الاثنين، 17 أكتوبر 2016

الدولة والفنون الجميلة في مصر
(مقالي المنشور في العدد الأخير من مجلة الراوي خريف 2018) 

عماد أبو غازي

 يظهر دور الدولة الحديثة في مصر في علاقته بالفنون الجميلة في مجالين أساسيين، المجال الأول يرتبط بشغل حيز من الفراغ العام بالأعمال الفنية خاصة الأعمال النحتية الميدانية والعمائر الرسمية، والمجال الثاني إدارة الدولة في حقل الفنون التي تتمثل في إنشاء لجان أو إدارات حكومية تنهض بمهام الإشراف على تعليم الفنون وتنظيم المعارض واقتناء الأعمال الفنية وتشجيع المبدعين.
 منذ أقدم عصور الحضارة المصرية كانت الدولة تلعب دورًا أساسيًا في مجال الفنون، وكان الفن الرسمي الذي تشرف على إنتاجه الدولة يلتزم برؤية الدولة وعقيدتها، فقد كانت الفنون وسيلة من وسائل إنتاج السلطة والترويج لها، وكانت فنون العمارة لقرون طويلة أداة السلطة الرئيسية في فرض وجودها بقوة في فراغ المدينة.
 ومع بداية تأسيس ما نطلق عليه الدولة المصرية الحديثة في مطلع القرن التاسع عشر عقب تولي محمد علي باشا مقاليد باشوية مصر، بدأت الدولة الجديدة تنتج فنونها متأثرة في ذلك بمرجعيتين أساسيتين إحداهما تشكل امتدادًا لتأثيرات ثقافة العصور الوسطى والأخرى تعبيرًا عن التوجه نحو الحداثة؛ المرجعية الأولى: نموذج الفن الإسلامي في صورته العثمانية، والمرجعية الثانية: الفنون الأوروبية الحديثة.
 ربما كان جامع محمد علي بالقلعة الذي تم البدء في تشييده عام 1830 بأعلى قلعة الجبل ليكون حاضرًا بقوة في مشهد المدينة مؤكدًا سلطة الدولة الجديدة أبرز منجزات فن العمارة في عصر محمد علي باشا؛ ويقدم هذا الجامع نموذجًا لمعمار المساجد المشيدة على الطراز العثماني المستمد من طرز الكنائس البيزنطية التي ترجع لمرحلة العصور الوسطى.


 وعلى الجانب الآخر عرف عصر محمد علي باشا اهتمامًا باستقبال الفنانين الأوروبيين الذين قاموا برسم كبار رجال الدولة وفي مقدمتهم الباشا نفسه، فيما يمكن أن نعتبره دورًا للدولة في مجال إدخال الفنون الأوروبية الحديثة في مصر؛ فأدخلت الدولة بذلك تقليدًا جديدًا في مجال الفنون اتسع في عهد الخديوي إسماعيل (1863 ـ 1879)، عندما بدأ مشروعًا للتوسع العمراني في القاهرة وغيرها من المدن المصرية، وتخطيط أحياءها الجديدة على غرار تخطيط المدن الأوروبية في ذلك الوقت، بما في ذلك استخدام العناصر الفنية في تجميل المدينة، فأمر الخديوي إسماعيل بإقامة تماثيل الأسود الأربعة عند مدخلي كوبري قصر النيل الذي أقيم في سنة 1872 لربط حي الإسماعيلية الجديد بالجزيرة، وقد تم تكليف النحات الفرنسي جاكومار بعمل التماثيل الأربعة. وفي سياق المشروع العمراني الجديد استدعت الدولة بعض النحاتين الأوروبيين، لعمل تماثيل ميدانية لأفراد الأسرة العلوية الحاكمة وكبار رجال دولتهم.



