قناة
السويس تاريخ من المغامرة (1)
ده الجزء الأول من مقالي في الكتاب الجديد اللي أصدره الأهرام عن قناة السويس
عماد
أبو غازي
في السادس والعشرين من يوليو من كل عام
تحتفل مصر بذكرى قرار تأميم شركة قناة السويس، ذلك القرار الذي غير تاريخ مصر
والمنطقة العربية، بل يمكن أن نقول بلا مبالغة أنه كان قرارًا مؤثرًا على المستوى العالمي،
بحيث يمكن أن نعتبره حدثًا من أهم أحداث القرن العشرين، ومازالت آثار هذا القرار
ماثلة بيننا إلى الآن.
لقد منح قرار التأميم لعبد الناصر ـ صاحب القرار
المغامرة ـ شعبية جارفة وشرعية جماهيرية لم تتحقق له قبل ذلك اليوم، فلم يلق إجراء
من الإجراءات التي اتخذها مجلس قيادة الثورة أو الحكومات المتعاقبة التي توالت على
مصر منذ وصلت حركة الضباط الأحرار إلى السلطة من التأييد مثلما لقي قرار تأميم
قناة السويس. لقد حقق عبد الناصر بذلك القرار الحلم الذي ظل يراود المصريين قرابة
تسعين عامًا، لذلك فقد رحب المصريون بالقرار رغم ما كان متوقعًا من سخط الدول
الغربية على مصر بسببه، ورغم ما كان متوقعًا من أن يجلبه على البلاد من
"عواقب وخيمة".
وقد جاء رد الفعل الغربي بعد شهور قليلة عندما تعرضت مصر
للعدوان الثلاثي الغاشم ـ كما تعودنا أن نصفه في طفولتنا ـ ذلك العدوان الذي بدأ
في الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر من السنة نفسها باحتلال إسرائيل لشبه جزيرة
سيناء، وأعقبه احتلال إنجليزي فرنسي لمنطقة القناة بدعوى تأمين القناة والفصل بين
الطرفين المتحاربين.
نعود إلى قرار التأميم، ففي يوم 26 يوليو 1956،
وبمناسبة الذكرى الرابعة لمغادرة الملك فاروق لمصر بعد تنازله عن العرش، تلك
المناسبة التي كان قادة نظام يوليو يحتفلون بها في الإسكندرية التي غادر منها
فاروق البلاد، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر في كلمات محددة ضمن خطابه الذي ألقاه
في ميدان المنشية قرار تأميم شركة قناة السويس وتحويلها إلى شركة مساهمة مصرية.
وقد عبر الشعراء عن هذا الحدث المهم في تاريخنا الوطني بعشرات القصائد، بالنسبة لي
أجملها ما عبر به الشاعر والفنان المبدع صلاح جاهين عن مشاعر الشعب الجياشة تجاه
التأميم في قصيدته الطويلة "موال للقنال" قائلًا:
ياسايق
الغليون
عدي القنال
عدي
وقبل ما
تعدي
خد مننا
وأدي
ده اللي فحت
بحر القنال جدي
بحر القنال
يا كترها رماله
وجدنا ...
فوق الكتاف شاله
بحر القنال
اتبدلت حاله
وجدنا متهني
بعياله
واحنا على
الشطين
مفتحين
العين
عارفين
طريقنا منين
واللي
صديقنا فين
يا سايق
الغليون
دي
أرضنا وأرضنا لينا
ضرب
الرصاص للي يعادينا
دي
أرضنا وتربها أجددنا
ضرب
الرصاص للي يعاندنا
لم يكن قرار تأميم شركة قناة السويس نهاية
المطاف في قصة مصر مع القناة، بل كان بداية لمرحلة جديدة من الكفاح دفاعًا عن القناة
عاشها أبناء جيلنا كاملة وما زلنا نعيشها إلى اليوم، كما لم يكن بالطبع بداية
القصة فتاريخنا مع القناة طويل ممتد، وكله تاريخ من المغامرة والمقامرة، كان الشعب
المصري دائمًا بطلها.
