الخميس، 13 أكتوبر 2016

حكاية البرلمان المصري

عماد أبو غازي


 البرلمانات أو المجالس النيابية المنتخبة هي وسيلة من وسائل الشعوب للمشاركة في الحكم وإدارة أمور البلاد، وقد بدأ نضال الشعب المصري من أجل حقه في المشاركة في إدارة أموره مع ثورته في يوليو 1795 التي نجح فيها المشايخ في إرغام مراد بك وإبراهيم بك زعيمي المماليك على التعهد بعدم فرض ضرائب جديدة دون الرجوع لمشورة المشايخ، ووثقوا هذا التعهد في وثيقة رسمية، وفي زمن الحملة الفرنسية شارك ممثلون لطوائف المصريين المختلفة في الديوان الخصوصي الذي أنشأه بونابرت، ثم جاء محمد علي ليؤسس مجلس المشورة سنة 1829من 156 عضوا يمثلون الطوائف والأقاليم ويبدون رأيهم في أمور إدارة الدولة.


 لكن الجذور الأولى للحياة البرلمانية الحقيقة في مصر بدأت في عصر الخديوي إسماعيل بتأسيس مجلس شورى النواب سنة 1866، وتوالت المجالس النيابية من ذلك الحين، مجلس شورى القوانين، الجمعية التشريعية، مجلس النواب ومجلس الشيوخ، مجلس الأمة، ثم مجلس الشعب ومجلس الشورى، وأخيرًا عدنا مع دستور 2014 لمسمى مجلس النواب مرة أخرى.
 وقد عرفت الحياة البرلمانية طوال قرن ونصف صعودًا وهبوطًا، شهدت بضع مرات انتخابات حقيقية وفي أغلب الأحوال انتخابات مزورة أو موجهة من السلطة أو مقيدة بقيود على الترشيح تجعل من المجالس التي تأتي بها مجالس ضعيفة وخاضعة للسلطة، عبر هذا التاريخ كانت هناك مجالس تباشر الرقابة الفعلية والتشريع، ومجالس تحقق للحاكم رغباته في مواجهة الشعب، مجالس تواجه وأخرى تهادن.
 ونحن نحتفل بمرور 150 عامًا على نشأة الحياة البرلمانية في مصر، هذه بعض صفحات من تاريخ البرلمانات المصرية.
برلمان الثورة
 الثورة التي أقصدها هنا هي ثورة 1919، والبرلمان الذي أعنيه برلمان 1924، الذي جاء بناء على دستور 1923 الذي كان ثمرة من الثمرات التي أتت بها ثورة 1919 العظيمة، والذي جاء في مذكرة وزير الحقانية (العدل الآن) التي أعلنت مع الدستور في 19 أبريل سنة 1923 ما نصه: "متى صدر الدستور الجديد فإن الحالة تتغير تغيرا تاما إذ إصدار الدستور والاعتراف بمبدأ كون الأمة هي مصدر جميع السلطات يجعلان سحب الدستور بعد منحه أمرا غير مستطاع".
 بعد صدور الدستور بشهور قليلة أجريت الانتخابات البرلمانية، وقد أشرفت على إجرائها حكومة يحيى باشا إبراهيم، ويعتبر المؤرخون أن هذه الانتخابات كانت الأكثر نزاهة في تاريخ الحياة النيابية في مصر.
 وقد شاركت في الانتخابات ثلاثة أحزاب كبرى، الوفد المصري، حزب الثورة، وقائدها ومفجرها، وحزب الأحرار الدستوريين الذي يعد أول انشقاق رئيسي من الوفد وكان يمثل الجناح المعتدل في الحركة الوطنية المصرية، والحزب الوطني، حزب مصطفى كامل الذي تأسس في عام 1907، وكان الحزب الوحيد النشط الباقي على الساحة السياسية من أحزاب ما قبل الحرب العالمية الأولى.
 اكتسح الوفد المصري الانتخابات وحصل على جميع مقاعد مجلس النواب التي كان عددها يبلغ 216 مقعدا، ما عدا عشرين مقعدا تقريبا ذهبت للأحرار الدستوريين والحزب الوطني.
 وتم تكليف سعد زغلول رئيس الوفد المصري بتشكيل الحكومة، فقبل التكليف وأعلن في رسالة للملك تمسكه بأهداف الثورة وسعيه مؤيدًا بالشعب لتحقيقها.
 وأجرت حكومة الوفد انتخابات مجلس الشيوخ بحياد تام، ووفقا لنص الدستور فكان للملك أن يعين خمسا أعضاء مجلس الشيوخ، وهنا تفجرت أول المعارك الدستورية بين حكومة الوفد والملك فؤاد، فقد أراد فؤاد أن يختار الأعضاء المعينين، وأصر سعد أن هذا حق الحكومة، مستندًا إلى الدستور الذي ينص على أن الوزارة هي المهيمنة على شؤون الدولة وأن الملك لا يباشر سلطاته إلا بواسطة وزرائه، ولجأ الملك وسعد للتحكيم القانوني، فجاءت فتوى البارون فان دي بوش، تؤيد رأي سعد فانتصرت إرادة الأمة.

 وفي يوم 15 مارس سنة 1924 انعقدت جلسة البرلمان التي ألقى فيها سعد زغلول خطاب العرش معلنًا فيه خطة حكومته، وقال في بدايته للنواب والشيوخ: "أحيى فيكم ممثلي شعبي الكريم، وأهنئكم منتخبين ومعينين بالثقة العظمى التي حزتموها لتؤلفوا أول برلمان مصري تأسس على المبادئ العصرية، وأحمد الله أن تحققت بتأسيسه أمنية من أعز أمانيّ وأول رغبة من رغبات أمتي الشريفة، اليوم تدخل في دور التنفيذ النظامات النيابية التي قررها الدستور ولا ريب في أنها تبشر بإقبال عصر جديد من القوة والسعادة على بلادنا المحبوبة".
 لقد نجحت ثورة 1919 في أن تصل برجالها إلى البرلمان ومقاعد الوزارة، ورغم البداية القوية للحكومة ولبرلمان 1924 إلا أن حادثة اغتيال السير لي ستاك سردار الجيش البريطاني انتهت باستقالة حكومة سعد زغلول، وتعيين زيوار باشا الموالي للملك والمهادن للإنجليز رئيسا للوزراء، وسرعان ما حل البرلمان وأجرى انتخابات شهدت ضغوطًا شديدة وتدخلًا من جهة الإدارة، ومع ذلك حقق فيها الوفد أغلبية بلغت 116 نائبا مقابل 87 نائبًا لباقي الأحزاب؛ الأمر الذي دفع الحكومة لحل البرلمان بعد ساعات من انعقاد أولى جلساته وانتخاب سعد زغلول رئيسًا له، ومن هنا بدأ مسلسل الانقلابات الدستورية وتزوير الانتخابات الذي أتقنه الملك فؤاد طوال فترة حكمه، وصار عليه ابنه فاروق من بعده.
برلمان السلطة
 في مقابل برلمان 1924 الذي جاء معبرًا عن الثورة كان برلمان إسماعيل صدقي سنة 1931 برلمان السلطة المعادي للشعب المغتصب لإرادته.
 كان فؤاد قد ضاق منذ اللحظة الأولى بالدستور الذي قيد سلطاته، وأقر مبدأ رقابة الأمة من خلال ممثليها المنتخبين على سلوك الحكومة وممارساتها، ومنح الشعب سلطة التشريع من خلال نوابه، وصان الحريات العامة للمواطنين وحافظ على حرمة حياتهم الخاصة، وأرسى مبدأ الفصل بين السلطات.

 وخلال السنوات التي تلت صدور الدستور قاد فؤاد ثلاثة انقلابات دستورية، أولها في مارس 1925، عندما عطل الحياة النيابية لمدة عام وشهرين تقريبًا، ثم عطلها مرة ثانية من يوليو 1928 إلى أكتوبر 1929، وفي المرتين كان لتضامن الحزبين الكبيرين الوفد والأحرار الدستوريين وقيادتهما للنضال الشعبي دورًا أساسيًا في عودة الحياة البرلمانية سريعًا، إلا أن ثالث تلك الانقلابات الدستورية وأخرها في عهد فؤاد كان الأخطر والأطول والأشد تأثيرًا، وقد وقع ذلك الانقلاب الدستوري بعد أقل من عام من عودة الحياة البرلمانية في أكتوبر 1929، وكان مصطفى النحاس باشا قد شكل الوزارة في الأول من يناير سنة 1930، ودخلت الحكومة في مفاوضات فاشلة مع الإنجليز حيث رفض النحاس باشا تقديم تنازلات لهم في تلك المفاوضات، الأمر الذي أثار غضبهم ودفعهم إلى تأييد الملك في انقلابه الدستوري الجديد، أما الملك فقد كانت دوافعه للإطاحة بالنحاس وبالدستور عديدة، لكن الصدام الأكبر مع الملك جاء لسببين الأول تدخله في اختيار أعضاء مجلس الشيوخ المعينين ضاربًا عرض الحائط بأحكام الدستور التي كانت تعطي للحكومة حق ترشيح الأسماء وللملك حق إصدار القرار فقط، وكان هذا الأمر مسار نزاع دائما بين السرايا والحكومة خاصة في ظل حكومات الوفد التي كانت تصر على التمسك بحقوقها الدستورية، وعلى أن تجعل من مصر ملكية دستورية يتراجع فيه دور الملك المباشر في السياسة لحساب الحكومة المؤيدة من البرلمان.