 ففي القاهرة أقيمت تماثيل إبراهيم باشا وسليمان باشا الفرنساوي ومحمد بك لاظوغلي في ثلاثة من ميادينها الجديدة، فقد أسند الخديوي إلى الفنان الفرنسي كوردييه مهمة نحت تمثال لأبيه إبراهيم وذلك في عام 1868، وأزيح الستار عنه في ميدان العتبة في عام 1872 ثم نقل بعد ذلك إلى موضعه الحالي بميدان الأوبرا. أما تمثالي سليمان باشا الفرنساوي ولاظوغلي فقد نحتهما الفرنسي جاكومار.



وفي الإسكندرية أقيم تمثالا لمحمد علي باشا من نحت جاكومار أيضًا.


 وقد استمرت الدولة في تبني مشروعات تجميل المدينة بإقامة التماثيل في ميادينها وحدائقها العامة؛ ففيما بعد أقيم تمثال لنوبار باشا بحديقة الشلال بالإسكندرية، ثم تمثال الخديوي إسماعيل؛ قام المثال الإيطالي بييترو كانونيكا بنحته وأهدته الجالية الإيطالية لمصر، وأزاح عنه الستار الملك فاروق في 4 ديسمبر 1938 في مكانه الأصلي بالقرب من ميدان المنشية أمام الموقع الذي أصبح قبرًا للجندي المجهول.


 هكذا استخدمت الدولة منذ عصر الخديوي إسماعيل الفنون في إضفاء طابع جمالي جديد على المدن المصرية، وتم توظيف فن النحت في تحقيق حضور الدولة في الفراغ العام، فاحتلت رموز دولة محمد علي وأبنائه الميادين الرئيسية، واحتاج الأمر لما يزيد عن نصف قرن من الزمان وثورتين شعبيتين قبل أن يشترك في شغل الفراغ العام للمدينة تماثيل لأشخاص من خارج الأسرة الحاكمة وأعوانها.
 وكان أول تمثال ميداني لشخص من خارج الأسرة العلوية ورجالها، تمثال مصطفى كامل الذي نحته هو الآخر نحات أوروبي هو ليوبولد سافان وبدأ العمل فيه بعد وفاة مصطفى كامل بعامين، وكما كان أول تمثال لمصري من خارج الأسرة العلوية ورجالها، فقد كان أول تمثال يشييد باكتتاب شعبي من أعضاء الحزب الوطني وأنصاره؛ ورغم أن سافان انتهى منه سنة 1913 فقد ظل التمثال حبيس مدرسة مصطفى كامل حتى صيف عام 1938 عندما نقل إلى مكانه الحالي في عهد الملك فاروق.
 وبعد ثورة 1919 دخل إلى الساحة النحاتون المصريون وفي طليعتهم مختار بتمثاله الذي التفت حوله الأمة، تمثال نهضة مصر، ليفرض به حضور الفلاحة المصرية في ميدان عام، في عمل يعبر عن الثورة الشعبية الكبرى، وبدأ العمل في التمثال باكتتاب شعبي واسع شاركت فيه مختلف طبقات الأمة، وتشكلت لجنة لتنفيذ المشروع برئاسة حسين باشا رشدي رئيس الوزراء السابق، وقد وفر الاكتتاب جزء من تكلفة إقامة التمثال، ورأى مختار أن ينفذ عمله في الجرانيت فأسهمت السكة الحديد في العمل بتحمل نفقات نقل أحجار الجرانيت من أسوان إلى القاهرة، ثم تبنت الحكومة المشروع في عهد رئاسة عبد الخالق باشا ثروت لها، وأصبح مشروعًا من مشروعات الدولة تشرف عليه وزارة الأشغال العمومية، وقد أزيح الستار عن التمثال في مايو عام 1928، ثم نقل التمثال من موقعه الأصلي بميدان باب الحديد إلى موقعه الحالي بالقرب من جامعة القاهرة في عام 1955، ليحل محله التمثال الجرانيتي الضخم لرمسيس الثاني ليظل هناك لما يزيد عن خمسين عامًا، في سابقة لخروج التماثيل المصرية القديمة الأصلية إلى الميادين العامة.