وقد عبرت المذكرة الإيضاحية لقرار التأميم عن
هذا التاريخ الطويل مع القناة في عبارة موجزة جاء فيها: "بالدماء المصرية
شُقت قناة السويس لتخدم الملاحة البحرية"، وهذه حقيقة تاريخية عادت المذكرة
ففصلت ما أجملته لتبرهن عليها: "إنه من عام 1859 حتى عام 1864 مضت خمس سنوات
سخر فيها المصريون دون أجر أو شكر لحفر القناة، وأن ستين ألفًا من المصريين كانوا
يُخصصون شهريًا لهذه الخدمة في وقت لم يتجاوز فيه تعداد جميع المصريين أربعة
ملايين، ولقد مات من هؤلاء العمال تحت الانهيارات الرملية ما يزيد على المئة ألف
دون دفع أي تعويض عنهم أو جزاء، كما قامت الجهود المصرية في كل من ترسانة القاهرة
وترسانة الإسكندرية بإعداد المشروعات اللازمة لإكمال حفر القناة، ووُضعت جميع
وسائل النقل البري والنهري في خدمة الشركة بالمجان، ومنحتها الحكومة جميع الأراضي
والمناجم اللازمة، ولم تكتف الحكومة المصرية بذلك، بل ساهمت مساهمة جبارة في تمويل
عمليات حفر القناة، فقد بدأت الشركة برأس مال لا يتجاوز نصف مليون من الجنيهات،
بينما تكلف إنشاء القناة ما يزيد على الستة عشر مليون جنيه، وتحملت مصر بهذا الفرق
جميعه".
لقد كانت تلك مبررات أوردتها المذكرة الإيضاحية
لقرار التأميم الذي أيده الشعب رغم ما حمله من مخاطر وما كان واضحا فيه من روح المغامرة،
فكيف تكون لدى المصريون الإحساس بأهمية هذا القرار وضرورته؟
إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب العودة إلى
الوراء أكثر إلى بداية مشروع القناة.
لقد بدأت
قصة مشروع قناة السويس في عهد سعيد باشا، عندما حصل المهندس الفرنسي فرديناند
دليسبس في 30 نوفمبر 1854 على عقد امتياز تأسيس شركة عامة لحفر قناة السويس
واستثمارها لمدة 99 سنة تبدأ من تاريخ افتتاح القناة للملاحة، وكانت شروط العقد
مجحفة بمصر.
ويروي دليسبس كيف حصل على امتياز القناة من
صديقه القديم سعيد باشا عقب توليه حكم مصر، بعد شهر من تقديمه للمشروع، عندما عرض
عليه الفكرة أثناء رحلة عبر الصحراء من الإسكندرية إلى القاهرة، فيقول: "بعد
أن قبل سعيد باشا المشروع استدعى قواد جنده، ودعاهم إلى الجلوس أمامه، وقص عليهم
الحديث الذي دار بيننا، وطلب منهم أن يبدوا رأيهم في مشروع صديقه، فلم يكن من
هؤلاء المستشارين وقد فاجئهم هذا الاقتراح، وهم أقدر على إبداء الرأي في مناورات
الخيل منهم في التكلم عن مشروع عظيم لا يستطيعون فهم مراميه، إلا أن نظروا إلي
بملء أعينهم، كأنما يريدون إفهامي أن صديق مولاهم الذي رأوه يقفز على الحواجز
ممتطيًا جواده بمهارة فائقة لا يمكن إلا أن يدلي إلا بآراء صائبة، وكانوا أثناء
الحديث يرفعون أيديهم إلى رءوسهم بين آن وآخر".
وكان دليسبس أثناء رحلته مع سعيد باشا من
القاهرة إلى الإسكندرية قد أبدى مهارة في ركوب الخيل واجتياز الموانع الطبيعية في
الصحراء وهو ممتطيًا جواده، مما أثار إعجاب حاشية سعيد باشا وقادة جيشه بالصديق
الأجنبي لمولاهم.
