الاثنين، 27 يونيو 2016

في ذكرى رؤوف عباس

 أمس كانت الذكرى الثامنة لأستاذنا الدكتور رؤوف عباس، أعيد نشر ما كتبته عنه يوم رحيله سنة 2008 في مقالي الأسبوعي بجريدة الدستور...



مخربشات
رؤوف عباس ... المؤسس
عماد أبو غازي

 توقفت كثيرًا عند اختيار الزاوية التي أتناول منها رؤوف عباس في هذا المقال، فكرت في البداية أن يكون مدخلي للحديث عن مؤرخنا الراحل الكبير رؤوف عباس تأسيسه لمدرسة جديدة في الدراسات العثمانية، لكني تدراكت؛ فدوره الرائد في مجال دراسات تاريخ مصر الاجتماعي أقدم بكثير من اهتمامه بالتاريخ العثماني، وانتبهت كذلك إلى أن إسهام رؤوف عباس يتجاوز بكثير دوره الأكاديمي ليمتد إلى العمل العام في الدفاع عن استقلال الجامعة من خلال عضويته في حركة 9 مارس، كما يمتد لمؤسسات عدة خارج الجامعة، ما بين الجمعية المصرية للدراسات التاريخية ودار الوثائق القومية وغيرها من المؤسسات.