 بالإضافة لتمثال نهضة مصر كلفت الدولة محمود مختار بعمل تمثالين للزعيم سعد زغلول عقب وفاته في أغسطس سنة 1927، واحد في القاهرة والثاني في الإسكندرية، وقد منعت الحكومة إقامتهما بعد انقلاب إسماعيل صدقي على الدستور سنة 1930، ولم يتم رفع الستار عن التمثالين إلا عام 1938، نفس العام الذي نقل فيه تمثال مصطفى كامل من مدرسته إلى ميدان سوارس بوسط المدينة.


 وبمرور السنوات أصبحت تماثيل المصريين تحتل ميادين القاهرة بعد أن كانت حكرًا على المصريين من أصول أجنبية، وكانت البداية بتمثالي الزعيم سعد زغلول في القاهرة والإسكندرية، وتمثال آخر لسعد ببنها، ثم النصب التذكاري لشهداء الجامعة في ثورة الشباب سنة  1935، وعقب جريمة إغتيال أحمد ماهر باشا أقيم تمثال له أمام كوبري الجلاء بالقاهرة، وبعد يوليو 1952 أقيمت عدة تماثيل احتلت عددًا من الميادين والحدائق العامة، منها تماثيل طلعت حرب ومحمد فريد وأحمد شوقي وابن خلدون بالقاهرة والجيزة، وأحمد عرابي بالشرقية، والعقاد بأسوان، بالإضافة إلى الأعمال النحتية والصرحية التي تخلد مناسبات وطنية، مثل انتصار أكتوبر 73، وإعادة افتتاح قناة السويس، كذلك تبنت الدولة تجميل واجهات المباني العامة بأعمال فنية جدارية، وقد صدر قانون يلزم  بتخصيص نسبة من تكلفة إنشاء أي مبنى عام لتجميله بأعمال فنية.
 ثم كان التوقف عن إقامة التماثيل الميدانية لسنوات باستثناء تماثيل بعض زعماء أمريكا اللاتينية التي أقيمت في إطار اتفاقيات لتبادل تماثيل الزعماء السياسيين بين مصر وبعض تلك الدول، إلى أن بدأت الدولة المصرية تشهد في السنوات الأخيرة إقامة تماثيل الميادين والحدائق مرة أخرى، فأقيمت تماثيل لزعماء سياسيين وقادة عسكريين وفنانيين وأدباء، منها تماثيل عمر مكرم والفريق عبد المنعم رياض وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وطه حسين ونجيب محفوظ وغيرهم.
 لقد كانت تماثيل الميادين والحدائق العامة ساحة من ساحات المعارك في مجال الفن التشكيلي بين الدولة والقوى السياسية قبل 1952، وبين الدولة الجديدة والماضي بعد 1952؛ فقد تعرض تمثال النهضة للتضييق من الحكومات الموالية للسرايا فتوقف العمل فيه مرات، وبعد سقوط الانقلاب الدستوري الأول سنة 1926 وتشكيل حكومة إئتلافية من حزبي الوفد والأحرار الدستوريين تم استئناف العمل في التمثال، وانتهى مختار من العمل فيه في شتاء سنة 1927، لكن الملك فؤاد أرجأ حفل إزاحة الستار عنه قرابة العام، وتوقف العمل في تمثالي سعد مرات بسبب موقف الحكومة من الثورة ومن سعد، وحُجب تمثال مصطفى كامل ثلاثين عامًا،  في العهد الملكي، وبعد 1952 تعرضت تماثيل عدة للنقل من موقعها بسبب التطورات السياسية منها تمثال نوبار باشا وتمثال الخديوي إسماعيل بالإسكندرية حيث نقلا إلى مخازن المحافظة لأعوام قبل أن يعودا مؤخرًا في موضعين جديدين، الأول في مدخل مسرح سيد درويش بشارع فؤاد، والثاني بميدان الخديوي إسماعيل بكوم الدكة.وتمثال سليمان باشا في القاهرة الذي نقل من مكانه في ميدان سليمان باشا إلى المتحف الحربي وحل محله تمثال الاقتصادي المصري طلعت حرب الذي نحته الفنان فتحي محمود، وتغيير اسم الميدان والشارع ليحملا اسم طلعت حرب، أما تمثال ديليسبس في بور سعيد بمدخل قناة السويس الشمالي فقد دمره الشعب بسبب العدوان الثلاثي سنة 1956، وقد تم ترميمه مؤخرًا وتحتفظ به هيئة قناة السويس.