وفي موضع آخر يذكر دليسبس أثر إعجاب هؤلاء
القادة بفروسيته على قرارهم بالموافقة على مشروعه، تلك الموافقة التي لم تستغرق
سوى أسابيع قليلة من الدراسة، لم تصل إلى شهر، في بلد كانت تتميز بيروقراطيته
ونخبته العسكرية بالبطء القاتل في اتخاذ القرار، فما سر هذه السرعة المذهلة؟
يقول
دلسيبس: "جمع سعيد باشا قواد جنده، وشاورهم في الأمر، ولما كانوا على استعداد
لتقدير من يجيد ركوب الخيل ويقفز بجواده على الحواجز والخنادق أكثر من تقديرهم
للرجل العالم المثقف انحازوا إلى جانبي، ولما عرض عليهم الباشا المشروع بادروا إلى
القول بأنه لا يصح أن يرفض مشروع صديقه، وكانت النتيجة أن منحني الباشا ذلك
الامتياز العظيم".
بهذه البساطة حصل دليسبس على امتياز شق القناة،
بهذه البساطة كانت النخبة الحاكمة تتخذ قرارًا يحدد مصير الوطن لسنوات طويلة. رغم
أنه نفس المشروع الذي رفضه محمد علي باشا قبلها بسنوات عندما عرضه عليه السان
سيمونيون، وهم أتباع حركة إصلاحية ذات توجهات اجتماعية استعان بهم الباشا في تحديث مصر وفي مشروعات
إقامة البنية الأساسية الحديثة في البلاد، وكان مبرره في الرفض الخوف من أن تزيد
القناة من المطامع الدولية في مصر، الأمر الذي تحقق بالفعل.
وبعد انتهاء مرحلة الدراسات التمهيدية للمشروع
التي استغرقت عامًا وبضع أسابيع تم تعديل عقد الامتياز في 5 يناير سنة 1856 بشروط
أكثر إجحافًا بمصر.
وفي 25 إبريل سنة 1859 توجه دليسبس بصحبة أعضاء
مجلس إدارة الشركة إلى شاطئ البحر المتوسط بالقرب من الفرما، عند الموقع الذي
أُنشئت فيه مدينة بورسعيد بعد ذلك، وفي احتفال كبير ضرب الرجل أول معول في الأرض
إيذانا ببداية حفر قناة السويس، الحفر الذي استغرق أكثر من عشر سنوات، ضرب فيها مئات الآلاف من الفلاحين
المصريين ملايين المعاول، في ظروف عمل غير إنسانية وأوضاع قاسية، سقط عشرات الآلاف
من الفلاحين، وتكبدت الخزانة المصرية أعباءً مالية جسيمة بلغت أكثر من ستة عشر
مليون جنيه.
بعد تلك السنوات العشر افتتح الخديوي إسماعيل
قناة السويس في احتفال تاريخي بدأ من مدينة بورسعيد يوم 16 نوفمبر سنة 1869، لتبدأ
مرحلة جديدة من تاريخ مصر وعلاقاتها الدولية.
لقد أعاد مشروع قناة السويس مصر مرة أخرى إلى
قلب الصراع الدولي، فبعد أن كانت أمور البلاد قد استقرت في أعقاب معاهدة 1840،
عادت مصر مرة أخرى مسرحًا للتنافس الاستعماري وصراع المصالح بين الدول الأوروبية
الكبرى.
وقد دفع هذا الوضع كثيرًا من الساسة والمؤرخين
المصريين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى القول بأن مشروع القناة
كان نقمة على البلاد، بل أنه كان المسئول الأول عن أزمة الديون التي انتهت
بالاحتلال البريطاني لمصر.
ومنذ الإعلان عن عقد الامتياز تنبه القنصل
الإنجليزي في مصر مستر بروس إلى أن حفر القناة "سيؤدي إلى ازدياد المواصلات
التجارية بين أوروبا وبلاد الشرق، وسيترتب على ذلك أن تنشأ مراكز قانونية للدول
الأجنبية في هذه البلاد، وسيؤدي هذا الوضع إلى أن تحدث منازعات بين تلك المراكز
وشعوب الشرق، وسوف تكون هذه المنازعات ذريعة تتيح للدول الأوروبية التدخل المسلح
والاحتلال الدائم للبلاد...".
وقد صدق بالفعل توقع القنصل الإنجليزي، فبدأ
التنافس البريطاني الفرنسي على مصر من جديد، وبدأ التدخل الأجنبي في شئون البلاد،
ذلك التدخل الذي انتهى بالاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882.