 أما الأمر الثاني فكان مشروع قانون محاكمة الوزراء الذي أصرت حكومة النحاس باشا على إصداره متضمنًا نصوصًا تقضي بعقاب الوزراء الذين ينقلبون على دستور الأمة أو يحذفون حكمًا من أحكامه أو يغيرونه بغير الطريق الذي رسمه الدستور، أو يخالفون حكمًا من أحكامه الجوهرية، فضلًا عن محاكمة أي وزير يبدد أموال الدولة العامة، وكان غرض الحكومة صيانة النظام الدستوري وحمايته من العبث والانقلابات، وقد رفض فؤاد توقيع مرسوم إحالة القانون إلى البرلمان لمناقشته.
 عندئذ قدم النحاس استقالة حكومته في 17 يونيو 1930، وأكد فيها أن سببها عدم تمكنه من تنفيذ برنامجه، واتجه النحاس باشا إلى مجلس النواب وأعلن أن الوزارة قدمت استقالتها وحدد أسباب الاستقالة، وغادر البرلمان، إلا أن المجلس قرر بعد مناقشة قصيرة تجديد الثقة بالحكومة.


 لكن فؤاد قبل استقالة الوزارة يوم 19 يونيو، وفي اليوم التالي كلف إسماعيل باشا صدقي بتشكيل الوزارة، لينفذ نية الملك المبيتة بالتعدي على دستور الأمة ويغتال حقوقها التي اكتسبتها عبر نضال طويل، فأصدر مرسومًا بتأجيل اجتماع البرلمان شهرًا، اعتبارًا من يوم 21 يونيو، أي اليوم التالي لتأليفه الوزارة، فهو يعلم أن مجلس النواب كان قد جدد الثقة بحكومة النحاس باشا المستقيلة، وإنه لن يمنح حكومته الثقة، ولكن رئيسي مجلسي البرلمان ويصا واصف وعدلي يكن أصرا على حق المجلسين في الانعقاد في الموعد المحدد من قبل ليتلا مرسوم التأجيل على النواب كما تقضي بذلك الأعراف الدستورية، وبدأت الأزمة تتصاعد عندما وجه صدقي خطابًا إلى ويصا واصف يبلغه فيه بأنه غير مسموح لأي عضو من أعضاء مجلس النواب بالحديث بعد تلاوة مرسوم تشكيل الحكومة ومرسوم تأجيل انعقاد البرلمان، وينذره فيه باتخاذ الوسائل الكفيلة بضمان ذلك، لكن ويصا واصف الذي كان يعتبر نفسه ممثلًا للأمة يستمد منها سلطته، رد على الإنذار ردًا حاسمًا، جاء فيه: "إنه ليس من حق الحكومة أن توجه إلى رئيس مجلس النواب مثل هذا الخطاب لما فيه من تدخل السلطة التنفيذية في إدارة جلسات المجلس".

 وجاء رد صدقي بمحاصرة البرلمان وإغلاق أبوابه بالسلاسل الحديدية يوم 23 يونيو 1930، ومع ذلك فقد اتجه النواب والشيوخ إلى مبنى البرلمان في الموعد المحدد وأصدر ويصا واصف أوامره إلى حرس البرلمان بتحطيم السلاسل الحديدية بالبلط، وعرف الرجل من يومها باسم محطم السلاسل.


 ودخل النواب إلى مجلسهم وعقدوا الجلسة، ووجه عدلي باشا يكن رسالة احتجاج شديدة اللهجة إلى رئيس الحكومة.


 وبعدها بثلاثة أيام أي في يوم 26 يونيو عقد أغلبية أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب وعدد من أعضاء مجالس المديريات اجتماعًا بمقر النادي السعدي ـ النادي السياسي للوفديين ـ وأصدروا بيانًا أقسموا فيه على الدفاع عن الدستور ومقاومة كل اعتداء يقع عليه، واتفقوا على عدم التعاون مع الحكومة، وفي الأسابيع التالية تصاعدت موجات الاحتجاج في مختلف مدن مصر، وتصدى النظام لها بالقوة المسلحة مستعينًا بالجيش إلى جانب الشرطة، فسقط عشرات الشهداء دفاعًا عن الدستور.
 وفي يوم 12 يوليو استصدرت الحكومة من الملك مرسومًا بفض الدورة البرلمانية بالمخالفة للدستور، فالبرلمان لم يكن قد أقر الميزانية بعد ولم يكن قد أمضى في دورته 6 أشهر كما ينص على ذلك دستور 23، وعاودت الحكومة إغلاق مبنى البرلمان واحتلاله بالقوة المسلحة، رد النواب بتقديم عريضة إلى الملك يطلبون منه دعوة البرلمان إلى اجتماع غير عادي يوم السبت 26 يوليو سنة 1930 لاستجواب الوزارة والاقتراع على الثقة بها، لكن الملك لم يستجب بالطبع، فعقد النواب اجتماعهم للمرة الثانية في النادي السعدي.
 وفي يوم 21 سبتمبر 1930 قدم النواب عريضة ثانية إلى الملك يطالبونه فيها بدعوة البرلمان للانعقاد في اجتماع غير عادي في أقرب وقت للنظر فيما عرضته الوزارة من تعديل قانون الانتخاب، واتخاذ القرار الذي يراه المجلسان في ذلك، وذكروا في عريضتهم أن النواب في اجتماعهم السابق يوم 26 يوليو 1930 كانوا قد أصدروا قرارا بعدم الثقة بالوزارة، الأمر الذي يوجب استقالتها.
 ولم تأبه الحكومة برأي الأمة، ولا بمعارضة النواب من الوفد حزب الأغلبية، ولا حتى برأي أصدقائها القدامى الأحرار الدستوريين الذين أصدروا بيانًا يطالبون فيه بألا يمس التعديل لقوانين الانتخاب الأسس الدستورية، وأخبر صدقي الجميع في صورة إنذار نهائي بأنه اتفق مع الملك على إصدار دستوره الجديد، ومضى صدقي إلى نهاية الشوط فأعلن إلغاء دستور الأمة واستبدال به دستور الملك، وصدر بذلك المرسوم الملكي بتاريخ 22 أكتوبر سنة 1930. كما صدر في اليوم نفسه قانون الانتخاب الجديد، وصدر الأمر بحل مجلسي النواب والشيوخ القائمين.
 رغم اتساع المعارضة وانضمام بعض رجال السرايا الذين شاركوا فؤاد من قبل في انقلاباته الدستورية إليها مثل زيوار باشا فإن حلف صدقي وفؤاد استمر في خطته، وتمت الانتخابات في يونيو 1931، تمت على أساس دستور الملك وقانون الانتخابات الذي سلب الشعب إرادته وحقوقه.
 وليس هناك أفضل من وصف عبد الرحمن الرافعي لتلك الانتخابات، وقد اخترت الرافعي تحديدًا لأنه ينتمي إلى الحزب الوطني الذي لم يقاطع تلك المهزلة، فشهادته إذنً ليست مجرحة، قال الرافعي:
 "قاطعت الأمة هذه الانتخابات مقاطعة تامة، أشبهت في روعتها واتساع مداها مقاطعة الأمة للجنة ملنر سنة 1919، بل إن تضحيات البلاد من القتلى والجرحى في هذه الانتخابات كانت أعظم وأكبر من تضحياتها في مقاطعة لجنة ملنر، وقد عمدت الحكومة إلى تزوير عملية الانتخابات، فأوعزت إلى لجان الانتخاب أن تزور محاضرها، بحيث تثبت فيها حضور الناخبين كذبا وزورا، وبذلك تمت هذه المهزلة بل هذه المأساة الانتخابية وكانت سابقة خطيرة اتبعتها الإدارة كلما أرادت الحكومة اصطناع برلمان صوري".
 لقد نجح صدقي في تشكيل برلمانه المزور على حساب مئة شهيد مصري ومئة وخمسة وسبعون جريحًا من بين عشرات الآلاف الذين خرجوا إلى الشوارع ليتصدوا للتزوير، وجاء البرلمان ليقر بعد عام واحد من تشكيله اتفاقية التنازل عن واحة جعبوب في الصحراء الغربية لإيطاليا التي كانت تحتل ليبيا وقتها، وهي الاتفاقية التي وقعها زيور باشا سنة 1925 ورفضت جميع البرلمانات على مدى 7 سنوات التصديق عليها، كما شدد العقوبة في قضايا النشر، وبدأت سنوات من اضطهاد الوطنيين وأنصار الديمقراطية في مصر والتنكيل بهم ما بين سجن واعتقال وإبعاد عن الوظائف وملاحقة في لقمة العيش.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...