 أما المجال الثاني والمتمثل في التخطيط للفنون الجميلة ورعايتها فقد بدأ مبكرًا أيضًا، ربما نستطيع أن نرجع البدايات الأولى إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما أسبغ الخديوي عباس حلمي الثاني منذ عام 1892 رعايته على صالون القاهرة للتصوير الذي أقيم في المسرح الخديوي، وكان الصالون قد بدأ لأول مرة في عام 1891، وتواصلت دوراته في الأعوام من 1894 حتى 1897. ولم تشهد تلك الدورات مشاركة لفنانيين مصريين إلا أن الحال اختلف تمامًا بعد افتتاح مدرسة الفنون الجميلة، فأصبحت المشاركة المصرية هي الغالبة في المعارض الفنية، فعندما نظمت جمعية محبي الفنون الجميلة صالون القاهرة منذ عام 1924 كانت المشاركة المصرية هي الغالبة، وقد حظي صالون القاهرة أيضا برعاية الملك فؤاد وقام بافتتاحه بنفسه، وتم وضع دوراته لسنوات طويلة تحت رعاية رأس الدولة المصرية.

الملك فؤاد الأول
 وإذا كان إنشاء أول مدرسة للفنون الجميلة سنة 1908 قد تم بمبادرة أهلية فردية من الأمير يوسف كمال إلا أن الدولة بعد عشرين عامًا تبنت تعليم الفنون الجميلة في مصر وأدخلته تحت مظلتها من خلال إشراف وزارة المعارف العمومية على مدرسة الفنون الجميلة العليا الحكومية منذ سنة 1928، والتي تطورت على مر السنين لتصبح كلية للفنون الجميلة تتبع إحدى الجامعات الحكومية، وأضيف إلى جانبها خمس كليات أخرى للفنون الجميلة، فضلًا عن كلية التربية الفنية وكلية الفنون التطبيقية، وبهذا أصبحت الجامعات الحكومية الفاعل الأساسي في تعليم الفنون في مصر تعليمًا أكاديميًا.