بل إن القناة لعبت دورًا مهمًا في نجاح القوات
البريطانية في احتلال مصر، فبعد الهزائم المتوالية التي تلقاها الجيش البريطاني
على الجبهة الشمالية الغربية بين الإسكندرية وكفر الدوار، بدأ القائد البريطاني
ولسلي يخطط للانقضاض على مصر من جهة الشرق، عبر قناة السويس، وكانت بريطانيا قد
مهدت للهجوم من جبهة الشرق عندما تحججت بترميمات طابية الجميل بالقرب من بور سعيد
لتقتحم إحدى سفن أسطولها القناة من جهة الشمال وتخترقها حتى بحيرة التمساح في
الأسبوع الأخير من يوليو 1882، وبعدها بأيام كانت سفن الأسطول البريطاني القادمة
من الهند قد بدأت تلقي مراسيها في السويس لتكمل احتلال المدينة في الثاني من
أغسطس، تحتلها باسم الخديوي الخائن الذي باع البلد من أجل عرشه، لكن التحرك الكبير
في اتجاه احتلال القناة بدأ مع توالي الهزائم في كفر الدوار، فخلال ثلاثة أيام من
20 إلى 22 أغسطس احتلت القوات البريطانية منطقة القناة بالكامل وأغلقتها أمام
السفن التجارية، وسيطرت على السكة الحديد بين السويس والإسماعيلية وعلى الترعة
التي تغذي المنطقة بالمياه العذبة. وبعد السيطرة على القناة لم يضع الإنجليز
وقتًا، فبدأ زحفهم تجاه الغرب من يوم 23 أغسطس، وتساقطت المواقع المصرية بسرعة
موقعًا بعد موقع، إلى أن تم احتلال القاهرة في 14 سبتمبر 1882.
وكان
أحمد عرابي قد وقع في خطأ فادح بعدم قيامه بسد القناة أو إغلاقها وتعطيل الملاحة
فيها، لقد صدق عرابي وعد ديلسيبس له بالحفاظ على حياد القناة وعدم السماح للقوات
البريطانية بدخول مصر عبرها، ولم يأخذ عرابي بنصيحة معاونيه وأركان جيشه، ولو كان
عرابي أغلق القناة لأعاق تقدم الجيوش البريطانية، ويقول جون نينيه رئيس الجالية
السويسرية في مصر وصديق عرابي في كتابه "عرابي باشا": "إن بساطة
عرابي جعلته يرتكب أغلاطًا كبيرة ظهرت عواقبها فيما بعد، فبمقدار ما بذل من الهمة
في الدفاع عن الإسكندرية وتحصين خطوط الدفاع في كفر الدوار بحيث امتنعت على
الإنجليز، قد أظهر منذ بداية المعارك غفلة بالغة إذ استمع إلى النصائح الكاذبة
التي خدعه بها المسيو فردينان دلسبس حين زعم أن الإنجليز لا يمكن أن يتعرضوا للعمل
الفرنسي، فامتنع عرابي عن سد القناة في الوقت المناسب واستمسك برأيه رغم ما كانت
تحتمه الخطط الفنية الحربية، ورغم ما ارتآه زملاؤه وما ارتأيته أنا، وكررته عشر
مرات، تارة بالقول القارس وطورًا بالكتابة في وجوب سد القناة، ورغم كل ذلك أصر
عرابي على رأيه، فمهد للجنرال ولسلي نصرًا من أسهل ما عرف في تاريخ المعارك".
وطوال سنوات الاحتلال التي جاوزت السبعين سنة،
وخلال كل المفاوضات التي دارت بين الحكومات المصرية المتعاقبة والحكومة البريطانية
كانت قناة السويس وحماية الملاحة الدولية فيها من القضايا الشائكة المعقدة التي
تؤدي دومًا بالمفاوضات إلى طريق مسدود.
لقد كان الوجود العسكري البريطاني حول قناة
السويس بدعوى تأمينها أمرًا مرفوضًا من المصريين الذين رأوا دائمًا ـ محقين في ذلك
ـ أنهم قادرون على حماية القناة والدفاع عنها، وكان المطلب المشروع الذي رفعته
الحركة الوطنية في مصر: "أن تكون القناة لمصر لا أن تكون مصر للقناة"،
الأمر الذي لم يتحقق إلا يوم التأميم.
يتبع...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق