهم إلى فندق الكونتيننتال بميدان الأوبرا، وقرر البرلمان بمجلسيه سحب الثقة من الحكومة واعتبر نفسه في حالة انعقاد دائم.


 وفي 8 ديسمبر 1925 أصدرت الحكومة قانونًا جديدًا للانتخابات، وكانت الحكومة قد وقعت قبلها بيومين اتفاقية التنازل عن واحة جغبوب لسلطات الاحتلال الإيطالي في ليبيا، لكنها لم تتمكن من تنفيذها، ونفذها صدقي باشا في الانقلاب الدستوري الثالث (1930 ـ 1935) ، وفي اليوم التالي لصدور قانون الانتخابات أصدرت الأحزاب قرارها بمقاطعة الانتخابات على أساس القانون الجديد ودعت إلى اعتباره كالعدم.
  وبدأت المقاطعة الفعلية بامتناع عدد من العمد ومشايخ البلدان عن تطبيق القانون الجديد، ورغم إحالة عدد منهم للمحاكمة وعزل بعضهم إلا أن حركة المعارضة اتسعت، وجاء رد العمد باستقالة عدد كبير منهم من مناصبهم.
 وفي يناير 1926 تشكلت لجنة تنفيذية لأحزاب المعارضة، وأصدرت الأحزاب بيانًا يتضمن قرارًا مشتركًا بمقاطعة الانتخابات وعقد مؤتمر يضم شيوخ الأمة ونوابها لمناقشة الوضع الذي آلت إليه البلاد، وجاء في البيان:
 "تجتاز البلاد في الوقت الحاضر دورًا من الأدوار العصيبة في حياتها السياسية، إنها جاهدت ما جاهدت حتى حصلت على الدستور الذي قرر سيادتها وجعل أمرها شورى بين أبنائها، غير أنها ما كادت ترسخ فيها قدم الحكم النيابي حتى امتدت إليها يد الاستبداد تعبث بدستورها، وهبت عليها ريح الحكم المطلق تلعب بتشريعها وإرادتها.
 تلكأت الحكومة في عقد مجلس النواب، وامتنعت عن دعوته، وانقضى الميعاد المحدد في الدستور لانعقاده، وظهرت نزعة الاعتداء عليه في صور مختلفة، وأساليب منوعة، فوجم الناس واضطربت الأفئدة لهذا الخطر المحدق بالحياة النيابية، وسارع نواب البلاد إلى الاجتماع في 21 نوفمبر 1925 من تلقاء أنفسهم، كحكم الدستور ووحي ضمائرهم، وجددوا يمينهم باحترام الدستور وإنقاذ الحياة النيابية، وأظهر معاني هذا الاجتماع الذي أيدته الأمة من كل ناحية أنه كان بمثابة إنذار للحكومة لتراجع نفسها وتكف عن التمادي في أخطائها وتقدر نتائج اعتدائها وتخفف عبء مسئوليتها بالمبادرة إلى الرجوع للحياة النيابية، ولكن قد مضى على هذا الاجتماع شهران كاملان وتلك الحكومة سائرة في طريقها مقيمة على خطتها غير مكترثة بإرادة الشعب ولا متعظة باجتماع نوابه ولا حافلة بآرائهم، بل هي مصرة على الاستمرار في انتهاك حرمة الدستور والاستخفاف بإرادة الأمة.
 إزاء هذه الحالة الخطيرة، وفي غمار هذا الاعتداء الصارخ، وأمام الأيمان التي أقسمت قد اتفقت كلمة الأحزاب المؤتلفة:
 أولًا: مقاطعة الانتخابات تنفيذًا لقراراتها السالفة التي تلقتها الأمة بكل تأييد فامتنع كثير من عمدها ونوابها عن الاشتراك في مهزلة الانتخابات وأصر باقي الأفراد على مثل هذا الإباء.
 ثانيا: على عقد مؤتمر يجمع شيوخ الأمة ونوابها وذوي الرأي والمكانة فيها لبحث هذه الحالة وتقرير ما يراه مناسبًا للخروج منها، وسترى الحكومة إن هي استمرت في عملها قيمة ذلك الإجماع، كما أن المؤتمر سيبحث في الحالة الحاضرة ويقرر ما يناسب لمعالجتها ويثبت بكل الدلائل أن الأمة كتلة واحدة في الدفاع عن مصالحها إذا ما جد الجد واشتد الخطر.
 والله وحده الموفق لما يشاء."
 وقد وقع على البيان رؤساء الأحزاب المؤتلفة (الوفد والأحرار الدستوريين والوطني) وعدد من قادتها ونوابها في البرلمان.
 خضعت الحكومة وقررت في 18 فبراير 1926 وقف العمل بالقانون الجديد وإجراء الانتخابات على أساس القانون الذي أصدره البرلمان سنة 1924 والذي يقضى بأن تجرى الانتخابات بنظام الانتخاب المباشر، وقررت الأحزاب الثلاثة أن تخوض الانتخابات مؤتلفة، وحققت انتصارًا ساحقًا وتشكلت حكومة إئتلافية من الوفد والأحرار الدستوريين برئاسة عدلي يكن، وتولى سعد رئاسة مجلس النواب، وانتصرت إرادة الأمة.
(2) المقاطعة طريق الشعب إلى النصر

 في عام 1930 قاد الملك فؤاد بمعاونة إسماعيل باشا صدقي أخطر الانقلابات الدستورية في تاريخ مصر في الحقبة الليبرالية، بدأ الانقلاب باستقالة حكومة النحاس باشا في صيف ذلك العام بسبب إعاقة الملك فؤاد لعملها، ورغم تجديد البرلمان الثقة بها إلا أن فؤاد قبل الاستقالة وكلف إسماعيل باشا صدقي بتشكيل حكومة جديدة، وخلال أربعة أشهر من تشكيلها نفذت خطة الملك، فتم إلغاء دستور 1923 وأصدر الملك بدلًا منه في 22 أكتوبر 1930 دستورًا جديدًا مشوهًا معيبًا، واستكمالًا لمقومات الاستبداد حل الملك جميع مجالس المديريات، وأصدرت حكومة صدقي قانونًا جديدًا للانتخابات ملحقًا بالدستور، ألغى مبدأ الانتخاب المباشر، وجعل الانتخابات على مرحلتين، في الأولى يختار الناخبون مجمع انتخابي، ثم يقوم أعضاء هذا المجمع بانتخاب البرلمان نيابة عن الناخبين، كما رفع القانون سن الناخب إلى 25 سنة، واشترط في عضو المجمع الانتخابي شروطًا مالية وتعليمية استبعد به معظم المواطنين، كما حرم جميع المشتغلين بالمهن الحرة من محامين وأطباء وصحفيين ومهندسين من خارج القاهرة حق ترشيح أنفسهم لعضوية البرلمان.

فؤاد وصدقي
 وكان صدقي قد أكمل ديكور نظامه الجديد بتأسيس حزب يسانده مثلما فعل زيور باشا في الانقلاب الدستوري سنة 1925 عندما أسس حزب الاتحاد، وأسمى صدقي حزبه حزب الشعب وأخذت الإدارة تروج لهذا الحزب وتدعو الناس بمختلف وسائل الترغيب والترهيب والتوريط في الانضمام له.
 بعد ساعات من صدور دستور 1930 بدأ الوفد في قيادة الحركة الشعبية للاحتجاج على إلغاء دستور 23، من خلال البيانات والمؤتمرات السياسية والمقالات الصحفية، وانضم الحزب الوطني للمعارضة ببيان عاجل أصدرته لجنته الإدارية بعد 48 ساعة اعتبرت فيه أن ما حدث اعتداء صارخ على الدستور، وسرعان ما انضم حزب الأحرار الدستوريين الذي كان صدقي ينتمي إليه عندما كلفه الملك بتشكيل الحكومة إلى المعارضين.
 وفي 6 نوفمبر 1930 أصدر الوفد بيانًا أعلن فيه مقاطعة الانتخابات على أساس دستور صدقي وقانونه جاء فيه:
 "أما وقد اعتدت وزارة صدقي باشا على دستور الدولة واستبدلت به دستورًا باطلًا من صنعها رغم إرادة الأمة وهي تعمل لإكراه البلاد بالقوة على الاعتراف به والرضوخ له، واستصدرت مرسوما بقانون انتخاب جديد على خلاف ما يقضي به الدستور، وبما أن دستور الدولة الذي أقسم الكل على احترامه والطاعة له هو حق مقدس للأمة لا يمكنها التفريط فيه ولا السكوت على المساس به أو مخالفة أحكامه. فلهذا قرر الوفد عدم الاعتراف بالدستور ولا بقانون الانتخاب الجديدين وعدم الرضوخ لهما ومقاطعة الانتخابات العامة بجميع عملياتها."
 واتخذ حزب الأحرار الدستوريين قرارًا مماثلًا، وهكذا اتفق الوفد والأحرار الدستوريين على مقاطعة أي انتخابات تجرى على أساس دستور 30 وقانونه الانتخابي، وشكل الحزبان لجنة للتنسيق بينهما في المقاطعة، ونفذا قرارهما، وفي نفس الوقت استقال عدد من العمد ومشايخ القرى حتى لا يشاركوا في تزوير إرادة الأمة، وبدأت موجة الاستقالات باستقالة 250 من العمد والمشايخ ثم اتسعت الحركة وتضاعف العدد رغم تحويل الحكومة العمد والمشايخ المستقيلين إلى مجالس تأديبية وتغريمهم بمبالغ مالية كبيرة وملاحقتهم والقبض عليهم.
 أما الحزب الوطني فقد انقسمت قيادته، ورأت الأغلبية المشاركة في الانتخابات بينما كان رأي الأقلية المقاطعة، وكانت هذه ضربه لحركة المعارضة حيث أضفت مشاركة الحزب الوطني في الانتخابات مظهرًا لوجود معارضة برلمانية.
 وفي مارس 1931 تشكل ائتلاف بين الوفد والأحرار الدستوريين صدر عنه ميثاق قومي تعاهد  فيه طرفيه على مقاطعة الانتخابات والنضال لإعادة دستور 23 والحياة البرلمانية السليمة على أساس منه، وبدأ زعماء الحزبين حركة واسعة لزيارة أقاليم مصر والدعوة بين الجماهير لرفض دستور 30 وقانون الانتخابات الجديد والعمل على إسقاطهما وإعادة دستور 23، ولم يأبه زعماء الأحزاب بقمع السلطة ولا بطشها، ولا باستعانتها بالجيش لفض مؤتمرات المعارضة بالقوة، ولم يتوقف قادة الأمة عن مسعاهم حتى بعد أن وصل بطش حكومة صدقي إلى حد محاولة قتل النحاس باشا طعنًا بسونكي بندقية أحد الجنود وهي المحاولة التي فشلت بسبب حماية سنيوت حنا عضو الوفد للنحاس باشا بجسده وتلقيه الطعنة عوضًا عنه.


 وتصعيدًا للمواجهة قرر الوفد والأحرار عقد مؤتمر وطني عام في 8 مايو 1931، وعندما منعت الحكومة انعقاده بالقوة بدأت حملة لجمع التوقيعات على بيان المؤتمر الوطني، وكان في مقدمة الموقعين مصطفى النحاس باشا رئيس الوفد ومحمد محمود باشا رئيس الأحرار الدستوريين وعدلي باشا يكن رئيس مجلس الشيوخ المستقيل والشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر السابق وويصا واصف رئيس مجلس النواب المنحل، ووقع على البيان إلى جانب قادة الحزبين عدد من الوزراء والسفراء والضباط السابقين، كما انضم إلى التوقيع على البيان مجموعة من أفراد الأسرة المالكة وهم الأمراء والنبلاء عمر طوسون ومحمد علي وعمرو إبراهيم وسعيد داود ومحمد علي حليم وإبراهيم حليم.

محمد باشا محمود
 رغم اتساع المعارضة وانضمام بعض رجال السرايا الذين شاركوا فؤاد من قبل في انقلاباته الدستورية إليها مثل زيوار باشا الذي وقع على البيان وجاء اسمه في مقدمة الموقعين، فإن حلف صدقي وفؤاد استمر في خطته، وتمت الانتخابات في يونيو 1931، تمت على أساس دستور الملك وقانون الانتخابات الذي سلب الشعب إرادته وحقوقه.
 لكن البرلمان ظل برلمانًا هزليًا يشارك فيه حزبان للسلطة: حزب الشعب الذي أسسه صدقي، وحزب الاتحاد الذي أسسه قبلها بخمس سنوات زيوار باشا في أول انقلاب دستوري، وإلى جانبهما الحزب الوطني الذي باع المبادئ التي قام عليها منذ أسسه مصطفى كامل سنة 1907.

 لقد نجح صدقي في تشكيل برلمانه المزور، إلا أن مقاومة الوفد والأحرار الدستوريين ومقاطعتهما للانتخابات فتحت الطريق للنصر ولإسقاط صدقي ودستوره وقانون انتخابته بعد خمس سنوات من النضال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...