الأمير يوسف كمال
 وفي أعقاب الثورة المصرية وصدور دستور 1923 بدأت الدولة تهتم بمجال الفنون الجميلة وانقسم الإشراف عليه بين وزارتي الأشغال والمعارف، وفي المرحلة الأولى كانت الدولة تتعامل مع الفنون الجميلة من خلال لجان استشارية تضم بعض الفنانيين المصريين وبعض المهتمين بالفنون لوضع الخطط واقتراح السياسات، وربما كانت أولى هذه اللجان لجنة الفنون الجميلة التي تشكلت بقرار من وزير المعارف سنة 1924، وكان من بين أعضائها المثال مختار، وكان من أهم ما أنيط بها القيام به؛ العناية بشؤون البعثات الفنية واختيار المبعوثين، وتنظيم مدرسة الفنون الأهلية، وتقرير اعتماد ثابت للفنون، وتبنت اللجنة الدعوة لإنشاء مراقبة للفنون الجميلة تتبع وزارة المعارف الأمر الذي تحقق فيما بعد. فخلال تولي علي الشمسي باشا لوزارة المعارف صدر قرار إنشاء مكتب خاص للفنون الجميلة يتبع وزارة المعارف، كان الأساس للمراقبة العامة للفنون الجميلة فيما بعد، بناء على اقتراح اللجنة الاستشارية.
 وفي عام 1926 صدر مرسوم ملكي بإنشاء لجنة استشارية جديدة للفنون الجميلة لها سلطة بحث "المشروعات والوسائل الخاصة بتعليم الفنون الجميلة وإنشاء المتاحف واقتناء الطرف الفنية وإقامة المعارض ونظام البعثات للخارج". وقد وضعت اللجنة لائحة للبعثات، كما وضعت تقريرًا عن سياسة لاقتناء الدولة للأعمال الفنية، وأوصت بتقرير مخصص للفنون الجميلة في ميزانية الدولة، كما دعت لأنشاء متحف الفن الحديث الذي تجمعت نواته الأولى من أعمال جيل الرواد والمبعوثين الأوائل.
 وفي سنة 1949 تعود اللجنة الاستشارية للفنون الجميلة للحياة بتشكيل جديد، ويرأسها محمد محمود خليل بك رئيس جمعية محبي الفنون الجميلة، وتشكلت اللجنة هذه المرة أيضًا بمرسوم ملكي، وكانت تتولى مجموعة من المهام مثل إنشاء الجوائز الفنية وحماية المواقع التاريخية والمناظر الطبيعية والميادين العامة وما يقام بها من منشآت وتماثيل، كما كانت تتولى مهمة إنشاء المتاحف وإقتناء الأعمال الفنية، وتنظيم المعارض في مصر وتحديد مشاركات مصر في المعارض الخارجية، فضلًا عن اقتراح سياسة تعليم الفنون الجميلة، وإعانة الجمعيات الفنية ودعمها. وكانت الدولة ممثلة في علي أيوب باشا وزير المعارف ترى أن الإدارات الحكومية عاجزة عن وضع رؤية لسياسة تنمية الفنون الجميلة والنهوض بها، ومن ثم فإن اللجنة الاستشارية للفنون الجميلة يقع عليها عبء التخطيط واقتراح السياسات، وعلى الأجهزة الحكومية التنفيذ، وقد تبنت الدولة في ذلك الوقت مقترح رئيس اللجنة الاستشارية بالتوسع في إقامة متاحف للفنون الجميلة في عواصم محافظات مصر ومدنها الكبرى، بدءً بالإسكندرية وبورسعيد والسويس لكن العمل توقف بعد ذلك.

محمد محمود خليل
 ومن الجدير بالذكر هنا أنه طوال الحقبة الليبرالية كانت جمعية محبي الفنون الجميلة تقوم بدور المعاون في رسم سياسة الدولة في مجال الفنون، وفي إقامة المعارض وفي تأسيس متحف الفن الحديث. واللافت للنظر أيضًا أن اللجان في معظمها جمعت ما بين العناية بالفنون التشكيلية وفنون الموسيقى والتمثيل.
 وفي المرحلة التي أعقبت وصول الضباط الأحرار إلى السلطة في يوليو 1952، بدأت مرحلة جديدة في العمل الرسمي في المجال الثقافي عمومًا بما في ذلك مجال الفنون التشكيلية، ففي أواخر عام 1952 أنشئت وزارة للأرشاد القومي تداخلت في مجال العمل الثقافي، وتراجع تدريجيًا دور الجمعيات الأهلية والمجتع المدني في الثقافة والفنون مثلما تراجع في المجال العام كله.
 وفي عام 1956 أنشئت مصلحة الفنون التابعة لوزارة الإرشاد القومي، في نفس الوقت الذي كانت فيه الإدارة العامة للفنون الجميلة ـ التي تعتبر التطور الإداري لمراقبة الفنون الجميلة ـ تتبع وزارة التربية والتعليم. وظل الحال على ذلك حتى عام 1958 عندما أنشئت وزارة الثقافة والإرشاد القومي فضمت كل الأجهزة الثقافية للدولة بما فيها الإدارة العامة للفنون الجميلة التي تطورت على مدار السنين لتصبح الهيئة العامة للفنون سنة 1971، وتضم أكاديمية الفنون والإدارة العامة للفنون الجميلة والمتاحف الفنية والاكاديمية المصرية للفنون بروما، ثم تحولت الى المركز القومي للفنون التشكيلية في 1980 ثم قطاع الفنون التشكيلية في الألفية الجديدة.
 وفي نفس الوقت تم إشراك الفنانيين والنقاد والأكاديميين في إدارة الشأن الفني من خلال لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والأداب الذي تأسس سنة 1956 كمجلس استشاري لرئاسة الوزراء، ثم أُلحق بوزارة الثقافة والإرشاد القومي عام 1958 بعد أن أضيف لاختصاصه مجال العلوم الاجتماعية، وكان دور المجلس ولجانه استشاري في أغلبه، وفي عام 1980 حل محله المجلس الأعلى للثقافة بسلطات أوسع، ومن ضمن لجانه لجنة للفنون التشكيلية. كذلك تشكلت المجالس القومية المتخصصة التابعة لرئاسة الجمهورية في السبعينيات، ومن بينها مجلس قومي للثقافة والفنون.
 وقد بدأ الاهتمام من جانب الدولة بتوفير اعتمادات للمقتنيات الفنية، وتشجيع حركة المعارض، وإعداد مراسم للفنانين، والاهتمام باحياء الحرف التراثية والتقليدية، ورعاية المواهب الفنية من خلال نظام منح التفرغ. ولعبت لجان المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية ومن بعده المجلس الأعلى للثقافة دورًا أساسيًا في منح التفرغ والمقتنيات الفنية وتمثيل مصر في المعارض الفنية الخارجية.

الدكتور ثروت عكاشة
  ويعد نظام منح التفرغ من أهم ما قدمته الدولة للفنانيين منذ إنشاء وزارة الثقافة فقد استفاد منه عشرات الفنانيين على مدار ما يزيد عن خمسين عام، ويقوم هذا النظام على حصول الفنان على منحة للتفرغ للإبداع الفني، وفي نهايتها يقدم عملًا فنيًا أو مجموعة من الأعمال الفنية تنظم بها إدارة التفرغ بوزارة الثقافة معرضًا فنيًا سنويًا، ورغم ما أثير في السنوات الأخيرة من انتقادات لهذا النظام إلا أنه في جوهره نظامًا مهمًا لدعم الإبداع بشرط الشفافية ووضوح القواعد والإلتزام بها.
وقد أتاح نظام التفرغ بالفعل إنجاز عديد من الأعمال الفنية المتميزة.
 أما الشكل الثاني لدعم الإبداع التشكيلي فقد تمثل في نظام المقتنيات الذي بدأ مبكرًا، وكان الاقتناء يتم من خلال لجنة فرعية منبثقة عن لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى، تقوم بزيارة المعارض الفنية على مدار العام وتقتني ما تراه من أعمال فنية متميزة لحساب الدولة في حدود الموازنة المالية المخصصة للاقتناء.
 وقد تبنت الدولة ممثلة في وزارة الثقافة تنظيم المعارض الفنية وأضيفت خلال الستينيات قاعات عرض جديدة تستوعب المعارض الجماعية والخاصة، وقد أغلق أغلبها في السبعينيات. ومن أبرز المعارض التي نظمتها وزارة الثقافة المعرض العام الذي أصبح معرضًا موازيًا لصالون القاهرة الذي استمرت جمعية الفنون الجميلة تنظمه حتى مطلع الثمنينيات ثم توقف لسنوات ليعود في ثوب جديد، ويعد المعرض العام من أهم المعارض الفنية التي تقدم إبداع التشكليين المصريين، وقد نظمت الدولة أيضًا إلى جانبه لعدة سنوات سوق الفنون التشكيلية الذي كان وسيلة لاقتناء المواطنين للأعمال التشكيلية بأسعار في حدود قدرتهم بهدف نشر الثقافة التشكيلية في المجتمع، كما نظمت محافظة الإسكندرية بينالي البحر المتوسط للفنون منذ منتصف الخمسينيات وما زالت دورته تتوالى إلى الآن بعد أن انتقلت تبعيته لوزارة الثقافة.
 وخلال الستينيات والسبعينيات تبنت وزارة الثقافة فكرة معارض الموضوع الواحد، مثل: السد العالي، النوبة، العمل، الفن والميثاق، الفن والمعركة، انتصارات أكتوبر، وغيرها من الموضوعات.
 وعلى صعيد آخر تم إغلاق متحف الفن الحديث بعد هدم مبناه التاريخي في وسط المدينة، وظلت مجموعاته مشتته إلى أن أعيد افتتاحه في مبناه الحالي في أواخر الثمانينيات، ومع ذلك شهدت هذه الحقبة توسعًا في إقامة المتاحف الفنية والقومية، فأضيفت إلى الخريطة المتحفية متحف مختار في يوليو عام 1962 بعد أن ظلت أعماله في متحف مؤقت منذ مارس 1952، وفيما بعد افتتح متحف ناجي ومتحف محمود سعيد، كذلك أنشئت الدولة عددًا من المتاحف القومية التي يعتمد العرض المتحفي فيها بشكل أساسي على الاعمال التشكيلية من لوحات وجداريات وأعمال نحتية، مثل متحف مور هاوس ومتحف جواد حسني ببور سعيد 1959، ومتحف المنصورة القومي في دار ابن لقمان 1960.