 عرفت رؤوف عباس حامد للمرة الأولى كما عرفه الكثيرين من أبناء جيلي، من خلال كتابه المهم عن الحركة العمالية في مصر، الذي صدر سنة 1968، وقد تعرفت على الكتاب بعد صدوره بعدة سنوات عندما التحقت بكلية الآداب سنة 1972، وكان وقتها دراسة أكاديمية رائدة تفتح مجالًا جديدًا في دراسات التاريخ الاجتماعي، وتؤسس لمدرسة مصرية لدراسة تاريخ الطبقات الاجتماعية والتجليات السياسية لنشاط تلك الطبقات وحركتها في المجتمع، من خلال دراسة تاريخ الطبقة العاملة المصرية.
 ثم أتبع كتابه الأول بكتاب ثان عن النظام الاجتماعي في مصر في ظل الملكيات الكبيرة، صدر سنة 1973، فجمع بذلك بين دراسة قمة المجتمع المصري وقاعة في مرحلة ما قبل انقلاب يوليو 1952، ودشنه كتابه الثاني رائدًا لمدرسة التاريخ الاجتماعي لمصر في العصر الحديث بلا منازع.
 كان الكتابان في الأصل رسالتي الماجستير والدكتوراه، وقد حصل على الرسالتين من جامعة عين شمس تحت إشراف أستاذه الدكتور أحمد عزت عبد الكريم، الذي جعل من شعبة التاريخ الحديث في جامعة عين شمس مدرسة متميزة في الجامعات المصرية كلها، وكان رؤوف عباس نتاجًا لهذه المدرسة.
 وقبل أن ينتهي عقد السبعينيات من القرن الماضي كان رؤوف عباس قد أضاف كتابين جديدين إلى المكتبة التاريخية المصرية، مذكرات محمد فريد الذي صدر عام 1975، والحركة العمالية المصرية في ضوء الوثائق البريطانية 1924 ـ 1937، ليطرق من جديد في كتابه الأخير هذا موضوعه الذي ظهر به على ساحة الكتابة التاريخية، موضوع تاريخ الحركة العمالية في مصر، ثم أضاف إليها عملًا مترجما تأسيسيا في مجال دراسات التاريخ الاقتصادي الاجتماعي عندما ترجم كتاب موريس دوﭖ "دراسات في تطور الرأسمالية" إلى اللغة العربية سنة 1978.
 وخلال عقد السبعينيات أيضا بدء رؤوف عباس في نشر عدد من الدراسات المهمة في الدوريات العلمية المتخصصة، واستمرت دراساته وأبحاثه تنشر في الدوريات المصرية والعربية والأجنبية يفتح في كل منها مجالًا جديدًا، وكان من المجالات المهمة التي تطرق إليها في دراساته تجربة النهضة اليابانية، والتي بدأ الاهتمام بدراستها بعد رحلته لليابان التي قام خلالها بالتدريس في الجامعات اليابانية، وكانت دراساته حول التجربة اليابانية موضوعًا من موضوعات دراسة التاريخ المقارن التي انشغل بها رؤوف عباس، واستمرت علاقته بتاريخ اليابان من خلال عدد من الدراسات والترجمات، كما تواصل اهتمامه بالتاريخ المقارن ونظم بالتعاون مع صديقه المؤرخ الأمريكي بيتر جران حلقة بحثية لشباب الباحثين في التاريخ حول التاريخ المقارن لمصر والشرق الأوسط، كانت مجالًا مفتوحًا لتبادل الخبرة والرؤى بين عدد من الباحثين المهتمين بدراسة التاريخ المقارن.
 ورغم أن رؤوف عباس حصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة عين شمس إلا أنه انتقل للعمل في جامعة القاهرة فنقل إليها تقاليد جديدة وأسس فيها مدرسة تاريخية تنتمي إليه بحق؛ وأهم ملامح تلك المدرسة اهتمامها بدراسة تاريخ مصر في العصر العثماني في ضوء المصادر الجديدة التي أصبحت متاحة للباحثين، وفي هذا الصدد يصف رؤوف عباس في مقدمته للترجمة العربية لكتاب نللي حنا "ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية" موقف جيله من المؤرخين تجاه العصر العثماني بقوله: "ضيعنا ثلاثة قرون كاملة من تاريخنا، جريًا وراء أفكار نظرية صدرها لنا من وصفوا تلك القرون بأنها عصر جمود وركود وتخلف، وكنا ـ في الستينات والسبعينات ـ نطبق تلك النظريات على تاريخنا، أو ـ بعبارة أدق ـ نصب تاريخنا في قوالبها صبًا ما دمنا قد سلمنا بما غلب على تلك القرون الثلاثة من جمود وركود وتخلف ثقافي"، ويعود فيفسر انتشار هذه الأفكار بسرعة وسهولة بالدور المهم لمصر في عصر المماليك السابق على العصر العثماني، وفي العصر اللاحق عليه، أي عصر محمد علي، فيقول: "هذا الوضع السياسي المتواضع، قياسًا بالعصرين السابق واللاحق ـ من حيث الدور الإقليمي ـ حَوَّل العصر العثماني إلي مجرد "جملة اعتراضية" في تاريخ مصر العريق، وركزت الدراسات الأكاديمية اهتمامها على ما سبقه ولحق به، ولم يحظ إلا باهتمام محدود"، وبغض النظر عن تلك القضية الشائكة فإن رؤوف عباس نجح في توجيه عدد من طلابه إلى هذا الحقل كان أولهم وأبرزهم محمد عفيفي الذي أنجز دراساتين من أهم الدراسات حول تاريخ مصر العثمانية تحت إشراف رؤوف عباس، الأولى عن الأوقاف والثانية عن الأقباط في مصر العثمانية، وكان أحدث هؤلاء التلاميذ وأقربهم إلى أستاذه، ناصر إبراهيم الذي درس تحت إشراف رؤوف عباس "المجاعات والأوبئة في مصر العثمانية" كما درس "الإدارة في زمن الحملة الفرنسية"، وقد حول رؤوف عباس المدرسة إلى مؤسسة من خلال إشرافه على سمينار التاريخ العثماني الذي بدأ في قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة ثم انتقل إلى الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وأصبح اليوم مؤسسة راسخة يسعى الباحثون إلى إثبات ميلادهم في حقل الدراسات العثمانية من خلالها.

في ندوة مصر العثمانية ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ خريف 2007 مع د.خالد أرن وفرحان صالح 
 وما دام الحديث قد قادنا إلى الجمعية المصرية للدراسات التاريخية فلاشك أن أي دارس لتاريخ المؤسسات العلمية والثقافية في مصر سوف يتوقف طويلًا عند دور رؤوف عباس في إحياء هذه المؤسسة والانطلاق بها إلى وضع جديد يليق بتاريخها الطويل منذ تولى رئاستها في عام 1999.

 لقد كان رؤوف عباس حامد الذي ولد في بورسعيد في 24 أغسطس سنة 1939 ورحل من القاهرة في 26 يونيو سنة 2008 رجلًا حرفته البناء والتشييد، بناء البشر وتشييد المؤسسات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...