 قد شهدت هذه المرحلة مشاركة بعض الفنانين في الدعاية للنظام الجديد وصياغة الشعارات والإعلام والاحتفالات الفنية، حتى أن العلم المصري الحالي أصله من تصميم الفنان علي كامل الديب.
 وقد أسهم التشكليون كذلك في تسجيل الأحداث الكبرى وتوثيقها والتعبير عنها فنيًا، فنظمت وزارة الثقافة في عام 1959 رحلة الباخرة دكا إلى النوبة لتسجيل الحياة فيها قبل غرقها بسبب مشروع السد العالي، وشارك فيها أبرز فناني مصر في هذه الحقبة، وأنتجت هذه الرحلة معرض النوبة الذي أقيم في القاهرة والإسكندرية عام 1962. وفي النصف الاول من الستينيات نظمت الوزارة رحلات للفنانيين التشكليين لتسجيل عملية بناء السد العالي. كما نظمت معارض لتعبيرات الفنانين التشكليين عن هذا المشروع. كما نظمت وزارة السد العالي رحلة اخرى للفنانين عام 1966 لزيارة موقع العمل.

 لقد تراوحت علاقة الدولة بالفنون الجميلة في مصر من مرحلة إلى أخرى في تاريخنا الحديث، بين الهيمنة الكاملة حتى نهاية عصر الخديوي إسماعيل، والتراجع لحساب القطاع الأهلي في الحقبة شبه الليبرالية، ثم العودة مرة أخرى لتصدر المشهد في مرحلة الخمسينيات والستينيات، وما نحتاجه اليوم بعد قرنين من دخول مصر إلى مجال الفنون الحديثة، علاقة متوازنة بين الدولة ومجال الفنون التشكيلية، خاصة بعد أن أصبحت هناك أسواق محلية وإقليمية بل وعالمية للفن التشكيلي المصري، نحتاج لدولة داعمة دون وصاية أو تدخل في المجال الفني، نحتاج إلى منظومة لتطوير آليات السوق الحر في مجال الفنون التشكيلية، نحتاج إلى استعادة دور المجتمع المدني والقطاع الأهلي دون وصاية من الدولة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦ وفارسة في مواجهة التطبيع

  لطيفة الزيات: قائدة في انتفاضة ١٩٤٦  وفارسة في مواجهة التطبيع   عماد أبو غازي     لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثو...